معركة الكاتب مع أضلاع المربع الخمسة

أحمد المهنا يسأل: من لا يكره بغداد؟

معركة الكاتب مع أضلاع المربع الخمسة
TT

معركة الكاتب مع أضلاع المربع الخمسة

معركة الكاتب مع أضلاع المربع الخمسة

عندما صدر كتاب الصحافي والكاتب العراقي الراحل أحمد المهنا «الإنسان والفكرة»، عزز لدى قارئه معاني فكرية وأخلاقية عدة، من بينها أن الإنسان سابق على أي فكرة، إذ كل فكرة هي في خدمة الإنسان، وتكاد تكون هذه الثيمة هي ما يشغل بال المهنا في كل مقال وحوار ودردشة؛ منها يبدأ جدله ويستمر سجاله في بيئة عربية تأسست على تقديس الأفكار، حتى أن الإنسان العربي ذهب، ويذهب، ضحية عبادة الفكرة وتقديسها حتى الموت، لتحيا الفكرة ويموت الإنسان، وهذا ما حرثه المهنا وقلب تربته، ليستنبت ما هو مضاد للفكرة لصالح الفرد.
يكاد اليقين العقائدي يقوم بوظيفة الوسادة المريحة للرأس الباحث عن الراحة في وهم الحقيقة، لا الحقيقة نفسها.
لم أعرف أحمد المهنا إلا في بيروت عام 1979، عندما كنا لاجئين عراقيين على اللاجئين الفلسطينيين، ومنذ تلك اللحظة اللبنانية، كان المهنا يحرص على فرديته، مثلما يحرص على فردية الآخر، ويدعوه إلى احترامها والسهر عليها، في بيئة ثقافية تكرس الجمعي والحشدي والجماهيري، منطلقًا من حرية داخلية حصنته ضد السرديات الكبرى في حياتنا الثقافية والفكرية.
في كتابه الجديد «من لا يكره بغداد؟!»، يمضي هذا الكاتب إلى مبتغاه الذي صار أكثر وضوحًا: السعي إلى إجبار قارئه على أن يختلف معه، فهو كاتب لا يبحث عن «اتفاق الآراء»، ولا عن قارئ مصفق، بل يكافح لبلوغ منطقة الاختلاف، حيث يتلذذ بخوض لعبته العقلية، حيث مواجهة الفكرة بالفكرة الوجه الآخر للذة الكتابة وفتنة اكتشاف الذات خلال اكتشاف الآخر.
في هذا الكتاب الجديد تتناثر رؤية المهنا في مقالات قصيرة (هي أعمدة صحافية يومية) يرصد فيها وقائع الحياة السياسية والثقافية العراقية، منذ تأسيس الدولة العراقية في بداية عشرينات القرن الماضي حتى اليوم، وسط عواصف التاريخ ومجريات الصراع بين الأحزاب والمواقف والآيديولوجيات، يسارها ويمينها، مرورًا بالتيار العروبي وما أفرزه ذلك الصراع من عزلة عراقية عن العالم، عزلة قامت على ثنائية «العراقية» و«القومية»، تحت شعار «وطني»، في منافسة يراها المهنا «اتصفت بالمرارة الشديدة غالبًا، وبالعداوة أحيانًا، وفي الحالين عملت على تغذية الانقسام العراقي».
بينما اندرج الكثيرون منا تحت الرايات، خفّاقةَ أو منكسة، كان أحمد الشاب يرقبنا من مسافة ليست بعيدة جدًا، فهو ابن التجربة ذاتها، وإن كان فيها، لكن على حدة.. كان يرى إلينا، ومن يشبهوننا، بأننا لسنا ضحايا الديكتاتورية الحاكمة فحسب، بل ضحايا الفكرة المقدسة، على نبلها، أو نسبية نبلها.
يسجل لأحمد المهنا أنه اختار الجدل مع أصدقائه، حتى أولئك الذين يتقاطعون معه حول أفكاره بشأن الثقافة والسياسة، وما بينهما من كلام وأحلام ودماء ومنافٍ ويئوسات، على أن أصدقاء أحمد، من شلتنا على الأقل، هم ممن يختلفون معه في الثقافة والسياسة وما بينهما، فهل كان هؤلاء يرون فيه الوجه الأوضح لأقنعتهم، أم هو القناع الأقل وضوحًا لأوجههم؟
هل ثمة تواطؤ، غير معلن، بين أحمد وأصدقائه الذين أعنيهم هنا؟
بغداد وحيرة الملك فيصل الأول في أهلها الذين هم أصغر من بلدهم، وعبد الكريم قاسم الذي كانت عراقيته ضد «عروبتهم»، وصدام حسين وهو يرشو العالم كله كي يسمح له بأن يقود الأمة العربية!
ولأن الكتاب الذي يتكون من 270 صفحة (من القطع المتوسط)، ويجمع أعمدة صحافية يومية، كما أشرنا، فهو على غاية التنوع، لكنه ليس كتاب «منوعات»، إنما هو اشتغال مخلص على صورة بغداد في تحولاتها، صعودًا ونزولاً، من دون أن يغادر الكاتب «ثيمته» بشأن جدل الفردي والجماهيري، الذاتي والقطيعي، الإنساني والفكري، وهي ثيمة ليست عراقية فحسب، بل عربية، بل شرقية استبدادية، أو قل هي «عالمثالثية»، عند استهلاك الفكرة محليًا من دون تفحصها أو نقدها، أو على الأقل عدم الوثوق بها، إذ اليقين عدو كل اجتهاد واختلاف.
ثمة أوهام تحكم الناس، يقول المهنا، طبعًا تلكم ثقافة ليست شعبية، بل هي تحكم بعض النخبة أيضًا، ومنهم الساسة. يسوق الكاتب شيخنا المعري، مثالاً، «معلم الرحمة الأول في الحضارة العربية الإسلامية»، كما يصفه في كتابه.
«رأى المعري السلطة، في زمنه، مطمعًا أحاديًا للساسة، وأن الناس أسلحة عمياء تستخدم للاستحواذ على السلطة، هذا يريد إقناعهم بهذه الفكرة، وآخر يريد إقناعهم بفكرة أخرى، وهذه الفكرة وتلك إنما هي وسيلة لكسب المحاربين والمحازبين من أجل الاستيلاء على السلطة لا غير».
ما الحل، وتاريخ الأمم هو تاريخ الصراع على السلطة بين محاربين ومحازبين؟
أحمد المهنا يناور أيضًا، رغم وضوح أفكاره، فهو الذي ترك وطنه لكي لا يكون بعثيًا، وقبلها وبعدها هو ليس بالشيوعي ولا بالقومي ولا الإسلامي، وهو مربع الكابوس السياسي في العراق. إنه يدعي بأنه كاتب بلا قضية. يقول: «سئلتُ في إحدى الأمسيات إذا كانت لدي (قضية) بوصفي كاتبًا، فأجبت بالنفي». هو مثل جيمس دين في فيلمه «ثائر بلا قضية».. بينما المهنا هو في الحقيقة صاحب أكثر من قضية: أن يكون الكاتب العربي (العراقي ضمنًا) مستقلاً، فهو يقاتل على أضلاع المربع أربعتهما: الشيوعي والبعثي والإسلامي والقومي. وإذا حدث، فرضًا، أن انتصر، فهو سيستمر في معركته ليبقى مستقلاً، وهذه معركته مع الضلع الخامس للمربع.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.