شبح يجول في ليل العالم اسمه «الشعبوية»

شبح يجول في ليل العالم اسمه «الشعبوية»
TT

شبح يجول في ليل العالم اسمه «الشعبوية»

شبح يجول في ليل العالم اسمه «الشعبوية»

للتاريخ دوراته الغريبة، أو في الأقل تبدو كذلك من السطح. بدأ القرن العشرون بالحركة الاشتراكية التي استقطبت ملايين الناس في المعمورة، وعمّرت الأنظمة التي حكمت باسمها في نصف أوروبا أكثر من سبعين عامًا. وفي البلدان العربية وأفريقيا، ركب قطارها السريع الجنرالات عبر انقلابات عسكرية متتالية، ودهسوها في النهاية بالدبابات المجنزرة، وأدخلوها السجون المحصنة، بينما كانوا يهتفون باسمها في الشوارع. كانت فكرة جذابة من الصعب مقاومة إغرائها الساحر، ووعودها الكريمة بالسعادة والرخاء لبني البشر فوق هذه الأرض. أصبحت حلم الملايين، وسال دونها كثير من الدم.. وربما لا تزال حلمًا مستحيلاً.
مضت دورتها، وقد لا تعود قط. ولكن من يدري، فالتاريخ لا يسير في خط مستقيم.
وبموازاة ذلك، نمت النزعة النازية بسرعة عجيبة، مهددة بابتلاع العالم كله، ولم توقف زحفها سوى حرب كونية حصدت ملايين من أرواح البشر. من يحرك التاريخ؟ كيف تخرج فجأة من مكنوناته كل الأشباح التي تصورنا أنها تلاشت منذ زمن بعيد، وكيف تنهض من سباتها كل الوحوش التي توهمنا أنها نفقت بعدما عاثت بنا وفي الأرض خرابًا؟
بدا لسنين أن «نهاية التاريخ» حلت، وأن «الإنسان الأخير»، بتعبير منظر الليبرالية الغربية فرانسيس فوكوياما، قد تحقق، وأننا «وصلنا الآن إلى نقطة حيث لا يمكننا أن نتخيل عالمًا بديلاً يختلف عن عالمنا الذي لا يقدم لنا طريقًا واضحًا للحصول على مستقبل أفضل، لذا يجب أن نأخذ في الاعتبار إمكانية أن يكون التاريخ نفسه بالمثل قد انتهى».
ولكن التاريخ لا يسير في خط مستقيم، بل يدور. نسينا ذلك. دائما ننسى ذلك. من رحم المجتمعات الليبرالية نفسها، حيث تحقق الحد الأقصى من فردانية الإنسان، وحقوقه، والسيادة العليا للقانون، والدورات الانتخابية، وإشباع معقول للحاجات المادية، يولد الآن شبح يجول في أوروبا.. تشكلت ملامحه طويلاً قبل أن ينتصب على قدميه عملاقًا مخيفًا. كيف ولد هذا الوحش في مجتمعات وأدته منذ أمد بعيد، ونامت مطمئنة، بينما كان يصارع للخروج، وإثبات ذاته في هذا العالم؟
في مقابلة معه قبل سنوات، استغرب نعوم تشومسكي صمود المنهج الاقتصادي الليبرالي الجديد، على الرغم من أزمة عام 2008 الرأسمالية وآثارها المأساوية، وتساءل عن سبب عدم ظهور رد فعل قوي مثلما حدث بعد الكساد العظيم، ويقصد به أزمة الرأسمالية الغربية عام 1929.
الرد القوي، وقصد به تشومسكي الحراك الجماهيري، والانتفاضات الشعبية، لم يتحقق، في تقديرنا، لأن هناك انغلاقات عصية في هذه المجتمعات لا تسمح بذلك، بالإضافة إلى نكوص مريع في الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي خلقته طبيعة المجتمعات الرأسمالية نفسها. وينتج عن هذا النكوص غير المفهوم لغالبية الجماهير في هذه المجتمعات، القلق، والشعور بالغربة، وانسحاق الذات أمام قوى طاغية غير منظورة، ولا يبقى أمام هذه الجماهير سوى الهروب إلى الأمام، وتعليق الأمل على شعارات هلامية، وهمية، مليئة بالوعود الكاذبة، التي أجاد اليمين المتطرف ترويجها على نطاق واسع.
التيار الشعبوي الصاعد الآن بزخم متسارع هو قفزة عملاقة ليس إلى الوراء فقط، بل في فراغ مريع.
شبح يجول الآن في ليل العالم في غفلة لن يغفرها التاريخ.. أم إنه «مكر التاريخ» مرة أخرى، في دورة شيطانية جديدة؟



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟