البعد الديموغرافي في توسع «داعش».. ثم انحساره

هجّر الألوف من سوريا والعراق وليبيا مهددًا النسيج السكاني والاجتماعي

البعد الديموغرافي في توسع «داعش».. ثم انحساره
TT

البعد الديموغرافي في توسع «داعش».. ثم انحساره

البعد الديموغرافي في توسع «داعش».. ثم انحساره

ساهم انحسار نفوذ تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في كل من سوريا والعراق، وكذلك في ليبيا، في إعادة سكان هجّرهم التنظيم من مناطقهم إلى ديارهم الأولى. وكان التنظيم، منذ بدء تمدّده في مناطق عدة في الدول الثلاث، قد دفع بالألوف من سكان تلك المناطق إلى النزوح، عاملاً على إحداث تغيير ديموغرافي طال الأعراق والطوائف فيها، ووطّن في الكثير منها متشددين وعائلاتهم كان قد استدعاهم من مناطق مختلفة حول العالم.
بدأت عملية إعادة التوازن الديموغرافي في سوريا، منذ بدأ انحسار سيطرة «داعش» في مدينة عين العرب (كوباني) في شمال شرقي محافظة حلب السورية، على الحدود مع تركيا، وذلك إثر انكساره في المعركة أمام الميليشيات الكردية المدعومة بالتحالف الدولي. وحسب مصدر كردي تحدث لـ«الشرق الأوسط»، فإن التنظيم نقل كثيرين من مناصريه ومقاتليه وعائلاتهم إلى مناطق تسكنها غالبية كردية وآشورية (نسطورية) وسريانية (يعقوبية) وعربية سنّية، تقدم منها إلى عين العرب ومحيطها من مناطق نفوذه في العراق.
الشيء نفسه يحصل الآن في شمال غربي العراق، حيث خسر التنظيم المتطرف الكثير من المناطق التي كان قد اجتاحها أثناء استهدافه مدينة الموصل، وليس قبل أن يتسبب في تهجير الألوف من العرب السنة، وكذلك الإيزيديون والآشوريون والسريان والشّبك، وغيرهم من المكونات العراقية.
ولئن كان الخوف على التنوع السكاني، في حد ذاته، ليس في رأس قائمة أولويات المسؤولين الليبيين، فإن مشكلة التهجير التي تسبب بها التنظيم جدية للغاية، ولا سيما أنها تتعلق بمئات الألوف من مواطني ليبيا، يقدر أن 100 ألف منهم هجروا من طرابلس وحدها.

العرب السنة
مع أن «داعش» يزعم أنه يقاتل من أجل «خلافة» إسلامية ويمثل أهل السنة والجماعة، فإن غالبية ضحايا إرهابه وعنفه في سوريا والعراق كانوا وما زالوا من العرب السنة. ولعل أبلغ مثال على تهجير السنة من مناطق في محافظة دير الزور، بشرق سوريا، حيث مارس التنظيم «ما يشبه الإبادة الجماعية» بحق عشيرة الشعيطات التي لم تعلن تأييدها له؛ إذ أعدم التنظيم نحو 700 من أبناء العشيرة بعد المواجهات معه. وللعلم، تعد الشعيطات من أكبر عشائر دير الزور، وكانت من أشد المعارضين وآخر العشائر التي بايعته في المحافظة المتاخمة لغرب العراق.

.. وآخرون
في سوريا أيضًا، بسيطرة «داعش» على مدينة الرقّة في يناير (كانون الثاني) 2014، اختل التوازن الديموغرافي في المدينة التي كان يسكنها أكثر من 300 ألف نسمة، يتوزعون بين سكان عشائريين وقبليين وآخرين يتحدّرون من قوميات وأديان ومذاهب مختلفة مثل العرب السنة والتركمان والآكراد والآشوريين والسريان. إذ لاحق معارضيه بلا هوادة، وقتل الناشطين الذين فضحوا جرائمه. وبتقدّمه من الرقّة باتجاه ريف بلدة سلمية في ريف محافظة حماه الشرقي، ارتكب التنظيم أيضًا فظائع في المنطقة التي يسكنها عرب من الإسماعيليين والسنة. وتجدر الإشارة إلى أن سلمية والقرى المحيطة تعد أكبر مركز للإسماعيليين سوريا، غير أن الخسائر البشرية استهدفت أيضا العرب السنة والمسيحيين والأكراد ممن قاوموه، وكانوا أكثر من دفع ثمن التهجير من مناطقهم.
المسيحيون الآشوريون والسريان هجِّروا، بدورهم من مناطق واسعة بمحافظة الحسكة بأقصى شمال شرقي سوريا، خصوصًا بعدما فرض «داعش» عليهم الرحيل أو دفع الجزية. وانحصرت الخيارات بالهرب، بعدما اعتقل التنظيم أكثر من مائتي مسيحي من المنطقة، ومن ثم شكل المسيحيون قوات عسكرية محلية، تعاونت مع الأكراد، وطردت التنظيم لاحقًا من بلدة تل تمر في الحسكة وقرى أخرى بالمحافظة على نهر الخابور. ويذكر أنه خلال فبراير (شباط) 2015 شن التنظيم المتطرف هجومًا واسعًا على القرى الآشورية الواقعة على الضفة الجنوبية من نهر الخابور، واشتبك مع ميليشيات «وحدات حماية الشعب» الكردية التي كانت تسيطر على تلك القرى، وحقق تقدمًا كبيرًا باتجاه تل تمر. ثم شن هجمات مركزة ومكثفة على نحو ثلاثين قرية من القرى الآشورية الممتدة على شريط نهر الخابور، حيث أحرق الكنيسة في تل هرمز، ودفع بالسكان للهجرة إلى المطرانية الآشورية في مدينة الحسكة نفسها والقرى شرقي الخابور.
وإثر الهجوم، برزت حملة نزوح كبيرة باتجاه مدينتي الحسكة والقامشلي (أكبر مدينتين في المحافظة) بعد إعلان «الشبكة الآشورية لحقوق الإنسان في سوريا» أن مقاتلي «داعش» اقتحموا منازل المدنيين في البلدات التي سيطروا عليها، وخطفوا عددًا كبيرًا منهم رهائن، في حين استمر احتجاز مئات العائلات الآشورية في منازلهم. وتحدثت المعلومات عن فقدان الاتصال بأكثر من 60 عائلة آشورية، معظم أفرادها من الأطفال والنساء، إضافة إلى عدد من الآشوريين الذين كانوا يحرسون قراهم. وفيما أفرج التنظيم عن عدد من الأسرى الذين بلغ عددهم 220 آشوريًا، ما زال «داعش» يحتجز نحو 130 آشوريًا بينهم نساء وأطفال، وفق إحصائيات «المرصد الآشوري لحقوق الإنسان».
والآشوريون - أو النساطرة الأرثوذكس، وأبناء عمومتهم الكلدان، أو النساطرة الكاثوليك - يسكنون في شمال ما بين نهري دجلة الفرات في العراق وسوريا وتركيا، كما يعتبرون مع اليعاقبة السريان من أقدم الشعوب التي اعتنقت المسيحية، وذلك ابتداءً من القرن الأول الميلادي. ويشار إلى أن عدد الأشوريين الإجمالي في سوريا، بلغ قبل اندلاع الثورة السورية في مارس عام 2011 نحو 30 ألفًا من أصل مليون و200 ألف مسيحي في سوريا، معظمهم في محافظة الحسكة. ومع أن المسيحيين كانوا يشكلون نحو 5 في المائة من إجمالي عدد السكان في سوريا، فإن أعدادًا كبيرة منهم نزحت خارج سوريا، منذ اندلاع الثورة فيها وتصاعد نفوذ التنظيمات المتطرفة.
وفي أماكن أخرى من سوريا، تكررت الاعتداءات على المسيحيين في أغسطس (آب) 2015 مع تقدم التنظيم إلى بلدة القريتين بريف محافظة حمص، حيث اختطف 230 مدنيًا، بينهم 60 مسيحيًا، قبل أن يفرج عن بعضهم، ولا يزال يعتقل العشرات الآخرين. وإثر دخوله المنطقة، بث الرعب، حين هدم دير مار آليان الواقع في مدينة القريتين مستخدما الجرافات. وقبل الهجوم على القريتين وتهجير سكانها، كان التنظيم هدم الدير السرياني التاريخي الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الخامس، بعد خطف رئيس الدير الأب جاك مراد في أعقاب سيطرة التنظيم المتطرف على مدينة تدمر الأثرية في محافظة حمص.
القومية التركمانية، بدورها، تعرضت للتهجير أيضا إثر تقدم «داعش» إلى مناطق ريف محافظة حلب، بينها ريف مدن الباب وجرابلس ومنبج، ووجدت نفسها مجبرة على النزوح إلى الأراضي التركية أو إلى مناطق حلب الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية. ولقد عاد معظم هؤلاء إلى مناطقهم بعد نجاح عمليات «درع الفرات» المدعومة من تركيا بطرد التنظيم من جرابلس وريف الباب وريف مدينة أعزاز.

المشهد العراقي
في العراق، كما سوريا، لم تظل طائفة أو جماعة دينية في مأمن من ممارسات «داعش»؛ إذ وجد أن الأكراد والمسيحيين والإزيديين وغيرهم كثيرون باتوا تحت مقصلة التنظيم المتطرف، إلا أن الضحية الأكبر كانوا العرب السنة.
ذلك أن غالبية المناطق التي اجتاحها «داعش» في غرب العراق وشماله يسكنها عرب سنة، أي المذهب نفسه الذي يزعم «داعش» الدفاع عنه، ولهم المصالح نفسها التي يزعم التنظيم حمايتها.
في العراق الغالبية العظمى من المهجّرين البالغ عددهم 4.2 مليون عراقي ممن شردتهم «حروب» «داعش» من السنة. ومع اشتداد المعارك للسيطرة على الموصل، كبرى المدن السنية في العراق، وعلى مدينة الرقّة التي اتخذها «داعش» عاصمة له في سوريا، تعرض المزيد من المدن والقرى السنّية للتدمير وعمّ فيها الخراب.
والحقيقة أنه لم يكن لغالبية السنة دور في ظهور هؤلاء المتطرفين، لكن الجميع دفعوا ويدفعون ثمنًا باهظًا نيابة عن غيرهم ممن ارتكبوا تلك الفظائع؛ ما ساهم في تسريع وتيرة التراجع لطائفة مثلت غالبية المسلمين التي سادت في منطقة المشرق العربي لأكثر من 1400 سنة.
الشيخ غازي محمد حمود، شيخ إحدى القبائل السنّية في بلدة ربيعة بأقصى شمال غربي العراق التي خضعت لسيطرة «داعش» عام 2014 والآن باتت خاضعة لسيطرة الأكراد، يقول: «(داعش) هو تسونامي الذي ضرب السنة.. لقد خسرنا كل شيء، خسرنا بيوتنا وأعمالنا وأرواح أبنائنا».
وحقًا، على امتداد الحدود السورية – العراقية، حيث تداخلت الحرب على «داعش» مع الصراع المستعر بين قوات المعارضة السورية ونظام بشار الأسد، اكتوى العرب السنة بنار العنف والتشرد، من جهتين: الجهة الأولى ما اقترفه «داعش» بحقهم، والجهة الثانية الضربات الجوية السورية والروسية سوّت البلدات والضواحي السنّية بالأرض، وحرب المقاتلين الشيعة الآتين من إيران ولبنان والعراق على المعارضة ذات الغالبية السنّية. ووفق الأرقام المتوافرة يشكل السنة غالبية الخمسة ملايين لاجئ المنتشرين في المنطقة وفي أوروبا، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة والحكومات التي تستضيف هؤلاء اللاجئين.
وهنا، يقول المحللون والعراقيون: إن الأخطار واضحة، وإن العرب السنة باتوا يواجهون خطر الحرمان والتحول إلى طبقة دنيا مضطهدة في المناطق التي طالما حكموها؛ مما يخلق أرضا خصبة لتكرار تجربة التهميش والتطرف التي جاء «داعش» من رحمها في البداية. وحسب روبرت فورد، السفير الأميركي السابق في سوريا، الذي يعمل حاليا في «معهد الشرق الأوسط» بواشنطن، فإن «السيطرة على منطقة ليست القضية، فالأهم هو حكمها بشكل صحيح، وإلا فسيكون لدينا تمرد على شاكلة (داعش) ولفترة طويلة. إن لم يحظَ الحكام الجدد بالدعم الشعبي سيتمكن (داعش) من تجنيد أعضاء جدد، خصوصا إذا لم تتوافر المياه، وظلت المدارس مغلقة واستمر انقطاع الكهرباء». ويفيد عمال الإغاثة والدبلوماسيون بأن ذلك هو أسوأ سيناريو محتمل، والمفترض منعه في حال انتهاء الحرب والبدء في إعادة إعمار ما دمرته، والشروع دوليًا في إجراء المصالحة الوطنية. ففي العراق، حيث تحققت أكبر المكاسب ضد الجماعات المسلحة، فإن احتمال هزيمتهم في المستقبل القريب يحمل أملاً بسيطًا بفرصة آتية للسنة، وأيضا للشيعة وللأكراد الذين يقودون المعارك، وكذلك فرصة تسوية الخلافات لمد الجسور مجددا مع دول الجوار. غير أن طبيعة تسوية تلك الخلافات ما زالت محل جدال؛ إذ إن العقبات كبيرة والمصادر شحيحة، واحتمالات المصالحة الحقيقة ما زالت بعيدة. والتجول بين الكثير من البلدات والقرى العراقية التي حرّرت من سيطرة «داعش» يظهر حجم التحدي. فمن الحدود السورية في الغرب إلى الحدود الإيرانية في الشرق، يرى الزائر قرى مدمرة وبلدات نصف مهجورة، وسكانا حطمت حياتهم ربما إلى الأبد.

تحديات جديدة
من ناحية أخرى، مع أن غالبية المناطق التي استولى عليها «داعش» مناطق سنّية، فإن غالبية القوات التي تعمل على استعادتها تتألف من الشيعة والأكراد. وفي بعض الأماكن، فإن «المُحرِّرين» الذين لا تربطهم روابط سابقة بسكان المناطق التي حرروها، احتفظوا بمواقعهم قرب المناطق المحررة بحجة ألا يتركوا فراغًا أمنيًا يؤدي إلى عودة المسلحين المتطرفين ويعيد رسم خريطة مستقبلية للمنطقة بعد تجدد الصراع على الأرض والسلطة والسياسة.
بل جرى منع عشرات الآلاف من السكان في القرى المحررة من العودة إلى منازلهم، التي لم يعد لغالبيتها وجود على الأرض بعدما استحالت أكواما من التراب والحجارة. وفي الكثير من مناطق شمال العراق، التي لا تقع ضمن «إقليم كردستان الذاتي الحكم»، تنتشر نقاط التفتيش التابعة للميليشيات الكردية. وفي قرية على الطريق الممتد جنوبا تجاه منطقة سنجار الإيزيدية، اصطحب ثلاثة من مقاتلي البيشمركة صحافيين من صحيفة «واشنطن بوست» في جولة وسط المنازل المهدمة. وحسب هؤلاء ينتمي سكان القرية إلى قبيلة عرف عنها مساندتها لتنظيم داعش؛ ونتيجة لذلك لن يسمح لهم بالعودة إلى المنطقة مجددًا.

داعش.. وليبيا
المشهد العراقي والسوري، بطريقة مختلفة بعض الشيء يتكرر في ليبيا.
رئيس لجنة العدل المصالحة في البرلمان الليبي، إبراهيم عميش، قال لـ«الشرق الأوسط» موضحًا «هنا المشكلة تتركز حول مساعي بعض الأطراف لمنح الجنسية الليبية لنحو نصف مليون دخلوا البلاد عن طريق الهجرة غير الشرعية، بسبب الفوضى التي أحدثها تنظيم داعش والتنظيمات المتطرفة الأخرى في عموم البلاد الغنية بالنفط».
في ليبيا، تغيرت معالم مدينة سرت الجميلة، وتحول الكثير من مبانيها إلى أنقاض بعدما حولها «داعش»، طوال أكثر من سنة، لأكبر مركز له في شمال أفريقيا. وتقع المدينة، التي تعد مسقط رأس معمر القذافي، في الشمال الأوسط من ليبيا. كان عدد سكانها، وفقا لآخر تقدير محلي يعود لعام 2014 نحو ثمانين ألف نسمة، لكن دخول «داعش» إليها في تلك السنة دفع الألوف إلى الفرار منها والإقامة في مدن أخرى داخل ليبيا، أو مغادرة البلاد والعيش في إحدى دول الجوار.
الهرب من «داعش» لم يكن في سرت فقط، ولكن الاقتتال، ومن ثمَّ طوابير المهجَّرين، طال الكثير من المدن الأخرى، على رأسها بنغازي ودرنة. وتقول الإعلامية ندى الزوي، ابنة مدينة بنغازي لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معها «عائلات كثيرة فرت من الاقتتال، إلا أنها بدأت الآن في العودة بشكل تدريجي، حيث إن الجيش الوطني تمكن من تحرير معظم ضواحي بنغازي. المشكلة تكمن في البيوت التي تركها المتطرفون في بنغازي مفخخة بالمتفجرات».
وفعلاً، تمكن الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر، من طرد «داعش» من مدن الشرق الليبي. كما اقتربت «قوات البنيان المرصوص» بإشراف رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، من هزيمة «داعش» في سرت، لكن يبدو أن المشكلة تكمن في قدرة «داعش» على الانتقال من مدينة إلى أخرى، وذلك بعدما ظهرت قوافل السكان الفارين من التنظيم القادم حديثا إلى مدينتي الخُمس والزاوية على مشارف العاصمة طرابلس. أو كما يقول رجب بن غزي، المذيع التلفزيوني الليبي لـ«الشرق الأوسط» إن «تنظيم داعش لم يخرج من ليبيا. يضربونه في سرت يظهر في الخُمس.. يضربونه في درنة يطلع في البيضاء. هذه دوامة يدور فيها السكان من بلدة إلى بلدة».
عن أعداد المهجرين، يقول عميش «توجد تقديرات بأعداد من تأثروا من السكان بنشاط (داعش) ومَن غادروا بلداتهم بسبب هذا التنظيم المتطرف رحلوا إلى مناطق قريبة منهم، وإلى بعض المناطق الأخرى؛ للإقامة لدى أقربائهم.. كما أن هناك من اختار البقاء تحت الخطر. ومنهم من مات ومنهم من عاش». في حين يقول بن غزي إن عدد من هجّروا طرابلس منذ عام 2014 فقط يقدر بنحو مائة ألف.. «وهؤلاء ذهبوا إلى مدن أخرى مثل طبرق وبنغازي والبيضاء والجنوب، وغيرها. ومن بينهم من هاجروا للأردن ومصر وتونس». بينما أدت الهجرة الداخلية، كما تقول الزوي، إلى «تغيير في تركيبة السكان بشكل وضح مثلما حدث في سرت التي هجرها معظم سكانها. وتسبب تكدس المهاجرين في المدن الآمنة إلى ارتفاع أسعار العقارات». وتضيف «اضطر كثيرون آخرون إلى الانتقال شرقا للإقامة لدى أقاربهم. الوضع صعب. لا توجد رواتب والإيجارات مرتفعة. هناك استغلال من تجار الحرب».
ولا ينظر كثير من السياسيين الليبيين، مثل النائب عميش، إلى انتقال ألوف المواطنين من مدينة إلى أخرى باعتباره أمرا سيطول، ويقول إن هؤلاء سيعودون إلى منطقهم الأصلية بعد أن تهدأ الأوضاع.. «حتى في سرت. من خرجوا لديهم أمل في العودة بعد هدوء الأوضاع.. منهم مجموعات ذهبت إلى مصراتة وأخرى إلى مدينة بني وليد والبعض إلى إجدابيا والبعض الآخر رحل إلى الجنوب».
ويتابع: «لا يوجد خوف من تغير التركيبة الديموغرافية للسكان بسبب (داعش). التغير، كما أراه، لا يحصل إلا من خلال الهجرة غير الشرعية وبعض المساعي من أطراف لمنح الجنسية لأعداد كبيرة من قبائل وغيره. وهذا الأمر حوله صراع الآن (بين القادة الليبيين)».
وتعود قصة منح الجنسية الليبية لغير الليبيين من ذوي الأصول الليبية إلى عهد القذافي، لكن يبدو أن بعض الأطراف التي تحاول إيجاد أنصار لها في خضم الفوضى التي تضرب البلاد، أخذت تلعب على الوتر نفسه مستغلة دخول ألوف الهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا، خصوصا بعد محاولة سرقة منظومة تسجيل المواليد والجنسية، وقيام مجهولين بقتل مسؤولها في طرابلس خلال الأسابيع الأخيرة.
ويشرح عميش «كان القذافي قد منح الجنسية للبعض من مناطق في تشاد وبعض من دول الجوار الجنوبي، ثم سحبها منهم، لكن بقيت معهم أوراق، سواء صحيحة أو مزورة، تقول إنهم عرب يعاملون معاملة الليبيين». ويتابع موضحا أن «هذا هو مصدر ما يمكن أن يحدث من تغيرات ديموغرافية ومن دخلاء»، مشيرا إلى أن محاولات التجنيس الجارية الآن «تشمل من يأتون إلى ليبيا مع الهجرة غير الشرعية، وتشمل المقاتلين الذين دخلوا خلال الفترة الأخيرة بالآلاف.. حيث إن بعض المقاتلين كان لديهم جنسية أصلا أو سحبت منهم أو أنهم متجنسون أو يشعرون بأنهم ينتمون إلى قبائل ليبية ويريدون أن يعيشوا في ليبيا.. وغالبية هؤلاء من السكان الموجودين على امتداد الحدود الليبية مع دول الجوار».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.