بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، الذي يصادف هذا العام، بروز تحولات عالمية جذرية، على المستويين السياسي (ترامب والأصوليات على الصعيد العالمي)، والأخلاقي (تدمير النزعة التضامنية)، والاقتصادي (غياب عدالة توزيع الخيرات الرمزية والمادية)، هل هناك مبرر اليوم لإعادة طرح السؤال الكلاسيكي / المعاصر: ما هي الفلسفة، وفيم يمكن أن تفيدنا؟ وهل من قيمة تتملكها الفلسفة اليوم بالنسبة لنا، نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين، عصر التطور التقني على جميع المستويات والمجالات؟
قد يبدو السؤال للقارئ، مجرد درس تقليدي يجب أن يوجه للمبتدئين، أو لتلامذة المدرسة الثانوية، في حصصهم الأولى، التي تكون بمثابة مداخل عامة يتعرفون، من خلالها، على جزء من «تاريخ الفلسفة» وليس على الفلسفة.
إن ما يجعلنا في حاجة إلى إعادة النظر في تعريف الفلسفة، وقيمتها، هو تشكيكنا في الطرح الذي يعتقد في كون كل من ولج إلى المدرسة / المؤسسة قد تعلم الفلسفة. وهذا التشكيك نابع من شهادات الواقع، التي تجعلنا نصادف، يوميا، وفي وضعيات مختلفة، طلابا درسوا الفلسفة في المرحلة الثانوية أو الجامعية، لكنهم في كل مناحي حياتهم وسلوكهم، لا يزالون يسلكون ويتصرفون، كما يتصرف بادئ الرأي - الإنسان البسيط في التفكير الذي يسلّم لانطباعاته. وهذا ما يجعل المسلمة، التي تقدم إلينا، بأن تعريف الفلسفة بات واضحا بمجرد ما نقول إنها محبة / عشق / إيثار، ونزوع نحو الحذق، والمهارة، والحقيقة، والحكمة، لا يفي بالغرض. من هنا نكون دائما في حاجة إلى البحث عن تعريف للفلسفة خارج التعريفات الايتيمولوجية والمعجمية والتاريخية الشائعة. بل نكون هنا، في حاجة إلى استيعاب «روح الفلسفة».
قد يعترض علينا اليوم معترض، بكون العلم حينما صار قادرا على السيطرة التقنية على الجسد والطبيعة والمادة بشكل كبير، لم تعد الحاجة إلى الفلسفة ضرورية. ويفرض علينا هذا الاعتراض، أن نقارن بين مجالات الفلسفة ومجالات العلم، لكي نوضح مدى قدرة هذا الزعم على الصمود أمام المساءلة الفلسفية.
صحيح، نحن لا ننكر أن العلم، إذا أخذنا علم الوراثة، على الأقل، قد صار قادرا على التدخل في مسألة الخلق، التي كانت تعتبر، إلى عهود قريبة، أسرارًا إلهية. ولكي نوضح ما قد تتعرض له هذه الفكرة من سوء فهم، لنعط مثالا بسيطا: إذا سألت شخصا ما، بعد عملية حمل مباشرة، عن جنس الجنين، وما إذا كان ذكرا أم أنثى، فسيكون جوابه: هو الله أعلم بذلك. أما اليوم، وبفضل العلم، فقد صار بالإمكان التدخل في شريط الصبغيات، وفي مورثات الجنين، لتفادي أي ولادة مشوهة أو إعاقة - وحوار هابرماس وبيتر سلوتردايك الشهير دليل على ذلك. ويجري ذلك التدخل، من خلال عملية زرع مبكرة، واستئصال أي مورثات قد تكون مسؤولة، في المستقبل، عن أي تشوهات. أما على مستوى المادة، فقد صار العلم قادرا على تحرير الطاقة الكامنة فيها، والتحكم فيها. ولم يقف العلم عند حدود التحكم في الجسد والطبيعة والمادة، بل هناك أبحاث للتحكم في المستقبل، في مجال تكنولوجيا الـ«نانو» التي أحدثت ثورة في عالمنا المعاصر. كل هذه الممكنات التي أصبحت العلوم الحقة قادرة عليها، قد تجعل بعض الغرور، أو بعض السذاجة، يتسرب للإنسان ليشكك في قيمة الفلسفة أمام قوة العلم التقنية. هذا القول يصبح مدعاة للسخرية، حينما نعيد التذكير بأن منجزات العلم النظرية والتقنية، إذا ما قورنت بمنجزات الفلسفة، قد تصير من دون أية قيمة عملية للناس في حياتهم اليومية. فالعلم القادر على التحكم في المادة والجسد، قد يصير عاجزا عن الإجابة عن أبسط وأعمق الأسئلة التي يطرحها الإنسان العادي بشكل يومي. فسؤال الحب، والعدالة، والحرية، والديمقراطية والموت، والخير، والشر، هي من بين أسئلة كثيرة يكون العلم إزاءها عاجزا. وهي الأسئلة التي نطرحها بشكل يومي، سواء كنا كبارا أو صغارا أو شيوخا. فإذا استحضرنا طفلا عمره ثلاث سنوات مثلا، يهتم به والداه، فإن هذا الاهتمام العائلي، والحب والتقدير، ينتقل في حالة ولادة أخ صغير، إلى المولود الجديد، مما يجعل المولود الأول يقوم بتصرفات وسلوكيات عدائية غايتها في العمق، المطالبة بحقه في الحب والتقدير والاهتمام. وفي غياب معرفة توجه التربية داخل الأسرة، نجد أن أغلب الآباء، يلجأون إلى العنف والترهيب، كجواب بسيط على ذلك. كما أن سؤال الحب يصبح مطروحا بشدة لدى المراهقين والمراهقات. إذ تسود بينهم حالات الإحباط والتوحد والانطوائية، فيلجأون إلى وسائل الاتصال الحديثة من أجل تشييد عوالم تستجيب لحاجاتهم النفسية والوجدانية والعقلية. كما يخلقون فضاءات لمناقشة القضايا التي تعتبر تابوهات لا يسمح لهم الفضاء الأسري والمجتمعي والمؤسساتي بمناقشتها علانية. ولا يتوقف طرح سؤال الحب عند مستوى الصغار والمراهقين، بل يطرحه العجائز كذلك. فكم من مرة نلتقي عجوزا وقد وفر له أبناؤه كل ما يحتاج إليه، أو تكفلت الدولة بذلك. لكنه رغم كل شيء يشتكي. وحين تواجهه بأن كل ما يحتاج إليه متوفر، يجيبك متحسرا «آه، إنني لا أحتاج فقط للمال والأكل والشرب، بل أحتاج لمن يتحدث إلي ويهتم بي»؛ إنه في العمق، بحاجة إلى من يحبه ويعترف به كذات. ويحدث هذا مع باقي المطالب الأخرى، مما يعني أن أسئلة العلم، إذا قارناها بأسئلة الفلسفة، سنجد بينهما بونا شاسعا. فأسئلة العلم قد تكون مهمة لطلبة العلم في الكليات والمدارس، أو للعلماء في المختبرات، بينما أسئلة الفلسفة هي مهمة بالنسبة للجميع ويطرحها الجميع، بغض النظر عن مستواهم التعليمي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، لأنها أسئلة وجودية ويومية مرتبطة بالإنسان في كل زمان ومكان. ومن هنا، يمكننا أن نخلص إلى تعريف بعيد عن التعريف المعجمي للفلسفة، فنقول، إنها نشاط معرفي وعقلي يتيح للإنسان إمكانية أن يجيب ويفكر في الأسئلة التي لا يستطيع العلم أن يقدم له أجوبة حاسمة عليها. فمثلا، إذا كان العالم يستطيع أن يقدم لي صيغة صورية لجزيء الماء، باعتباره يتكون من الهيدروجين والأكسجين HO2، بحيث يسمح لي ذلك، سواء كنت في المغرب أو الرياض أو لندن أن أجد أن هذه الصيغة تنطبق على جزيء الماء، بغض النظر عن الزمان والمكان، فإن هذا العالم العبقري لا يستطيع أن يعطيني صيغة صورية للحب، بحيث يجعلني تطبيقها محبوبا أو عادلا أو حرا. من هنا، نكون في هذا العالم، بحاجة ماسة إلى الفلسفة، وبالضبط إلى «روح الفلسفة». فتعلم الفلسفة هو تعلم لتاريخها وللفلسفات والأنساق الفلسفية التي عرفها هذا التاريخ. وهذه العملية، لا تحتاج إلى بذل الكثير من الجهد ما دامت الكتب والمراجع متوفرة. فإن كنت سأتعلم الفلسفة لأقضي حياتي في القول، «قال أرسطو وقال أفلاطون وديكارت وكانط وهيغل وابن مسكويه والفارابي وابن رشد...» فسأظل بعيدا كل البعد عن الفلسفة. والفلسفة التي أتحدث عنها هنا، هي تلك الروح الفلسفية الثاوية في قلب كل الأنساق الفلسفية، بحيث تكون العودة لما كتبه الفلاسفة ليس من أجل الإقامة فيه وإعادة إنتاجه، بل لنتعلم كيف فكّر هؤلاء في قضايا الإنسان، كالحب، والعدالة، والديمقراطية، والجمال، والخير، والشر، والموت وغيرها.
تبدأ الفلسفة إذن، حينما تصبح لدينا القدرة على المخاطرة بالتفكير في قضايانا، لا كما فكّر فيها هؤلاء الفلاسفة العظام في لحظتهم، بل كما نختار نحن في حاضرنا وحسب حاجاتنا. هنا تكون روح الفلسفة طاقة تحريرية تجعلنا متحررين من كلمتين خطيرتين عبر التاريخ وفي حياتنا اليومية، وهما «قال وسمعت / وأحسست». فـ«قال وسمعت»، تحيل على الآخرين وعلى الغير، سواء كان فردا أو جماعة أو آيديولوجية. وقد علمنا التاريخ وتعلمنا الحياة اليومية، أن الآخرين ليسوا مصدرا موثوقا دائما للمعرفة. فهم قد يضللوننا، وقد يحرفون ويزيفون المعارف التي ينقلونها لنا، إن كانت قابلة فعلا للنقل. فكم من مرة اعتمدنا فيها، فقط، على ما يقال لنا أو سمعنا عن شخص ما أو حادثة ما، وتصرفنا بحسب ما سمعناه أو قيل لنا. وبعد مرور ردح من الزمن، نكتشف أننا كنا مخطئين في أحكامنا، أو في سلوكياتنا، التي سلكناها حسب ما قيل لنا وسمعنا. فعبارات «أحسست وبدا لي»، تحيل على الانطباعات الأولية التي نكوّنها دائما عن الآخرين، وعن ظواهر العالم، بفعل العادة والتكرار. فنميل بسرعة، إلى تكوين حكم أو رأي أو موقف انطلاقا مما يظهر لنا، ونتناسى أن الحواس والانطباعات خادعة. وقد وقع ذلك مع البشرية حينما اعتقدت لقرون، أن الأرض التي تدور ثابتة وهي مركز الكون. إذن هنا مرة أخرى، تكون الفلسفة مهمة ليس كمادة تعليمية أو معرفة يمكن أن نتبجح بمعرفة متونها، بل مهمة لأن الروح الفلسفية التي تمنحها لنا، تجعلنا قادرين على مواجهة كل أشكال التضليل التي نحن عرضة لها في هذا العالم، سواء من طرف الآخرين أو من طرف حواسنا وانطباعاتنا. وهنا نستحضر ما قام به بيكون في أرغانونه الجديد، حينما حذرنا من الأوهام التي تحيط بنا، ومن بينها الأوهام التي تدفعنا إلى سرعة التعميم والحكم، وكذلك أعمال رونيه ديكارت.
يحضرني في هذا السياق، سؤال آخر: متى يمكننا أن ندرك بأننا شرعنا في التفلسف وفي امتلاك هذه الروح الفلسفية؟ هل معرفتنا وحفظنا للمتون الفلسفية وإعادة ترديدها، كاف لإدخالنا إلى رحاب الفلسفة؟ أم أن التفلسف والروح الفلسفية شيء آخر؟
أعتقد أن الفلسفة تبدأ حينما نقرأ كل ما كتبه الفلاسفة العظام ونحاوره. وحينما نتمكن من التحرر منه، وتصبح لدينا القدرة على إنتاج موقف خاص بنا، حول القضايا نفسها التي فكر فيها الفلاسفة العظام ذاتهم. آنذاك، نكون قد شرعنا في التفلسف وفي امتلاك هذه الروح الفلسفية. فالقيام بهذه الخطوة الأولى، أي التخلص مما قاله الفلاسفة وإعادة إنتاجه حرفيا، هو المدخل الأساسي للفلسفة. ولا يمكن القيام بهذه الخطوة، إلا بإعادة تملك عقولنا الخاصة واستعادتها من هيمنة الآخرين، ومن هيمنة الانطباعات والأحاسيس الأولية التي قد تضللنا. وهنا نتذكر التعريف الشهير لإيمانويل كانط لمفهوم التنوير. فغاية الروح الفلسفية، هي تعليم طريقة خاصة في التفكير. والتفكير هنا نوع من المخاطرة، لأنه يحتاج إلى الشجاعة اللازمة للإقدام عليه. وهو مخاطرة بالمعنى اليوناني وبالمعنى الكانطي، لأنه يتطلب منا بذل المزيد من الجهد للتخلص من كل ما ترسخ لدينا من انطباعات، ويضعنا في مواجهة كل ما تلقيناه من الآخرين، الذين يعتبرون ما قدموه لنا نوعا من الهبة أو الدين الذي يقتضي منا الخضوع والطاعة والسير على نهج حدد سابقا. فنكون بذلك، مجبرين على الاختيار واتخاذ القرار كما يقرر الآخرون ويسلكون. لذلك تكون الفلسفة هنا، أو «روح الفلسفة»، كما أحب أن أسميها مع تلامذتي في الفصل، أحيانا، موجهة لنا، فتتيح لنا هذه الروح الفلسفية أن ندافع عن هذا الحق في المخاطرة بالتفكير، مما يمنحنا وجودا مختلفا. وكل تخلّ عن هذا الحق في المخاطرة، هو تخلّ منا عن حقنا في الاختلاف، وعن حقنا في العيش بالأسلوب الذي نقرره ونعزم عليه. فكما تحتاج الحرب إلى الشجاعة والشرف في اليونان القديمة، بحيث يبارز المحارب خصمه ندًا لند، فالتفكير أيضًا، هو نوع من فن الحرب، بحيث يتيح لنا أن نواجه وأن نخاطر في مواجهة القديم الذي يسكننا ويعيقنا في الحاضر ندًا لند، بحيث تبزغ الذات وتنبثق من حماة الحشد، مطالبة بحقها في أن تكون في العالم متفردة ضد ثقافة الجموع.
تجديد النظر إلى الفلسفة بمناسبة يومها العالمي
في ظل التطور التقني والتحولات الجذرية التي يشهدها العالم
تجديد النظر إلى الفلسفة بمناسبة يومها العالمي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة