لا ثبات في العلم.. وقوته تكمن في تكذيبه

نظرية التطور هي ابنة القرن التاسع عشر المسكون بالبحث عن جذور الأشياء

تشارلز داروين
تشارلز داروين
TT

لا ثبات في العلم.. وقوته تكمن في تكذيبه

تشارلز داروين
تشارلز داروين

يستحضر المرء بمجرد سماعه نظرية التطور، تشارلز داروين (1809 - 1809) مباشرة، ويعتقد أن الفكرة فكرته وحده، وأنه هو من اكتشفها كإشراقة خاطفة أو كحدس شبيه بوحي من السماء. غير أن عالم الأفكار لا يتحرك بهذه الطريقة. بل يسير وفق سياقات تحدد لهؤلاء «العباقرة» ما سيفكرون فيه، وما سيطرحونه من إشكالات. بل تحدد لهم حتى سقف الأجوبة المحتملة، أو بتعبير أكثر دقة، نستخدم مفهوم توماس كون «الباراديم»، الذي يعني به الإطار، أو النموذج الذهني الموجه للرؤية في حقبة زمنية معينة، فهو من له الكلمة الفصل، إذ يتجاوز هذا «الباراديم» الأفراد، ليصبحوا مجرد خدام له.
ولفهم الأمر أكثر، لنعش التجربة الذهنية الآتية: تصور معي، أن تشارلز داروين بلحمه ودمه، وبشفرته الوراثية نفسها، قد ولد قبل القرن التاسع عشر، ولنقل الخامس عشر مثلاً. فهل كان سيفكر في نظرية التطور؟ الجواب طبعًا لا، بل هو مستحيل. إذ إن لكل فكرة تاريخًا وزمنًا ومستقرًا محددًا. بل لنفترض أيضًا، أن داروين المفترض، الذي يعيش في القرن الخامس عشر للميلاد، منح ذكاء عاليًا، بحيث استطاع أن يحدس فكرة التطور، فلن تكون فكرته بغد مشرق، ولن يعبأ بها أحد، وسترمى جانبًا في الهامش إلى حين.
إن الأفكار تحتاج لكي تعيش، إلى السياق الذي يتقبلها ويسمح لها بالظهور. فالعبرة ليست بالجزء بل بالكل. فكم من الأفكار سبقت زمانها وأجهضت مباشرة، ليست لأنها خاطئة، بل لأن الإطار النظري لا يسمح لها بالبروز، وهذا ما يشهد عليه التاريخ. ففكرة دوران الأرض مثلاً، قد قال بها الفيثاغورثيون اليونانيون. وقال بها أيضًا، أرسطرخس، وحتى العالم المسلم البيروني، تحدث عن إمكانية القول بالدوران. لكن كلامهم لم يكن له معنى أو يجد قبولاً، لأن الإطار النظري الأرسطي/ البطلمي (نسبة إلى عالم الفلك بطليموس الذي هيمن على القرون القديمة فلكيًا)، والقائل بثبات الأرض، كان مهيمنًا وطاردًا لكل ما يشوش عليه تماسكه. فالقول بدوران الأرض آنذاك، هو قول نشاز وغير متحمل، وسوف تنتظر هذه الفكرة، مجيء القرن السادس عشر مع كوبيرنيكوس، لتظهر من جديد، لأن شروطًا نظرية قد نضجت.. وعلى غرار ذلك، نتحدث عن الجاذبية مع نيوتن، فهل كان ظهورها قبل القرن السابع عشر ممكنًا؟ الإجابة: قطعًا لا.
إن أي فكرة، تحتاج إلى إطارها النظري الذي ستسبح فيه بأمان. وهو من يقدم لها جواز المرور للقبول والظهور، بل الذيوع.
في مقالنا هذا، سنتوقف عند نظرية التطور كمثال، ونسأل عن الإطار الذي سمح بظهورها في القرن التاسع عشر بالضبط؟

قرن التاريخ والبحث عن الجذور

يعد القرن التاسع عشر قرن البحث عن تكوين الأشياء لا خلقها. إنه قرن التاريخ بامتياز. فهاجس أن لكل شيء جذورًا، وأن لا شيء ثابت، ولا شيء يبقى كما كان، كان الكلمة العامة للعصر. إنها بمثابة الإطار الذهني الموجه للرؤية. فالجبل مثلاً في علم الجيولوجيا، قد تشكل عبر التاريخ، والوديان تبدأ نشيطة قوية فتهرم مع الزمن، وتكثر التواءاتها. بل نجد أن اليابسة لم تكن متصدعة ومفرقة كما نشهدها اليوم، بل كانت كتلة واحدة متراصة. وهذا ما حاول العالم ألفريد فاغنر (1880 - 1930)، إثباته، بنظريته المشهورة «زحزحة القارات». وأكثر من ذلك، فالمرض النفسي له جذور في الطفولة. فالإنسان عندما يكبر، يكون صدى لرواسب طفولته. وهو ما راج مع المحلل النفسي سيغموند فرويد (1859 - 1939)، ناهيك بأن القرن التاسع عشر، قد أفرز لنا توجهات فلسفية كبرى، كالهيغيلية، والماركسية، وكانت كلها مرهونة، كما هو معلوم، بالهواجس التاريخية، زيادة على تنامي الفلسفة الوضعية، التي ترى أن الفكر البشري مر بمراحل تدل على الارتقاء والنمو والتبدل من حال إلى حال. وما آخر هذه المراحل، كما زعم أوغست كونت (1798 - 1857)، إلا المرحلة العلمية. هذه الأجواء، هي التي حكمت تشارلز داروين، وشكلت له الأفق الذهني الذي سيوجهه، وبقوة. لكن هذه المرة، نحو الكائنات الحية، ليؤكد أنها هي أيضًا لم تكن كما هي. بل تعرّضت بدورها، إلى تحولات عبر التاريخ، مقترحًا نظرية في ذلك، سميت نظرية التطور أو التحول البيولوجي. وهي النظرية التي أسالت المداد، وكانت محطة نقاش محتدم، منذ صدور كتاب «أصل الأنواع» سنة 1859 حتى الآن، نظرًا لما تخلقه من توترات تمس قيمة الإنسان في الكون. لأن داروين يقر بأنه ما دام أن الإنسان ينتمي إلى الطبيعة، فهو لا محالة، قد تعرض لتغير عبر مساره الطويل، مثله في ذلك مثل كل الكائنات الأخرى. فأصله يتقاطع ويمت بصلة لمملكة الحيوان، وهذا ما يربك صورة الإنسان عن نفسه، إلى درجة أن سماها فرويد، بالصفعة التي تذكر الإنسان بأصوله الحيوانية، وتبرز له أنه، في نهاية المطاف، مجرد مصارع من أجل البقاء. وما العقل عنده سوى سلاح كالناب والمخلب.. فما هي ملامح نظرية التطور؟

سفينة المسح الجغرافي «بيغل»

يقول داروين: «في أحد الأيام، عندما كنت أنزع لحاء شجرة قديمًا، رأيت زوجًا نادرًا من الخنافس، وأمسكت بواحد منهما في كل يد. عندئذ رأيت (جعلاً) ثالثًا من نوع جديد لا أحتمل أن أفقده، فما كان مني إلا أن وضعت (الجعل) الذي كان في يدي اليمنى في فمي».
قدمت كلام داروين لأظهر عشقه، بل هوسه بتجميع الحشرات، والعمل على تصنيفها، والمقارنة بينها. وهذا كله قبل قيامه بتلك الرحلة المشهورة إلى أميركا الجنوبية، التي ستقلب كيان فكره رأسًا على عقب، وستعطيه الفرصة لإعلان نظرية التطور.
كان داروين في بداية العقد الثالث من عمره، حين قررت البحرية الملكية البريطانية إرسال سفينة «بيغل»، لغرض مسح وتخطيط ساحل أميركا الجنوبية، ووضع خريطة له. وقد عرض عليه أن يرافق هذه الرحلة بوظيفة «رجل طبيعة» من دون أجر. وفي الحقيقة، يعود الفضل في هذه الدعوة، إلى أحد أصدقائه، وهو أستاذ لعلم النبات في جامعة كمبردج، على الرغم من أن داروين نفسه، لم يكن مولعًا بالنبات، بل بجمع الخنافس كما قلنا.
أبحرت السفينة سنة 1831 لمدة 5 سنوات. وعاد داروين ليس داروينًا، إذ اقتنع بأن الأنواع حينما تعزل في جهة، فإنها تختلف في الصفات والميزات عن التي تعزل في جهات أخرى، وأن هذه الأنواع قابلة للتغير. وكاد ألا يكتب عن نظريته التطورية، لولا أنه سمع بخبر أن هناك من ينافسه في الأطروحة، وهو الرجل المغمور والمنسي في التاريخ، المسمى ألفرد رسل والاس، الذي توصل إلى النتائج نفسها، مما أثار داروين، فسارع إلى إصدار كتابه «أصل الأنواع» فكتبت النظرية باسمه وضاع اسم والاس، وهو ما يُظهر ظلم التاريخ أحيانًا. فما بعض الحجج وبعض الاعتراضات على نظرية داروين؟

المستندات الداعمة لـ«الداروينية»

1- تتابع أنواع الحفريات: اللافقاريات، والأسماك، والزواحف والطيور، والثدييات، والإنسان.
2- وجود بعض الأعضاء بلا وظائف: كالزائدة الدودية، وبعض الزوائد لدى الحيوانات، كالندوب في الثعابين التي تدل على أطراف قد اندثرت. وهو ما تفسره «الداروينية»، بكون أن هذه الحيوانات قد انحدرت من أسلاف كانت مجهزة بأعضاء كاملة، لكنها فقدتها بالتدريج، جراء التكيف مع طرق الحياة الجديدة.
3- في القرن التاسع عشر، قام علماء التشريح المقارن، بالإعلان عن أن الكائنات الحية، لها بنية أساسية ضمنية متطابقة. وهو ما يفسر حسب «الداروينية»، كون السلف مشتركًا، وأن النموذج البدائي قد تعرض لتحولات.
4- تشابه الأجنة عند الكائنات الحية.
5- وقائع تهجين الحيوان والنبات: إذ يمكن أن نحصل على سلالات معينة لحيوانات جرى تدجينها. فبمجرد رسوخ هذه الصفات الجديدة، فإنها تظل باقية، إلى حد ما، في السلالات التالية. هذه التحولات سينظر لها داروين على أنها نموذج تجريبي لما يحدث في الطبيعة طوال الوقت. فالحيوانات ليست ثابتة بل تتغير.

اعتراضات جادة أقلقت داروين

1- إذا قبلنا بالانتخاب الطبيعي، فالعين تزداد حدة مثلاً، لكن كيف ظهرت أول عين؟ وإذا ما كانت وظيفة الريش البدائي لدى الطائر، كونه عازلاً للحرارة، وتطورت لاحقًا فقط، لكي تكون ميزة تُسهّل عملية الطيران، فمن العبث الملغز، افتراض أن الريش قد ظهر لكي يحقق احتمالات خفية للطيران. هذه أمور أزعجت فكرة الانتخاب الطبيعي طوال حياة داروين.
2- عدم وجود حفريات تثبت الأنواع الوسيطة بين الأنواع. وهذا أمر مقلق حتى بالنسبة للإنسان. فليس هناك أثر للوسيط بينه وبين مملكة الحيوان.
نخلص إلى أن النظرية الداروينية، هي بنت زمانها، أي القرن التاسع عشر، وبنت لحظة حمى البحث عن جذور وتاريخ وتكوين الأشياء. كما تبين لنا أن التطور افتراض له مؤيدات ومكذبات. والمهم هو أنها نظرية مغامرة أدت إلى البحث، ويكفي أنها جرّت العلماء وفي جميع أنحاء العالم، إلى القيام بحفريات، سعيًا وراء إيجاد ﺫلك الرابط بين الإنسان الحالي والإنسان القديم. وسواء وجدوه أو لا، فالأساس يكمن في كون الافتراض الدارويني، لعب دور المحرك لعجلة التنقيب. فقد كان بمثابة مهماز للبحث. فإذا ما نسفت الداروينية جدلاً وبحجج دامغة، فالربح حاصل على الدوام، لأنك حينما تكذب نظرية معينة، فأنت تكون مطالبًا بتعويضها بواحدة أقوى منها، بكلمة واحدة نقول: لا ثبات في العلم، فالعلم قوته في تكذيبه.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟