أزمة السكن في ألمانيا تدفع إلى رواج «البيوت المتحركة»

الشباب والعاملون أكثر قاطني العائمات والحاويات

خلال السنوات العشر الأخيرة تمكن فقط واحد من بين كل ثلاثة أشخاص من تحقيق حلمه وامتلاك شقة أو بيت
خلال السنوات العشر الأخيرة تمكن فقط واحد من بين كل ثلاثة أشخاص من تحقيق حلمه وامتلاك شقة أو بيت
TT

أزمة السكن في ألمانيا تدفع إلى رواج «البيوت المتحركة»

خلال السنوات العشر الأخيرة تمكن فقط واحد من بين كل ثلاثة أشخاص من تحقيق حلمه وامتلاك شقة أو بيت
خلال السنوات العشر الأخيرة تمكن فقط واحد من بين كل ثلاثة أشخاص من تحقيق حلمه وامتلاك شقة أو بيت

على الرغم من إدراج ألمانيا على لائحة البلدان الأغنى في العالم، فإن نسبة مالكي البيوت من السكان قليلة مقارنة مع إيطاليا الأقل غنى على سبيل المثال أو بعض البلدان الاسكندنافية، وتحتل ألمانيا حاليا المرتبة الخامسة في ذلك الشأن على المستوى الأوروبي.
فخلال السنوات العشر الأخيرة، تمكن فقط كل واحد من بين كل ثلاثة أشخاص من تحقيق حلمه وامتلاك شقة أو بيت، وساعد في ذلك تدني الفائدة المصرفية على القروض؛ مع أن الشروط المرتبطة بعقد القرض صعبة.
والفئة الأكثر إقبالا على الاقتراض لبناء أو امتلاك منزل عائلة أو شقة هم موظفو المؤسسات الحكومية والشركات الكبيرة، إلا أن غالبية هذه البيوت أو الشقق تكون في الضواحي، لأن الأسعار في داخل المدينة باهظة جدا.
ولقد استفاد البعض من تدني الأسعار في مناطق شاسعة على محيط المدن الكبيرة مثل العاصمة برلين، أو اشترى بيوتا متداعية في الأقاليم الشرقية ورممها أو أعاد بناءها.
إلا أن شروط القروض الصعبة لم تنجح في فتح شهية كثير من الفئات، مثل أصحاب المهن الحرة والعاملين في الشركات والمصانع المتوسطة والصغيرة، فسياسة العمل حاليا في ألمانيا لا تطمئن، لأن رب العمل يمكنه صرف عماله، حيث إن مئات الآلاف منهم يعملون بعقود عمل قصيرة الأمد أو تتجدد سنويا. وعليه، فإذا ما لم يتمكن المقترض من تسديد أقساط قرض الشقة أو البيت لفترة معينة، فإن أول إجراء يتخذه المصرف أو المؤسسة المالية المقرضة هو مصادرة المنزل وعرضه في المزاد العلني بسعر يكون عادة أدنى مقارنة بالمبلغ الذي اقترضه، فيتعرض المقترض لخسارة كبيرة جدا.. فالمصرف يسترجع ما تبقى له من القرض، أما هو فقد يحصل على بعض المال حتى ولو كان قد سدد نسبة كبيرة من الدين.
وبعدها يتجه «المنكوب» في أمر بيته أو شقته إلى سوق العقارات للبحث عن مكان يؤويه وعائلته، وهنا يواجه مشكلة أخرى، فألمانيا لديها مشاريع لبناء مئات الآلاف من المساكن، لكنها مشاريع إما طويلة أو متوسطة المدى، والقليل منها سوف ينفذ على المدى القريب.
ولقد بلغ عدد الشقق السكنية في ألمانيا حتى عام 2015 نحو 42 مليون وحدة، وعدد المباني السكنية قرابة 80 ألفًا. لكن عدد المستأجرين أو الباحثين عن مسكن تعدى 40 مليون شخص، يضاف إليهم أكثر من 675 ألف لاجئ أتوا منذ عام 2011 وحتى اليوم إلى ألمانيا، وهم بحاجة إلى مساكن أيضًا عندما تقبل طلبات لجوئهم.
وتعتبر مدينة ميونيخ من المدن الأغلى ثمنا في القطاع العقاري، إن كان من حيث الإيجارات، أو أسعار الشقق أو المباني، أو أسعار الأراضي، فمتوسط ثمن المتر المربع في شقة بحي متوسط يتجاوز 7160 يورو (نحو 7600 دولار)، وبدل الإيجار لشقة لا تتعدى 42 مترا مربعا في الطابق الخامس ومن دون مصعد يصل إلى 750 يورو (ما يناهز 800 دولار) شهريا. كما يتجاوز سعر المتر المربع لشقة في ضواحي فرانكفورت مساحتها 50 مترا مربعا 6 آلاف يورو (نحو 6365 دولارًا)، وتكون مجهزة تجهيزا بسيطا وأحيانا من دون مصعد.
* النزوح سبب ارتفاع الإيجار
ولقد شهدت كل المدن الألمانية ما بين عام 1980 وعام 2015 ارتفاعا صاروخيا في بدل الإيجارات تجاوز 100 في المائة، وبعد الوحدة بين شطري ألمانيا تفاقم الوضع لنزوج مئات الآلاف من الأقاليم الشرقية إلى الغربية، فظهرت أزمة قلة المساكن.
وظلت العاصمة برلين تقاوم ارتفاع بدل الإيجارات وأسعار الأراضي إلى أن استسلمت لأصحاب العقارات والمباني، مما جعل الفترة الذهبية التي عاشتها بعد الوحدة في طي النسيان. واليوم فإن بدل إيجار شقة مساحتها 50 مترا مربعا قفز من 500 يورو (نحو 530 دولارًا) إلى 1000 يورو (1060 دولارًا) شهريا، وتوجد أحياء في برلين لا يمكن لموظف أو عامل عادي حتى التفكير في السكن فيها، مثل الحي الحكومي أو وسط برلين الذي يعرف باسم «برلين ميتي». والأمر ليس أفضل في مدن مثل دوسلدورف أو أسن أو كولونيا أو بون، فشقة لا تتعدى 40 مترا مربعا لا يقل بدل إيجارها عن 500 يورو شهريا، يضاف إليها الكهرباء ومصاريف جانبية أخرى.
هذا الوضع والتوقعات بمواصلة ارتفاع بدل الإيجار دفع بالكثيرين، وبالأخص الطلاب إلى التفكير أو اللجوء إلى المساكن المتنقلة، وهي فكرة بدأت قبل 15 سنة في مدن كبيرة مثل ميونيخ وفرانكفورت لكن القلة كانوا يخوضون هذه المغامرة، والفكرة توسعت اليوم وأصبح هناك شركات ومقاولون ومهندسون يقومون ببناء ما يسمى بـ«الميني» شقق، أو شقة صغيرة متنقلة مساحتها بضعة أمتار مربعة، تتوفر فيها كل وسائل الراحة والضروريات من المطبخ والسقيفة الصغيرة إلى المرحاض وحتى الحمام.
* السكن المتحرك
مع تزايد الإقبال على الشقق المتنقلة، أصبح التنافس كبيرًا بين الشركات والمقاولين لعرض الأفضل والأجمل والأحسن.. وبالطبع الأكثر تنافسية وجذبًا من حيث الأسعار. وهناك اليوم شقق بمساحة لا تقل عن العشرين مترا مربعا بسعر 15 إلى 30 ألف يورو (16 إلى 32 ألف دولار)، وتدخل ميدان المنافسة شركات نمساوية كثيرة، وهذا شجع سيدة الأعمال النمساوية تريزا شتاينغر وصديقها على «ركوب الموجة» وتأسيس مكتب عقارات في ألمانيا لبيع المنازل المتحركة، وساعدها في ذلك أنها مهندسة معمارية وصديقها خبير عقاري، وهي تختار للزبائن الأماكن المفضلة لتركيز البيت مع توفير كل مستلزماته كالكهرباء والتدفئة بواسطة الطاقة المتجددة التي تحتاج فقط إلى صفائح شمسية. كما تتوفر إمكانية الاتصالات عن طريق الهواتف النقالة، التي يمكن ربط عقدها بتوفير قنوات تلفزة.
وأغلب زبائن تريزا شتاينغر من الشباب الذين يرغبون في العيش وسط الطبيعة، أو ممن لا يمتلكون أموالا طائلة للإيجار، فيلجأون إلى القروض الصغيرة أو مساعدة من العائلة.
ولدى هذه الشركة اليوم منازل لها شرفة ونوافذ نصف حجرية مساحتها 2.5 متر X 6 أمتار، وحتى العشرة أمتار، لكنها ثابتة من دون أساسات، مع ارتفاع نحو النصف متر عن الأرض. ويترك الخيار للزبون لإدخال تعديلات على التقسيمات الداخلية أو فرش الشقة.
ولا يخشى ساكن مثل هذه البيوت أي نقص، فأعمدة الخطوط الكهربائية متوفرة في ألمانيا حتى بالقرب من الغابات، ومن يُرِد الاستقلال عن شركات الطاقة يمكنه استخدام لوحات ضوئية ووضع البطارية في أحد زوايا المنزل، فتطور هذه التقنية في ألمانيا جعل استخدامها سهلا للغاية.
إلا أن لارا مولر، الطالبة في جامعة كولونيا، لجأت إلى «حاوية» للسكن فيها حولتها إلى شقة صغيرة فيها كل لوازم العيش من الحمام وحتى زاوية النوم، وفي الصيف تستقبل أصحابها أمام باب الحاوية.
وكل ما يلزم لارا متوفر: فرن وتدفئة ومياه ساخنة تعمل بالبطارية، وماء للاستحمام يأتيها من خزان يحتوي على 650 لترا، كما أضافت إليه فلتر لماء الشرب، لكن عليها أن توجد في مكان فيه «وصلة» مع أحد المجاري الصحية من أجل التخلص من مياه الصرف، وتسكن اليوم بالقرب من تجمع سكني مما يجعلها غير معزولة.
وتبرر لورا هذه الخطوة بأن هناك أكثر من 80 ألف شخص في المدينة، والشقق المعروضة للإيجار بأسعار معقولة لا تتجاوز نحو 5 آلاف شقة. وهي من جانبها لا تستطيع دفع بدل إيجار مرتفع لأنها تحصل من والديها على 670 يورو شهريا (نحو 710 دولارات) فقط، وأجرة أصغر شقة تبلغ نحو 650 يورو.. لذا قررت العمل خلال الصيف وشراء حاوية حولتها إلى شقة مريحة، ووضعتها في مكان لا يبعد عن الجامعة سوى 40 دقيقة بالدراجة.
* السكن في العائمات
كما دفع ارتفاع أسعار الشقق البعض إلى السكن فوق الماء - أو بالقرب منها - في عوامات، مما جعل هذا القطاع في رواج متواصل. ففي برلين على سبيل المثال شركة «فاسر فيرك» المتخصصة ببناء عائمات لتكون إما مكاتب أو شقق عائمة، فالأسعار كما تقول مديرة التسويق أقل بكثير مما يدفعه الناس لشراء مساكن. فشقة عائمة مساحتها حتى الـ70 مترا مربعا من طابقين لا يتعدى سعرها 80 ألف يورو (نحو 85 ألف دولار).
والعائمات هي بيوت متينة تبنى من الخشب والحديد كما البيوت العادية، ويدخل الحجر في أماكن معينة. وهي مسطحة كي لا تتعرض لفقدان التوازن، رغم أن هذا نادر لأنها تكون على ضفاف البحيرات حيث المياه غير متحركة. وتطلي جدران العائمة من الداخل والخارج بطلاء السفن. ويعتمد في الإنارة والتدفئة والكهرباء والغاز على طريقتين: إما عبر مولد كهرباء أو عن طريق الطاقة الشمسية التي أصبحت منتشرة في ألمانيا.
والهندسة التي بينت بها المساكن العائمة تسمح بتمديد أنابيب ماء مع تنظيم ماء الصرف فيها بشكل لا يختلف عن البيوت العادية، وبواسطة مضخة يتم الاستفادة من مياه البحيرات، ولكل عائمة جسر قصير يتصل بالرصيف حيث تربط به.
* منازل عمودية
وضع المهندس المعماري كارل فولف في مدينة فريدريش هافن تصاميم منزله العمودي كي يبنى في فراغ بين عمارتين في شارع جانبي، سعيًا منه للاستفادة من كل سنتيمتر مربع. فارتفاع البيت سوف يكون 240 سنتيمترا، وعرضه 130 سنتيمترا. ورغم صغر مساحته، تتوفر فيه كل شروط الإقامة المريحة، فهو مؤلف من ثلاثة طوابق مفتوحة عموديا على بعضها البعض؛ الطابق الأرضي غرفة مطالعة ومطبخ، ثم سلم قصير إلى الطابق العلوي حيث غرفة النوم والحمام، وفوقه غرفة جلوس، ولا تغيب النوافذ عن التصميم.
وبهذا يريد المهندس الألماني مواكبة التطور الهندسي في اليابان لمواجهة قلة المساكن وارتفاع أسعارها. فأحد المهندسين اليابانيين بنى في ضاحية بطوكيو بيتا عموديا من الزجاج من طابقين بهدف دخول أكبر كمية من الضوء الطبيعي.
* من بيوت إجازة إلى مساكن ثابتة
ومع أن القانون الألماني لا يسمح بالسكن التام في بيوت متنقلة أو بيوت غير حجرية، لكن يوجد حاليا في ضاحية برلين وعلى ضفاف الأنهار أو بالقرب من الغابات تجمع لما يسمى بمساكن «الإجازة» أو نهاية الأسبوع، وهي بيوت صغيرة مبينة من الخشب وفيها كل الضروريات الحياتية.
ولقد تحولت هذه المساكن منذ سنوات إلى مساكن عادية، فالساكنة الألمانية بيتر لوب، وهي مدرسة متقاعدة، تسكن منذ أكثر من عشر سنوات في منزل كهذا مؤلف من طابقين، الأرضي فيه غرفة الطعام والمطبخ وغرفة الجلوس، وفي الطابق العلوي غرفة نوم جدرانها من زجاج وأيضًا الحمام.
كما حولت لوب الجداران إلى خزائن داخلية، وأمام البيت حديقة صغيرة تطل على منزل آخر تسكنه امرأة مسنة، وله نفس المواصفات تقريبا، وتبلغ مساحة المسكن نحو 54 مترا مربعا.
وتدفع لوب شهريا 150 يورو للكهرباء والماء والتدفئة التي تشغلها طوال الشتاء. ووصلت تكاليف تحويل السكن وشرائه من مالكه السابق إلى 30 ألف يورو، ويحتاج الخشب إلى صيانة مرة كل خمسة أعوام.
وفي هذا التجمع السكني يوجد أكثر من مائة منزل من نفس النموذج تقريبا، معظم ساكنيهم لا تتوفر لديهم الإمكانية لاستئجار شقة، ويشعرون بالراحة في وسط الطبيعة طالما أن خطوط الهاتف والكهرباء والغاز متوفرة.



جدل أميركي حول تأثير بناء الشقق الفاخرة في الأحياء الفقيرة

المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه
المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه
TT

جدل أميركي حول تأثير بناء الشقق الفاخرة في الأحياء الفقيرة

المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه
المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه

غالباً ما ينظر النشطاء في مجال الإسكان بالولايات المتحدة الأميركية إلى بناء المباني السكنية الجديدة على أنه هو المشكلة، حيث يتم السماح للمطورين العقاريين ببناء مزيد من المساكن، لا سيما في الأحياء الفقيرة، مما يجعل المستأجرين والجيران في هذه المناطق يخشون من ارتفاع أسعار السوق وزيادة تكلفة الإيجارات عليهم، في حين يميل الاقتصاديون، من ناحية أخرى، إلى رؤية المباني الجديدة بوصفها الحل وليست المشكلة، حيث يقولون إن الطريقة الوحيدة لتخفيف النقص في عدد الشقق، الذي بدوره يؤدي إلى رفع الإيجارات، هي بناء مزيد من المساكن، فهم يؤكدون أن بناء ما يكفي من المساكن سيؤدي لانخفاض الإيجارات بشكل عام.
وتعدّ الإشكالية بين هذين الرأيين أساس حالة الجدل المثارة حول البناء الفردي والمعارك الأوسع حول كيفية تخفيف أزمة الإسكان في الولايات المتحدة. وحتى وقت قريب، لم تكن هناك أي بيانات تقريباً على نطاق الأحياء لحل هذه الأزمة، ويبدو أن كلا الرأيين صحيح في الوقت نفسه، فالمساكن الجديدة قد تساعد في خفض الإيجارات في مناطق المترو على سبيل المثال وذلك حتى في الوقت الذي قد يعني فيه ذلك زيادة الطلب على هذه المناطق مما يزيد من قيمة الإيجارات فيها.
وتقدم دراسات جديدة عدة أخيراً بعض الأدلة المشجعة، إن لم تكن كاملة، حيث نظر الباحثون في جامعة نيويورك و«معهد آب جون»، وجامعة مينيسوتا، إلى ما يحدث بشكل مباشر مع بناء المساكن الجديدة، واسعة النطاق، والتي تُباع بسعر السوق (دون قيود على قيمة الإيجار)، حيث تشير دراسات عدة بالفعل إلى أن المناطق التي تبني مزيداً من المساكن تكون أسعارها معقولة، وتتساءل هذه الدراسات الحديثة عما إذا كان هذا النمط يظل ثابتاً عند النظر إلى بناء المساكن الفردية وليس المجمعات السكنية الكبيرة.
وتشير النتائج، مجتمعة، إلى أن المساكن الجديدة يمكن أن تخفف من حدة ارتفاع الإيجارات في المباني الأخرى القريبة، لكن جاء رأي هذه النتائج مختلطاً حول ما إذا كان المستأجرون من ذوي الدخل المنخفض يستفيدون بشكل مباشر من المباني الجديدة أيضاً.
وتمثل أنواع المباني التي تصفها هذه الدراسات، والتي تخضع لسعر السوق وتتكون من 50 وحدة سكنية أو أكثر، غالبية المباني الجديدة الآن، كما تستهدف الغالبية العظمى من الشقق الجديدة اليوم المستأجرين من ذوي الدخل المرتفع، حيث يبلغ متوسط الإيجار لوحدة جديدة الآن 1620 دولاراً أميركياً في الشهر، أي أعلى بنسبة 78 في المائة من متوسط الإيجار على مستوى البلاد، وذلك وفقاً لـ«مركز هارفارد المشترك للدراسات الإسكانية»، (كما أن الهوة بين هذه الأرقام آخذة في الاتساع)، وتميل هذه المباني أيضاً إلى أن تكون الأكثر ظهوراً في المعارك المتعلقة بالإسكان في مختلف الأحياء الأميركية.
وتقول الزميلة في «مركز فورمان» بجامعة نيويورك، والتي درست تأثير المباني الجديدة في نيويورك، شياودي لي: «المستأجرون لا يحبون فكرة بناء المباني الشاهقة الجديدة، وذلك لأنهم يجدون هناك ارتفاعاً أيضاً في قيمة الإيجارات لديهم».
وقد يفترض الجيران أن المباني الجديدة تتسبب في ارتفاع الإيجارات، وهذا أمر مبرر إذا كانت المباني الجديدة تجذب كثيراً من السكان الأكثر ثراءً، والذين بدورهم يجذبون وسائل الراحة الراقية التي تجعل الحي مرغوباً فيه بشكل أكبر.
وتضيف لي: «السؤال الرئيسي هنا هو: ما التأثير الحقيقي لبناء هذه المباني؟». وقد وجدت لي أن المباني الجديدة في نيويورك تجذب مزيداً من المطاعم والمقاهي في المناطق المجاورة، لكنها خلصت إلى أن أي تأثير قد يؤدي لرفع الإيجارات في المناطق المجاورة لهذه المرافق، سيتم وقفه بسبب زيادة المعروض من المباني، وهو الأمر الذي يؤدي لخفض الإيجارات، كما وجدت أنه مقابل كل زيادة بنسبة 10 في المائة في المعروض من المساكن، فإن إيجارات العقارات التي تقع على مسافة 500 قدم تنخفض بنسبة واحد في المائة، وذلك مقارنة بالمناطق الأخرى التي يرتفع فيها الطلب.
ولكن يبدو أن هذه الفوائد ستذهب للمستأجرين في المباني الراقية والمتوسطة القريبة، حيث يفترض أن مالكي العقارات يرون منافسة جديدة في الجوار مما يدفعهم لتعديل قيمة إيجارات مساكنهم بما يتناسب مع هذه المنافسة، لكن «لي» وجدت أن المباني الجديدة ليس لها أي تأثير على إيجار العقارات التي تقع على بُعد أكثر من 500 قدم، وأنها لا تؤثر أيضاً على إيجارات الوحدات منخفضة التكلفة القريبة، وذلك لأنه ربما لا يرى ملاك هذه الوحدات الأبراج الفاخرة الجديدة على أنها منافسة لهم بشكل مباشر.
وفي دراسة منفصلة، وجد براين أسكويث وإيفان ماست من «معهد آب جون»، وديفين ريد في «بنك فيلادلفيا الفيدرالي»، مجموعة مماثلة من النتائج في 11 مدينة رئيسية، بما في ذلك أتلانتا وأوستن وشيكاغو ودنفر، وشملت الدراسة المباني الجديدة التي تضم 50 وحدة على الأقل والتي تم بناؤها في أحياء يقطنها ذوو الدخل المنخفض في وسط المدينة، ويقدر هؤلاء الباحثون أن هذه المباني الجديدة تؤدي لخفض الإيجارات بنسبة بين 5 و7 في المائة في المناطق المجاورة بشكل مباشر، وذلك مقارنة بقيمة الإيجارات المتوقعة في حال لم يكن قد تم بناء هذه المباني الجديدة.
ولكن لا تعني الدراسة أن الإيجارات تنخفض بالفعل، إلا إنها تشير، بدلاً من ذلك، إلى أن المباني الجديدة تبطئ وتيرة زيادة الإيجارات في أنواع الأحياء التي يصفها المطورون العقاريون بأنها مرتفعة بالفعل، حيث إنه بحلول الوقت الذي يصل فيه هؤلاء المطورون إلى حي ما، خصوصاً مع وجود خطط لمشاريع كبيرة الحجم، فإنه من المرجح أن ترتفع الإيجارات بشكل سريع.
وعن تفسيره النتائج التي توصل إليها في اجتماع عام بشأن الرؤية السابقة، يقول ماست: «الأثرياء يتطلعون بالفعل إلى الانتقال إلى حي ما، ولذلك فإنه يمكننا بناء ذلك المبنى الذي يمنحهم شكل الوحدة التي يريدون أن يعيشوا فيها، وفي حال لم نفعل ذلك، فإنهم سيقومون بشراء وحدة في مكان قريب ثم سيقومون بتجديدها».
وقد يكون هذا الرأي غير مريح بالنسبة للمقيمين في الأحياء منذ فترة طويلة، خصوصاً أولئك الذين يشعرون بالقلق من التغيرات التي تحدث في أحيائهم والتي تتجاوز فكرة قيمة الإيجارات فقط، لكنه يمثل رداً على نقطة واحدة على الأقل فيما يخص الجدل المثار حول بناء المباني السكنية الجديدة.
ويقول الأستاذ في جامعة نيويورك، إنغريد غولد إيلين: «هذه النتائج تشير ببساطة إلى أن بناء مزيد من المساكن في أحد الأحياء لن يؤدي إلى تفاقم أعباء الإيجار المرتفعة، ولكنه قد يساعد في التخفيف من حدتها».
ويأتي أحد التحذيرات في الأبحاث التي أجراها أنتوني داميانو وكريس فرينير، اللذان يدرسان للحصول على الدكتوراه في جامعة مينيسوتا، حيث قاما بدراسة المباني الجديدة واسعة النطاق التي بنيت في مينابولس، وقد وجدوا أن بناء المساكن الجديدة قد ساعد في تخفيف حدة ارتفاع قيمة الإيجارات للوحدات الراقية القريبة، لكنهم خلصوا إلى أنه في الثلث الأسفل من السوق يكون للمباني الجديدة تأثير معاكس، حيث ترتفع قيمة الإيجار بشكل سريع.
ومن الممكن في بعض السياقات أن يتسبب بناء الشقق الجديدة، التي تباع وفقاً لسعر السوق، في قيام ملاك العقارات في المناطق القريبة بكبح جماح قيمة إيجار شققهم، لكنه قد يتسبب أيضاً في رؤية مجموعة أخرى من الملاك أن قيمة إيجاراتهم تعد قليلة مقارنة بالأسعار الجديدة، ومن المحتمل أن يشعر المستأجرون من ذوي الدخل المنخفض بالغضب من المساكن الجديدة في البداية، وذلك حتى لو كانوا سيستفيدون منها على المدى الطويل، وذلك لأنه مع تقدم عُمر هذه المباني الجديدة، فإن أسعارها تصبح في المتناول.
وبشكل عام، فإن هناك أدلة في هذه الدراسات كافة على أن العرض والطلب يعملان على النحو الذي يتوقعه الاقتصاديون، وذلك حتى على نطاق الحي الواحد، ولكن هناك أيضاً أدلة على تحقيق مخاوف المستأجرين الأكثر فقراً.
ويقول داميانو: «هؤلاء هم الأشخاص الذين مروا بعدد كبير من التجديدات الحضرية، وإنشاء الطرق السريعة، والاستثمار العام في الإسكان، وإخفاقات التخطيط الأوسع والمؤسسات الحكومية على مرّ الأجيال، وأعتقد أن الخوف من مجرد جملة (مبنى جديد) هو خوف حقيقي ومبرر، والأمر متروك للمخططين وصانعي السياسات للنظر إلى تلك المخاوف بشكل جيد».

* خدمة «نيويورك تايمز»