د. أحمد عبد الملك: الرواية مساحة نبيلة للتعبير ولا يجوز أن يلجها «غشماء السرد»!

القطريون بدأوا كتابة الرواية عام 1993 وأنتجوا 23 منها في ربع قرن

د. أحمد عبد الملك
د. أحمد عبد الملك
TT

د. أحمد عبد الملك: الرواية مساحة نبيلة للتعبير ولا يجوز أن يلجها «غشماء السرد»!

د. أحمد عبد الملك
د. أحمد عبد الملك

خلافًا لدول الخليج التي تتقاسم معها الطبيعة الاجتماعية والثقافية، لم تظهر الرواية في دولة قطر إلا متأخرة جدًا، وتحديدًا في عام 1993، على الرغم من أن الأدب القطري هو جزء من أدب الخليج والجزيرة العربية المنطقة، التي عرفت السرد منذ قرون، وظهرت فيها الرواية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وفي دراسة مهمة ومسحية، قام بها الناقد والروائي القطري الدكتور أحمد عبد الملك، تحمل عنوان «الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات» التي صدرت في كتاب عام 2015 ترصد وتحلل الإنتاج الروائي القطري على مدى 22 عامًا منذ عام 1993 حين صدرت الرواية القطرية الأولى «العبور إلى الحقيقة» للكاتبة شعاع خليفة.
يتحدث الدكتور أحمد عبد الملك في الحوار التالي مع «الشرق الأوسط» الذي أجري معه في الدوحة، عن بدايات التجربة الروائية في قطر، وأسباب تأخرها، وعناصر التأثير فيها. وكذلك قلة المنتج الروائي القطري قياسًا بالفنون الإبداعية الأخرى، فالإنتاج الروائي القطري الذي يمتلك الشروط الفنية للرواية، لم يتعدَّ 23 رواية خلال نحو ربع قرن.
الدكتور أحمد عبد الملك، كاتب وناقد، وإعلامي، وله ست تجارب روائية، هي: «أحضان المنافي» (2005)، و«القنبلة» (2006)، و«فازع شهيد الإصلاح في الخليج» (2009)، و«الأقنعة» (2011).. ويصدر له هذا الأسبوع رواية «الموتى يرفضون القبور» (2016)، ورواية «شو» (تحت الطبع).. وكتب في النقد الأدبي، بينها الدراسة الأخيرة عن «الرواية القطرية».
* هل لك أن تحدثنا عن البدايات.. لماذا تأخر ظهور الرواية القطرية حتى عام 1993 تاريخ صدور الرواية القطرية الأولى «العبور إلى الحقيقة» للكاتبة شعاع خليفة؟
- بدايات الرواية القطرية كانت في عام 1993، عندما أصدرت الكاتبة شعاع خليفة أولى الروايات وهي «العبور إلى الحقيقة»، ثم أعقبتها برواية «أحلام البحر القديمة»، التي أشارت فيها إلى أنها كتبتها عام 1990. كما أصدرت أختها دلال خليفة روايتها الأولى «أسطورة الإنسان والبحيرة»، وبذلك تكون الأختان شعاع ودلال خليفة رائدتي العمل الروائي في قطر.
وتوالت روايات الأختين بعد ذلك، حيث أصدرت شعاع «في انتظار الصافرة» عام 1994، وأصدرت دلال «أشجار البراري البعيدة» عام 1994 ثم «من البحّار القديم إليك» عام 1995 ثم «دنيانا.. مهرجان الأيام والليالي» عام 2000. ومنذ عام 2005 أصدرتُ أنا رواية «أحضان المنافي»، ثم «القنبلة» عام 2006، ثم «فازع.. شهيد الإصلاح في الخليج» عام 2009، ثم «الأقنعة» عام 2011، ثم «الموتى يرفضون القبور» عام 2016، ورواية أخرى في المطبعة هذه الأيام هي «شو». وأصدرت الكاتبة مريم آل سعد رواية «تداعي الفصول» عام 2007، ثم أصدرت نورة آل سعد رواية «العريضة» عام 2010، وأصدر الكاتب عبد العزيز المحمود رواية «القرصان» عام 2011، ورواية «الشراع المقدس» عام 2014، وأصدر جمال فايز رواية «زبد الطين» عام 2013، كما أصدر عيسى عبد الله رواية «كنز سازيران» عام 2013، ورواية «بوابة كتارا وألغاز دلمون» عام 2014، ورواية «شوك الكوادي» عام 2015، وأصدرت شمة الكواري رواية «نوافير الغروب» عام 2014، وكذلك رواية «روضة أزهار الياسمين» عام 2014، و«هتون نور العيون» عام 2015. وأصدرت أمل السويدي رواية «الشقيقة» عام 2014.
أما سبب تأخر ظهور الرواية القطرية، فلا توجد أسباب محددة، حيث كان الكُتاب والكاتبات منهمكين في القصة القصيرة، ومعظم الذي كتبوا الرواية كانوا في الأساس من كتاب القصة القصيرة. وأعتقد أن اطلاع المبدعين القطريين على النماذج الحديثة في الرواية قد أسهم في ظهور الرواية القطرية.
* أيضًا كيف تفسّر قلة الأعمال الروائية في قطر، في كتابك «الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات» أحصيت نحو 23 رواية قطرية تمتلك فعلاً شروط الرواية الفنية؟
- قلة الأعمال الروائية القطرية، راجع لطبيعة حجم سكان البلد، وبالتالي نسبة المبدعين فيه، ناهيك بأن العمل الإبداعي له اشتراطات، ولقد بينت أنا ذلك في كتاب (الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات)، لأن كثيرًا من الكتاب والكاتبات قد مارسوا كتابة الرواية دون إلمام بالخصائص السردية التي تحكم الرواية، وللأسف، هناك كثير من المخالفات والمغالطات في تثبيت مدلول مفهوم الرواية، ولقد أصبح الجميع يكتب رواية، دون أن يكون قد قرأ رواية واحدة! وهذه إحدى إشكاليات الإنتاج الضعيف الذي نراه اليوم.
* أنت شخصيًا لديك أربع تجارب روائية: «أحضان المنافي»، و«القنبلة»، و«فازع شهيد الإصلاح في الخليج»، و«الأقنعة».. أين تضع هذه الأعمال في سياق التجربة الروائية في قطر..؟ لماذا لم تُضَمِّنْها في دراستك عن الرواية القطرية؟
- نعم، لدي أربع روايات، وسيكون الرقم ستة روايات عند نشر هذا الحديث، حيث وقَّعْت رواية «الموتى يرفضون القبور»، وهنالك رواية أخرى في المطبعة اسمها «شو». أما أين أضع أعمالي في سياق التجربة الروائية في قطر، فأنا تجاوزت الهم الاجتماعي أو استحضار الماضي في رواياتي، وقفزت إلى المستقبل كما هو الحال في رواية «فازع.. شهيد الإصلاح في الخليج» حيث تتحدث عن مملكة من ممالك الخليج بعد 50 عامًا من عام 2009، وأيضًا رواية «الأقنعة» التي حبكت حول جريمة تقع في فندق بلندن، وأيضًا رواية «الموتى يرفضون القبور» حيث فلسفة الموت والحياة، وأن الأحداث أغلبها تدور في المقبرة. أما لماذا لم أضمِّن أعمالي تلك الدراسة حول الرواية القطرية، فأعتقد أن هذا هو الأصول والأمانة الأدبية، فأنا لا أستطيع تقييم أعمالي، وأترك للآخرين ذلك. وهذا يزيد من مصداقية الدراسة التي قدمتها.
* ذكرت في كتابك أن بعض التجارب الروائية في قطر خلطت بين القصة القصيرة والرواية، أو بين الرواية والخواطر الذاتية والإنشاء.. أليست هذه أزمة الرواية العربية عمومًا وليست خاصة بقطر..؟
- نعم، هنالك التباس في المصطلح لدى كثيرين ممن يكتبون الرواية! وأنا تحدثت عن هذا كثيرًا، هنالك من كتب ما سماها رواية، دون أن يدرك الخصائص السردية التي تشّكل الرواية أو تكون إطارًا علميًا لها. كثيرون كتبوا خواطر أو ذكريات سفر، أو هواجس ليل، وسموها رواية! وهذا خلط غير حميد، أنا لم أكتب روايتي الأولى إلا بعد أن عكفت على قراءة أكثر من خمسين رواية متنوعة بين الأدب العربي واللاتيني والأوروبي والشرقي أيضًا. الرواية مساحة نبيلة للتعبير ولا يجوز أن يلجها من سماهم صديقي الدكتور عبد الله إبراهيم «غشماء السرد»! نعم، لا توجد جهة تحدد المسار، أو تفرز المفاهيم، والكل صار يعلّق آماله في الشهرة على الرواية، لا أختلف معك على أنها أزمة الرواية العربية، ولكن «الزبد» تذروهُ الرياح، وحتمًا سوف يأتي جيل يدرك المعاني النبيلة للرواية، حتى وإن تعلق «غشماء» السرد بالواقع الافتراضي لهم، وتفاخروا بالآلاف أو مئات الآلاف من المتابعين على الواقع الافتراضي. الكتابة النبيلة يجب أن تحترم اللغة، وتقدم للقارئ بديع اللغة، وحرفنة الوصل والتواصل بين الشخصيات وتطوراتها، وكثيرًا من الأعمال سادتها أخطاء نحوية وعدم اهتمام بتطور الشخصيات أو الاهتمام بالزمكانية أو تطور الحدث.
* هل تراجعت الرواية لوحدها من بين الأجناس الأدبية والفنون الأخرى، لوحدها في قطر..؟ بمعنى هل هناك اتجاه نحو أجناس إبداعية أخرى..؟
- كلا، الرواية تسير في سرعة مذهلة نحو التطور، ولم تتراجع، وهي أداة ناجعة للتعبير عن المجتمعات، حيث تغني عن المقالة أو المسرح أو الأغنية، التي تحاصرها الرقابة في بعض الدول. لقد تراجع المسرح نظرًا للظروف السياسية التي ألمت بالعالم العربي، بل وتراجع الشعر العربي، مع التقدير لدور الشعر الشعبي! لم ألحظ أجناسًا أخرى في الإبداع، لكن القصة والرواية في تقدم، والدليل أن جيل الشباب بدأ يقرأ القصة والرواية، وبعضهم يكتبها، وله محاولات جيدة تستحق التشجيع.

البيئة والتراث

* كيف تقّيم تجربة عبد العزيز المحمود، الذي أصدر روايتين: «القرصان» و«الشراع المقدس»..؟
- تجربة الأخ عبد العزيز المحمود تجربة فريدة، فأنا لم أعرفه قاصًا ولا روائيًا من قبل، قدر ما كان صحافيًا مقتدرًا. أنا قرأت رواية «القرصان» بشغف، ولن أناقشها من حيث اقترابها من صدقية التاريخ، كلا، أنا قرأتها قراءة فنية، ورأيت فيها لوحة تاريخية معبّرة عن مأساة «ارحمة بن جابر» المقلب بالقرصان، وأعجبني فيها تقسيم فصول الرواية على الأمكنة، وهذا اتجاه جميل، يزيد في التشويق، والانتقال من بيئة إلى أخرى، بكل ما فيها من مناظر وملامح الحياة، من دارين، إلى الزبارة، إلى الشواطئ الإيرانية إلى خورفكان إلى مسقط إلى بومبي إلى «الرس» وغيرها، وهذا ما أضفى على الرواية بعدًا تشويقيًا رائعًا، وإن كنت أتمنى زيادة استخدام البديع والبيان في السرد. رواية «الشراع المقدس» لم أُكملها، ولكنها أيضًا تصبّ في اهتمامات الأخ عبد العزيز المحمود في قراءة التاريخ، وهي ترصد حقبة مهمة من الحقب التي مرت بها منطقة الخليج.
* دراستك ركزت على أثر البيئة في اتجاهات الرواية القطرية.. كيف تصفه؟
- البيئة مهمة في العمل الروائي، لأن الرواية تخدم المجتمع، ولا بد للروائي من تقديم البيئة تقديمًا جيدًا، حتى وإن كانت الرواية متخيلة، أنا تحدثت عن البيئة في كتاب «الرواية القطرية.. قراءة في الاتجاهات»، لأن أولى التجارب الروائية قد صورت البيئة تصويرًا جيدًا، نقل الصورة عن المجتمع القطري للقارئ العربي، وهذا من أهداف الرواية. إن روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم قد نقلت البيئة نقلاً تصويريًا جميلاً عن المجتمع الذي تحدث فيه الرواية، لذا، أقول هنا: لا بد من تمثيل البيئة في العمل الروائي، ولا نخلق له «واقعًا افتراضيًا» يخصنا لوحدنا، أما كيف أصف ذلك، فإن الأعمال الروائية القطرية قد التصقت بعملية التحول من القرية إلى المدينة، ومن العمل البسيط في التجارة إلى العمل في النفط، ونشوء الشركات، وتطور الإدارة، وأثر التعليم في حياة المجتمع، لذا أستطيع القول إن الرواية القطرية قد صوّرت البيئة القطرية خير تصوير، ووجدت ذلك في أعمال شعاع خليفة ودلال خليفة ومريم آل سعد، وأيضًا في روايتي «أحضان المنافي» و«الموتى يرفضون القبور».
* هناك تحولات ثرية شهدها المجتمع الخليجي والقطري لماذا لم يتحول التاريخ والتراث والأساطير والأحداث التي شهدها الخليج إلى ملهم في كتابة الرواية بشكل أكبر..؟
- استلهام التراث والأساطير من الموضوعات المهمة في إثراء الرواية الخليجية عمومًا. لقد حاول بعض الروائيين استلهام التراث والأساطير في الرواية، كما فعل صديقنا الدكتور سعيد السيابي من عمان في رواية «جبرين وشاء الهوى»، وكذلك فعل صديقنا الروائي القطري عيسى عبد الله في «كنز سازيران» وما بعدها، وأيضًا أعجبت بما قام به الروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل في رواية «الظهور الثاني لابن لعبون»، التاريخ فيه مشاهد كثيرة يمكن استلهامها وتصويرها من جديد برؤية حديثة، ولكن لا أريد أن تتحول الرواية إلى ما تحول إليه المسرح، من حيث الإغراق في «الثيمة» البحرية، والمتمثلة في عشق البحار لابنة «النوخذا»، ومهرها «الدانة» فلقد صار إغراق كبير في هذا الشأن.
* هل تعتقد أن مجتمعا صغيرًا ثريًا وناشئًا على ضفاف البحر، ليست لديه حكاية يرويها..؟
- أن يكون هنالك مجتمع صغير وثري على ضفاف الخليج، ليس لديه حكاية يرويها! بالطبع لا. لأن التراث الخليجي ثري بالحكايا والصور والمواقف، ولكن نحن نعاني من «انفصام» و«تنكّر» لكل ما هو ماضي، أو تراثي. أنا لا أريد أن أوغل في التمسك بالتراث، ولكن أسعى لترسيخ القيم، وآباؤنا قالوا: «الأولون ما تركوا للآخرين شيئًا». طبعًا أنا لا أعتبر هذه قاعدة، ولكن فعلاً المعرفة والثقافة في انحدار، وثقافة الإلهاء والتسطيح في تصاعد، وأنا أخشى من هذا الوضع المخيف. مجتمع الخليج لديه حكاية، يمكن أن يستخدمها في القص والرواية، ولكن نحتاج إلى الرؤية المتعمقة في دراسة أحوالنا السياسية والاجتماعية، وأن تكون الرواية مسبارًا حقيقيًا للتغير في حياة المجتمعات، لا أن تكون « ترفًا» فكريًا يضخم « الأنا» لدى البعض.
* هناك مهرجان «كتارا» للرواية العربية.. كيف لهذه الجائزة ولعموم فعاليات الحي الثقافي الكثيرة أن تثمر في المشهد الثقافي القطري..؟
- سؤالك عن جائزة «كتارا» للرواية العربية ذو شجون، أنا مع كل جائزة جديدة تدعم الإبداع العربي، وأنا شاركت في الدورتين السابقتين للجائزة ولم أفز.. ولم أزعل. ولكن تفتحت أسئلة في الدورة الثانية للجائزة، ومنها: هل من المعقول أن تنافس 100 رواية خليجية لست دول، مع 750 رواية من مصر والسودان؟ هذا سؤال مشروع! ثم إن الأسماء العربية في عالم الرواية، لا يمكن أن تنافسها الأسماء الخليجية.. وتلك إشكالية أخرى في تنظيم الجائزة. أنا أرى أن يتم التوصل إلى صيغة لا تحرم الفضاء الخليجي من الفوز بالجائزة، وهذا حق، لأن مصدر الجائزة خليجي وقطري. ثم إنني أريد أن أوضح أن هنالك إشكالية كبرى في تشكيل لجان التحكيم في الجوائز العربية؟ وكان لدي رأي في تشكيل لجنة الحكماء في الدورة الأولى، أنا أرى أنها كانت بحاجة إلى مراجعة.
أعتقد أننا بحاجة إلى البحث عن أهداف الجوائز العربية، وهذا حديث كثير من الأدباء والمبدعين العرب، لقد قرأت رواية فازت بجائزة عربية محددة، ورواية أخرى فازت بجائزة أخرى، وكان مستوى الروايتين متواضعًا، ولربما صُنفت الجائزة طبقًا لتوزيعات جغرافية. أنا فعلاً أستغرب من اتجاهات لجان التحكيم في جوائز مسابقات الرواية العربية، وهذا يفقدها المصداقية!



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.