ميلاد الأفكار اضطراري لا اختياري

لماذا اضطر غاليليو إلى إعادة النظر في أسس الفيزياء؟

غاليليو - كوبيرنيكوس
غاليليو - كوبيرنيكوس
TT

ميلاد الأفكار اضطراري لا اختياري

غاليليو - كوبيرنيكوس
غاليليو - كوبيرنيكوس

يعتقد كثير من الناس أن ميلاد الأفكار الجديدة تنجم عن اختيار العباقرة، بمعنى أنهم وبمجهودهم الفردي فكروا في معضلة معينة فوجدوا الحل. لكن المتتبع لتاريخ انبثاق الأفكار العلمية، بشكل خاص، يكتشف أن الأمر لا يتم بهذه البساطة. إذ نجد على الدوام، أن هناك شروطا تسبق ظهور أي فكرة جديدة، وليست هذه الشروط متعلقة فقط بالاقتصادي والسياسي، فهذه مجرد عوامل مساعدة، بل تكون المحركات الأساسية متعلقة بشروط نظرية، فهي السبب الحقيقي وراء بروز أي جديد.
سنحاول في مقالنا هذا، أن نبرز للقارئ أن الأفكار ليست اختيارية بل اضطرارية، بمعنى أن ميلاد فكرة، يكون لحل مأزق نظري يهدد الانسجام العام لنسق معرفي معين، أو يزعزع ما اعتقده الناس جوابا صحيحا لمدة طويلة. ولكي نقتنع بالأمر، سنضرب للقارئ مثالا توضيحيا من تاريخ العلوم، وهو: كيف تم ميلاد الفيزياء الحديثة مع العالم المشاكس غاليليو غاليلي (1642)؟ والذي ما كان له أن يعيد النظر في مبادئ الحركة، ومن ثم الفيزياء برمتها، لولا الرجة الفلكية التي سبقته، مع العالم البولوني نيكولاس كوبيرنيكوس (1543). فلنشرح ذلك:
إن العلاقة بين مؤسس الفلك الحديث، كوبيرنيكوس، ومؤسس الفيزياء الحديثة، لا تحتاج إلى توضيح كبير. فغاليليو الذي دخل في نزاع مع الكنيسة لمدة عشرين سنة، كان مدافعا عنيدا عن الكوبيرنيكية. بل هو الذي زج بها بشكل علني نحو الصراع، ببحثه عن الدلائل والحجج الملموسة، وليست الرياضية فقط، لإثبات مركزية الشمس. فهو من طوَّر المنظار الهولندي وضاعف قوته إلى أزيد من ثلاثين مرة، ووجَّهه نحو السماء في سنة مشهورة هي 1609. دوّن بعدها، ملاحظاته في كتاب تحت عنوان «رسول إلى النجوم». وكان ذلك بمثابة صفعة لأرسطو ونظامه. كما استطاع أن يكتشف نجوما جديدة، ما جعل مملكة السماء تتسع. كما اكتشف أقمارا أربعة للمشتري تدور حوله، ما يعني أن الدوران يمكن أن يكون لغير الأرض. وهذا ما يجعل فكرة مركزية الأرض مهددة. كما نشر أول خرائط حول القمر، الذي أصبح شبيها بالأرض، به الوديان والجبال. فسطحه ليس ناعما أو مصقولا، لكنه وعر وغير مستو، به النتوءات والهوات العميقة والتعرجات، ما يجعل فكرة كمال العالم العلوي تنهار. ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى الكتابة بالإيطالية عوض اللاتينية، لجعل أفكاره تصل إلى عامة الناس. وهو ما كلفه محاكمة مست كرامته وهو شيخ عجوز، وجعلته يقضي ما تبقى من حياته في إقامة جبرية.
لنتذكر بداية، أن القول بثبات الأرض القديمة، كرس فكرة وهي أن الأصل في الأشياء هو الثبات. فالجسم المتحرك هو متحرك لأنه يخضع لعنف وقسر ولا محالة سيعود إلى أصله. فالحالة الطبيعية للأشياء هي الاستقرار. فكل في مكانه الذي خلق لأجله. لهذا نجد أن أرسطو يؤكد على أن الحجرة أصلها ترابي. لذلك فهي ستكون في وضع غير طبيعي إذا ما تم قذفها. فنجدها تسرع للعودة إلى موطنها كما يسرع المهاجر عائدا إلى أصله، أو كما يهرع العاشق إلى حبيبته. إن هذا التصور سينهار كليا عندما سيتم تحريك الأرض مع العالم البولوني نيكولاس كوبيرنيكوس.

* حجة البرج الداعمة لثبات الأرض

* إن إعلان أن الأرض تدور ليس قضية فلكية فقط، بل سيلقي ذلك بظله على الفيزياء. فإذا ما تم القبول بافتراض مركزية الشمس ودوران الأرض، نكون لا محالة بحاجة إلى فيزياء جديدة، وبأسس جديدة تتلاءم وهذا المتغير؛ لأن حركة الأرض تتعارض والحس المشترك من جهة، ومن جهة أخرى، كانت الحجج المدعمة لسكونية الأرض مفحمة وتمثل تحديا جديا لكوبيرنيكوس. ولعل أقوى الحجج ما كان يدعى بحجة البرج، ومفادها أن الأرض إذا كانت تدور حول محورها، كما يزعم كوبيرنيكوس، فإن أي نقطة على سطحها، ستتحرك مسافة ما في الثانية، فإذا أسقط حجر من أعلى برج، فإنه سيستجيب إلى حركته الطبيعية ويسقط باتجاه الأرض. لكن البرج في أثناء ذلك سيتحرك مع حركة الأرض التي تدور حول محورها، وفي الوقت الذي يصل فيه الحجر إلى سطح الأرض، سيكون البرج قد تحرك من موقعه الذي كان يشغله في بدء سقوط الحجر إلى أسفل. ونتيجة لذلك، لا بد أن يقع الحجر على مسافة من قاعدة البرج، لكن هذا لا يحدث في واقع الحال، أي أن الحجر يقع على الأرض عند قاعدة البرج. ويتأتى من ذلك أن الأرض لا يمكن أن تدور حول نفسها، وأن كوبيرنيكوس جانب الصواب. وهناك حجة أخرى تتعلق بالمواد غير الملتصقة. فإذا ما قبلنا بدوران الأرض، فإن الطيور ستتيه عن أعشاشها، مثلما تطير الأحجار من إطار العجلة الدوارة، وإذا كانت الأرض تدور حول الشمس، فضلا عن دورانها حول محورها، فلماذا لا تترك القمر وراءها؟

* حجج غاليليو

* إن غاليليو الذي استطاع أن يجعل من نظرية مركزية الشمس، ليست مجرد فرضية تصلح لحل مآزق في الحسابات وضبط التقويمات، بل حقيقة فيزيائية ملموسة، كان لزاما عليه أن يجيب على مشكلتين يعترضان طريقه:
1- شرح لماﺫا يبدو السقوط هو نفسه سواء أكانت الأرض متحركة أو ثابتة؟
2- محاولة وضع مبادئ جديدة لسقوط الأجسام الحر.
للإجابة على هذين السؤالين، حاول غاليليو هدم حجة البرج الداعمة لثبات الأرض. فقدم حجة السقوط في الباخرة المتحركة، وﺫلك كما يلي: إذا ما تم إسقاط كرة من قمة عمود (سارية) باخرة متحركة، في خط مستقيم وبسرعة منتظمة، هل ستسقط الكرة في أسفل قدم العمود، أم ستسقط خلف الباخرة؟ بحسب فيزياء أرسطو، فالكرة ستسقط خلف الباخرة مثل حجة البرج المذكورة أعلاه. بينما بحسب الفيزياء الغاليلية الناشئة، فالكرة ستسقط في قدم العمود سواء كانت الباخرة متحركة أو ثابتة. فما السر في ذلك؟ الجواب على ﺫلك سيكون البداية الأولى للفيزياء الحديثة، المنسجمة مع الكوبيرنيكية. إنه يكمن في مبدأ العطالة، أو مبدأ القصور الذاتي. فالكرة الساقطة قاصرة لا حول لها ولا قوة. فهي مفعول بها وتأخذ سرعة الباخرة. فحركة الباخرة المنتظمة تطبع بطريقة ثابتة في الكرة التي تشاركها ﺫلك. وعندما تترك الكرة، فهي تحتفظ بهذه الحركة. بمعنى آخر، كان غاليليو يريد أن يقول للذين لا يزال عندهم شك في إمكانية قبول فكرة أن الأرض يمكن أن تدور، إن الأشياء ضمن الباخرة المتحركة لا تتبعثر، فالفراشات تطير محومة هنا وهناك بالطريقة نفسها، أكانت الباخرة ثابتة أم في حركة منتظمة. فغاليليو كان يسعى إلى أن يبرز أن السكون هو نوع من الحركة، في مقابل رأي أرسطو الذي يرى أن السكون ضد الحركة. كما كان يسعى إلى شرح كون حركة الجسم غير مرتبطة ببنيته الداخلية (ماء، تراب، هواء، نار)، بل مرتبطة بتأثير جسم آخر. فحركة الجسم أو سكونه ليست ذاتية، بل جراء قوة خارجية تفرض عليه ذلك، وهذا هو القصور الذاتي.
إن الفكرة الغاليلية القائلة إن الأصل في العالم هو الحركة وليس السكون، سيكون لها تأثير خطير في قلب كل الحقائق الأخرى. فالعالم لم يعد هادئا، بل فوارا، ومجالا للصراع بين القوى التي تعج به. وهو مثلا ما سينعكس حتى على التصور السياسي مع صديق غاليليو توماس هوبز (1588-1679)، مؤسس الفلسفة السياسية، الذي سينظر إلى المجتمع على أنه مجرد صراع بين الأشخاص، كل انطلاقا من القوة التي يملك (عضلات، منصب، جاه، مال...) فالإنسان ليس حيوانا اجتماعيا بالأصل، كما ادعى أرسطو، بل عليه أن يبذل الجهد لخلق الانسجام بين القوى المتطاحنة. بعبارة أخرى، لم تعد السياسة إلا صناعة بشرية ينظمها الإنسان بنفسه، وإلا دخلنا في حالة الطبيعة الهمجية.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».