يستعيد القارئ العربي أغاثا كريستي ككاتبة مذكرات في كتاب ترجم حديثًا تسرد فيه تجربة الرحيل والإقامة في سوريا والعراق بعنوان «تعال قل لي كيف تعيش» وهو عنوان قصيدة كتبتها المؤلفة مقدمة كتابها شعرًا. ترجم الكتاب بلغة جذابة أكرم الحمصي.
المقدمة-القصيدة مناجاة عشق بثتها كريستي لأحد التلال السورية الذي عشقته بشكل خاص وخاضت معه حوارًا شعريًا تسأله فيه: «تعال قل لي كيف تعيش» وهو تل براك إذ يطرح علم الآثار سؤاله على الماضي «ونعثر على الإجابة باستخدام المعاول والمجارف والسلال».
رغم تجنب الكاتبة أي حديث عن الآثار لكن ارتباطها الزوجي بخبير الآثار ماكس مالوان بين أطلال مدينة أور العراقية جعلها تخوض في التراب والحجر صحبة زوجها، بل تتواشج تجربتا الرواية وكسور التماثيل والجرار، في أكثر من موضع في هذه المذكرات رغم رحلة الشوق والبحث والمصير، عبر مدن وفيافٍ وسهوب بعيدة تمتلئ بالبعوض في فنادق غير مريحة وسط أعراب مبذرين يعتقدون أن تبذير المال تعبير عن مدى الوجاهة الاجتماعية للفرد، كما تقول.
تبدأ الكاتبة مذكراتها منذ لحظة «توضيب» الحقائب حتى التوجه إلى محطة قطارات فيكتوريا اللندنية، بوابة البريطانيين إلى العالم، ثم بيروت حتى مدن وبلدات الساحل السوري، ثم المثلث العراقي التركي السوري، وأبعد من ذاك.
اختراع السحّاب للملابس والحقائب قفزة في تاريخ الحياة اليومية للناس، لكن كريستي تكتشف، وهي تحاول إحكام حقائبها، أن شد سحاب الحقيبة قبيل السفر لا يختلف عن إجراء عملية جراحية!
«عندما كانت الحقيبة خاوية، كان السحاب يسيرًا وجذابًا ويختصر الجهد والوقت، كم بدت حركته، جيئة وذهابًا، سلسة. أما الآن، وقد امتلأت الحقيبة عن آخرها، فيبدو إغلاقها أشبه بمعجزة تفوق قدرات البشر».
أما عن الآثاري المسافر فأبرز ما يواجهه هو مشكلة الكتب.
«أي كتب ينبغي حملها، أي كتب ينبغي أخذها؟ أي كتب لها متسع، وأي كتب يمكن (بكثير من الحزن) تركها؟».
إن فصل الحقائب أحد أجمل صفحات الكتاب.
من كاليه، مرفأ الحدود الفرنسية إلى إسطنبول التركية، تأسر الطبيعة والعمارة هذه الروائية التي ابتليت بالآثار، إضافة لوظيفتها، على أن القطار هو أحد أصدقائها القدامى الذي تاقت للقائه بشغف لا يوصف.. هذا الصديق القديم الذي يحملها الآن إلى الجنة، حيث جزر الأحلام في بحر الجنوب، رغم «أن سكان بعض الجزر يتناولون أطباقًا من لحم العجل الحار، المطهو بالغلي البطيء والمغلف بالدهن وهم جالسون إلى مائدة غطاؤها على غاية القذارة».
لكن الوجه الآخر للجزر هو غير الجانب اليومي لحياتها «إنه الجمال الساحر الذي يدعوك إلى النزول».
إننا في الطريق إلى حلب لنتركها نحو بيروت.
ترسم كريستي شخصيات «روايتها» هنا بحذق السارد الخبير، لتجعل من الفريق المرافق لهما، هي وزوجها، شخصيات روائية بامتياز: ماك، المهندس المعماري الذي يشعرها بالخجل لفرط تقتيره بالكلام بل الميال إلى الصمت، والذي يعكف على كتابة أشياء لا يعرفها أحد في دفتر يومياته كلما اختلى بنفسه، وعيسى الطباخ الذي سيكتشفان أنه لا يجيد سلق بيضة وعبد الله، السائق، الذي سيعقد صفقات من وراء ظهر ماكس مع زبائن غرباء، ثم حمودة ونجلاه، وهم بمثابة مديري منزل غير موجود حتى الآن.
لماكس وجهة نظر صائبة بشأن عبد الله السائق، فوجهه ينم عن غباء، وإذ تعترض أغاثا على اختيار سائق غبي، يبرر ماكس: أقصد أنه يعوزه الذكاء الضروري ليكون محتالاً. فتقتنع أغاثا!
لكن أغاثا لا تتوقف عن سؤال نفسها كلما رأت المهندس المعماري ماك: يا إلهي، ما الذي يكتبه ماك في دفتر يومياته؟
بينما تركض السيارة منهكة نحو القامشلي، لنعرف أن «علينا أن نذهب إلى مكتب البريد لتسلم طرد يخص الرسام ميشيل الذي التحق بنا مؤخرًا».
«مدير مكتب البريد ليس موجودًا، لكنه يصل إلى مكان عمله بعينين مطبقتين وهو يتثاءب».
الطرود التي تصل لاحقًا ستكون في مكتب بريد عامودا، وغالبا ما ينساها المدير في الخزنة «لأنه يعتقد بأنها تحوي مواد ثمينة وينسى تسليمها».
تصل الطرود أخيرًا، وهي منامتان لاتقاء البعوض، لكن ماكس يعلق: «لم أر بعوضًا في المكان».
يبدو أن اختلاف المفاهيم الدينية موجود منذ القدم، فالعامل الإيزيدي لا يشرب الماء من البئر «لأن ابن الشيخ رمى بعض الخس فيها، وبموجب إيمانهم يمتنعون عن لمس أي شيء ملوث بالخس لأنهم يؤمنون بأن الشيطان مقيم فيه».
يتلو ماكس قانون مكافحة الشغب على العمال: «يحظر على الجميع الكذب على العمال الإيزيديين أو اضطهادهم، الجميع في هذه الورشة إخوة».
غالبًا ما يكون العمل على جبهتين: جبهة الحفريات بقيادة ماكس، وجبهة ترميم اللقى المكسورة والتصوير إضافة للكتابة بقيادة أغاثا.
وما أن ترى ماك، المهندس المعماري، حتى تعيد السؤال الحائر: ما الذي يكتبه، يا ترى في دفتر يومياته؟
ملتحقون جدد: طاه، اسمه ديمتري، ومساعده فرهيد، وصبري مدير منزل جديد، ومامبس هو المعماري الجديد، وعلاوي ويحيى وغيرهما عمال جدد.
يصل رجل وقور ملتح إلى ماكس: هل سيتدخل العسكر (الفرنسي) في تجارتي يا خواجة؟ يجيبه ماكس: لا، إنهم لا يتدخلون في شؤون الحفر.
يوضح الوقور: أقصد تجارتي الخاصة. وما هي: يسأله ماكس: تهريب السجائر.
تكتب كريستي: «يبدو تهريب السجائر عبر الحدود العراقية عالما قائمًا بذاته. إذ ما إن تدخل سيارة الجمارك إلى إحدى القرى حتى يدخل المهربون إليها في اليوم التالي. يسأل ماكس إن كان رجال الجمارك سيعودون مرة أخرى إلى أي قرية سبق لهم زيارتها فيرمقه الرجل بنظرة عتاب وهو يقول: بالطبع لا. وإن فعلوا فستكون الكارثة. بهذه الطريقة يدخن الرجال سجائر كلفتها بنسان لكل مائة سيجارة».
وفي شاغر بازار قرب عامودا «يمكن للمرء رسم المكان قبل ثلاثة آلاف سنة، إنه يقع على طريق قوافل مطروق للغاية يصل حران بتل حلف».
بعد انتهاء الرحلة ستكون العودة من بيروت إلى لندن بالباخرة، والانطباع الذي تسجله كريستي: كم أحببت أولئك الناس بكرمهم وصخبهم وطيبتهم.
لكن ذلك السؤال لم يزل نردده مع أغاثا: ما الذي كان يدونه ماك في دفتر يومياته؟
مذكرات آغاثا كريستي في سوريا والعراق
يوميات السفر إلى مناطق التاريخ بحساسية الروائي
مذكرات آغاثا كريستي في سوريا والعراق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة