مذكرات آغاثا كريستي في سوريا والعراق

يوميات السفر إلى مناطق التاريخ بحساسية الروائي

الممثل ألبرت فيني في دور المحقق بايروت في فيلم «جريمة قتل في القطار السريع»
الممثل ألبرت فيني في دور المحقق بايروت في فيلم «جريمة قتل في القطار السريع»
TT

مذكرات آغاثا كريستي في سوريا والعراق

الممثل ألبرت فيني في دور المحقق بايروت في فيلم «جريمة قتل في القطار السريع»
الممثل ألبرت فيني في دور المحقق بايروت في فيلم «جريمة قتل في القطار السريع»

يستعيد القارئ العربي أغاثا كريستي ككاتبة مذكرات في كتاب ترجم حديثًا تسرد فيه تجربة الرحيل والإقامة في سوريا والعراق بعنوان «تعال قل لي كيف تعيش» وهو عنوان قصيدة كتبتها المؤلفة مقدمة كتابها شعرًا. ترجم الكتاب بلغة جذابة أكرم الحمصي.
المقدمة-القصيدة مناجاة عشق بثتها كريستي لأحد التلال السورية الذي عشقته بشكل خاص وخاضت معه حوارًا شعريًا تسأله فيه: «تعال قل لي كيف تعيش» وهو تل براك إذ يطرح علم الآثار سؤاله على الماضي «ونعثر على الإجابة باستخدام المعاول والمجارف والسلال».
رغم تجنب الكاتبة أي حديث عن الآثار لكن ارتباطها الزوجي بخبير الآثار ماكس مالوان بين أطلال مدينة أور العراقية جعلها تخوض في التراب والحجر صحبة زوجها، بل تتواشج تجربتا الرواية وكسور التماثيل والجرار، في أكثر من موضع في هذه المذكرات رغم رحلة الشوق والبحث والمصير، عبر مدن وفيافٍ وسهوب بعيدة تمتلئ بالبعوض في فنادق غير مريحة وسط أعراب مبذرين يعتقدون أن تبذير المال تعبير عن مدى الوجاهة الاجتماعية للفرد، كما تقول.
تبدأ الكاتبة مذكراتها منذ لحظة «توضيب» الحقائب حتى التوجه إلى محطة قطارات فيكتوريا اللندنية، بوابة البريطانيين إلى العالم، ثم بيروت حتى مدن وبلدات الساحل السوري، ثم المثلث العراقي التركي السوري، وأبعد من ذاك.
اختراع السحّاب للملابس والحقائب قفزة في تاريخ الحياة اليومية للناس، لكن كريستي تكتشف، وهي تحاول إحكام حقائبها، أن شد سحاب الحقيبة قبيل السفر لا يختلف عن إجراء عملية جراحية!
«عندما كانت الحقيبة خاوية، كان السحاب يسيرًا وجذابًا ويختصر الجهد والوقت، كم بدت حركته، جيئة وذهابًا، سلسة. أما الآن، وقد امتلأت الحقيبة عن آخرها، فيبدو إغلاقها أشبه بمعجزة تفوق قدرات البشر».
أما عن الآثاري المسافر فأبرز ما يواجهه هو مشكلة الكتب.
«أي كتب ينبغي حملها، أي كتب ينبغي أخذها؟ أي كتب لها متسع، وأي كتب يمكن (بكثير من الحزن) تركها؟».
إن فصل الحقائب أحد أجمل صفحات الكتاب.
من كاليه، مرفأ الحدود الفرنسية إلى إسطنبول التركية، تأسر الطبيعة والعمارة هذه الروائية التي ابتليت بالآثار، إضافة لوظيفتها، على أن القطار هو أحد أصدقائها القدامى الذي تاقت للقائه بشغف لا يوصف.. هذا الصديق القديم الذي يحملها الآن إلى الجنة، حيث جزر الأحلام في بحر الجنوب، رغم «أن سكان بعض الجزر يتناولون أطباقًا من لحم العجل الحار، المطهو بالغلي البطيء والمغلف بالدهن وهم جالسون إلى مائدة غطاؤها على غاية القذارة».
لكن الوجه الآخر للجزر هو غير الجانب اليومي لحياتها «إنه الجمال الساحر الذي يدعوك إلى النزول».
إننا في الطريق إلى حلب لنتركها نحو بيروت.
ترسم كريستي شخصيات «روايتها» هنا بحذق السارد الخبير، لتجعل من الفريق المرافق لهما، هي وزوجها، شخصيات روائية بامتياز: ماك، المهندس المعماري الذي يشعرها بالخجل لفرط تقتيره بالكلام بل الميال إلى الصمت، والذي يعكف على كتابة أشياء لا يعرفها أحد في دفتر يومياته كلما اختلى بنفسه، وعيسى الطباخ الذي سيكتشفان أنه لا يجيد سلق بيضة وعبد الله، السائق، الذي سيعقد صفقات من وراء ظهر ماكس مع زبائن غرباء، ثم حمودة ونجلاه، وهم بمثابة مديري منزل غير موجود حتى الآن.
لماكس وجهة نظر صائبة بشأن عبد الله السائق، فوجهه ينم عن غباء، وإذ تعترض أغاثا على اختيار سائق غبي، يبرر ماكس: أقصد أنه يعوزه الذكاء الضروري ليكون محتالاً. فتقتنع أغاثا!
لكن أغاثا لا تتوقف عن سؤال نفسها كلما رأت المهندس المعماري ماك: يا إلهي، ما الذي يكتبه ماك في دفتر يومياته؟
بينما تركض السيارة منهكة نحو القامشلي، لنعرف أن «علينا أن نذهب إلى مكتب البريد لتسلم طرد يخص الرسام ميشيل الذي التحق بنا مؤخرًا».
«مدير مكتب البريد ليس موجودًا، لكنه يصل إلى مكان عمله بعينين مطبقتين وهو يتثاءب».
الطرود التي تصل لاحقًا ستكون في مكتب بريد عامودا، وغالبا ما ينساها المدير في الخزنة «لأنه يعتقد بأنها تحوي مواد ثمينة وينسى تسليمها».
تصل الطرود أخيرًا، وهي منامتان لاتقاء البعوض، لكن ماكس يعلق: «لم أر بعوضًا في المكان».
يبدو أن اختلاف المفاهيم الدينية موجود منذ القدم، فالعامل الإيزيدي لا يشرب الماء من البئر «لأن ابن الشيخ رمى بعض الخس فيها، وبموجب إيمانهم يمتنعون عن لمس أي شيء ملوث بالخس لأنهم يؤمنون بأن الشيطان مقيم فيه».
يتلو ماكس قانون مكافحة الشغب على العمال: «يحظر على الجميع الكذب على العمال الإيزيديين أو اضطهادهم، الجميع في هذه الورشة إخوة».
غالبًا ما يكون العمل على جبهتين: جبهة الحفريات بقيادة ماكس، وجبهة ترميم اللقى المكسورة والتصوير إضافة للكتابة بقيادة أغاثا.
وما أن ترى ماك، المهندس المعماري، حتى تعيد السؤال الحائر: ما الذي يكتبه، يا ترى في دفتر يومياته؟
ملتحقون جدد: طاه، اسمه ديمتري، ومساعده فرهيد، وصبري مدير منزل جديد، ومامبس هو المعماري الجديد، وعلاوي ويحيى وغيرهما عمال جدد.
يصل رجل وقور ملتح إلى ماكس: هل سيتدخل العسكر (الفرنسي) في تجارتي يا خواجة؟ يجيبه ماكس: لا، إنهم لا يتدخلون في شؤون الحفر.
يوضح الوقور: أقصد تجارتي الخاصة. وما هي: يسأله ماكس: تهريب السجائر.
تكتب كريستي: «يبدو تهريب السجائر عبر الحدود العراقية عالما قائمًا بذاته. إذ ما إن تدخل سيارة الجمارك إلى إحدى القرى حتى يدخل المهربون إليها في اليوم التالي. يسأل ماكس إن كان رجال الجمارك سيعودون مرة أخرى إلى أي قرية سبق لهم زيارتها فيرمقه الرجل بنظرة عتاب وهو يقول: بالطبع لا. وإن فعلوا فستكون الكارثة. بهذه الطريقة يدخن الرجال سجائر كلفتها بنسان لكل مائة سيجارة».
وفي شاغر بازار قرب عامودا «يمكن للمرء رسم المكان قبل ثلاثة آلاف سنة، إنه يقع على طريق قوافل مطروق للغاية يصل حران بتل حلف».
بعد انتهاء الرحلة ستكون العودة من بيروت إلى لندن بالباخرة، والانطباع الذي تسجله كريستي: كم أحببت أولئك الناس بكرمهم وصخبهم وطيبتهم.
لكن ذلك السؤال لم يزل نردده مع أغاثا: ما الذي كان يدونه ماك في دفتر يومياته؟



كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة التي كان قد اقترب منها بشكل كبير بعد صدور روايته «مرسو التحقيق المضاد»، العمل الذي وضعه في دائرة الضوء في 2014 بعد أن نال استحسان النخب المثقفة حتى وُصف أسلوبه بـ«البارع والمميز» من قِبل منابر إعلامية مرموقة مثل «النيويورك تايمز».

في روايته الجديدة يُطلّ علينا الكاتب الجزائري بأسلوب أدبي مختلف بعيداً عن السرد الخيالي والأحاديث العفوية التي لمسناها في «مرسو»، فنصّ «الحوريات» مستوحى من الواقع وهو واقع مرّ كئيب، حيث اختار كمال داود تقليب المواجع والنبش في تاريخ الذكريات الدامية التي عاشها وطنه في حقبة التسعينات إبان ما سُمي بـ«العشرية السوداء»، فجاءت اللوحة سوداوية وكأن الجزائر أغنية حزينة وألم مزمن يسكن أعماق الكاتب.

كمال داود

الرواية تبدأ بمونولوج مطوّل لـ«فجر»، وهي فتاة في عقدها العشرين بقيت حبيسة ماضيها وحبالها الصوتية التي فقدتها بعد تعرضها لمحاولة ذبح. المونولوج يمر عبر مناجاة داخلية للجنين الذي تحمله، تخبره فيه عن معاناتها وذكرياتها وعن كفاحها من أجل التحرّر من سلطة الرجال. في الفقرة الثانية تقرر «فجر» العودة إلى مسقط رأسها بحثاً عن أشباحها وعن مبرر تنهي به حياة طفلتها حتى لا تولد في مجتمع ظالم، لتلتقي بعيسى بائع الكتب المتجوّل الذي يحمل جسده آثار الإرهاب وهوساً جنونياً بتوثيق مجازر العشرية السوداء بتواريخها وأماكن وقوعها وعدد ضحاياها. في رحلة العودة تغوص الرواية في جحيم الحرب الأهلية وذكريات الجرائم المروّعة، واضعة تحت أنظارنا مشاهد قاسية صعبة الاحتمال، كالمقطع الذي تستحضر فيه «فجر» ليلة الذبح الذي تعرضت له عائلتها، أو الفقرات التي تروي فيها شخصية «حمراء» ليلة اختطافها لتزوج قسراً وهي لا تزال طفلة. وهي نصوص لها وقعها النفسي إذا ما علمنا بأن الكاتب استوحى كتاباته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته مجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر، بينما كان يعمل صحافياً في يومية «لوكوتديان دو أورون» أو أسبوعية وهران.

وأشاد كثير من الأوساط بالقيمة الأدبية للرواية. صحيفة لوموند وصفتها بـ«القوة المذهلة» و«الشاعرية الغامضة». وأشادت صحيفة «لوفيغارو» بالسرد القوي المشحون بالصور الشعرية الصادمة والعواطف الجيّاشة التي تعبّر عن حجم المعاناة. صحيفة «ليبيراسيون» كتبت أنها رواية «أساسية، ومفيدة وشجاعة، وإذا وضعنا جانباً كونها مثقلة بالرموز فإن طاقتها المذهلة تُغلف القراءة». وبالنسبة لصحيفة «سود ويست»، تصرّح بأن «الحوريات» «كتاب رائع وجميل وطموح وإنساني وسياسي للغاية» قبل أن تضيف أن «نفوذ (غاليمار) - دار النشر التي ينتمي إليها كمال داود - ودورها في وصول الرواية إلى التتويج ليس بالهيّن. على أن النقد لم يكن دائماً إيجابياً؛ حيث جاءت وجهات النظر متباينةً بخصوص القيمة الأدبية لرواية كمال داود، ففي قراءات نقدية سابقة لم تلقَ الدرجة نفسها من الاستحسان، فمنهم من عاب على الرواية اللجوء المفرط للرموز بدءاً بالأسماء: «حورية»، «فجر»، «شهرزاد»؛ إلى رمزية الأماكن كالقرية التي شهدت ذبح عائلتها والتي وصلت إليها «فجر» صبيحة عيد الأضحى بينما كان الأهالي يذبحون الأضاحي، حتى كتب أحد النقّاد أن ثقل الرموز سحق القصّة، كما أن تشبث الكاتب بسرد الأحداث الواقعية بتواريخها وأماكنها وعدد ضحاياها جعل القارئ يفقد الصلة بالأسلوب الروائي.

الكاتب استوحى روايته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته الصحافية لمجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر

الصحافية والناقدة الأدبية نيلي كابريان من مجلة «لي زان كوريبتبل» وإن كانت قد رحّبت بوجود هذه الرواية وأهميتها، واجهت، كما تقول، مشكلة في «طريقة كتابتها غير المثيرة للاهتمام»: «لقد شعرت بالملل قليلاً بعد فترة من القراءة بسبب الكتابة التي طغى عليها الأسلوب الأكاديمي الفضفاض، فالروايات التي تبدأ بعنوان لا تنجح دائماً، وهو كتاب يهتم فعلاً بمعاناة النساء اللائي ليس لهن صوت، لكن من منظور أدبي، يبقى الأسلوب أكاديمياً منمّقاً، وهو ما جعلني لا أتحمس للاستمرار في القراءة». وبالنسبة للوران شالومو الكاتب والناقد الأدبي المستقل فإن رواية «الحوريات» نصّ شجاع ومُحرج في الوقت نفسه، شجاع لأنه يتعرض لموضوع سياسي حسّاس قد يعرّض صاحبه لمضايقات كبيرة، ولكن وبالرغم من نواياه الحسنة، فإن الكتاب يفتقر للدقة. ويضيف الكاتب: «لم أتعرف على كمال داود في هذا العمل، هو يدّعي أنه شخص آخر وهو ما أصابني بالحساسية، حتى نكاد نراه وهو يحاول تمرير قباقيبه الكبيرة لتبدو كنعال حمراء اللون. الكاتب ركّز في نقده على «السرد المظلم بشكل متصنّع وإرادي لإنتاج إحساس بالعمق، إضافة للجُمل الملتوية المُثقلة بلا داعٍ».

وفي موضوع نقدي آخر مخصّص لرواية «الحوريات» أشاد أرنو فيفيانت الإعلامي والناقد الأدبي بصحيفة «ليبيراسيون» بها واصفاً الرواية بأنها «كتاب (عظيم جداً). على الرغم من طوله (400 صفحة) وكثرة الرموز، فإن الأسلوب الاستعاري يجعل القراءة مذهلة، وهو وإن اقترب من (الغونكور) عام 2014 حين تصور كتابة أخرى لرواية ألبير كامو (الغريب)، فهو، وبعد عشر سنوات، يعود بهذه الرواية الجديدة محاولاً هذه المرة إعادة كتابة (الطاعون) الرواية الأخرى لكامو. ليس فقط لأن الأحداث تدور في مدينة وهران في كلتا الروايتين، ولكن أيضاً بسبب التغيير الذي حدث في أسلوب الكتابة والذي كان قد ميّز رواية (الطاعون) أيضاً».

إليزابيث فيليب الكاتبة الصحافية من مجلة «نوفيل أبسورفاتور» وصفت الرواية بالأساسية والشجاعة لأنها «تتعرض للظلم الذي تواجهه بعض النساء في المجتمعات المحافظة، وهي أساسية من حيث إنها تعطي صوتاً لمن حرم منه». لكنها تصف الرواية في الوقت نفسه بـ«المملّة». وهي تقول بأن تحفُّظها لا يخصّ الأسلوب المنمّق الذي تميزت به الرواية، بل البناء السردي، فـ«الكاتب يدرج القصص الواحدة تلو الأخرى في نوع من التشويش الزمني، محاولاً تبرير ذلك بالسرد الشعري، لكن النتيجة لا تسهّل عملية القراءة التي تصبح أشبه بالتمرين الشاق».