ماذا تبقى من الإعلام التركي بعد الانقلاب الفاشل؟

إغلاق 170 مؤسسة.. وتحولات في السياسات الإعلامية

برنامج أجندة تركيا يقدم شهادات سلبية حول غولن كل مساء على «سي إن إن تورك» («الشرق الأوسط»)
برنامج أجندة تركيا يقدم شهادات سلبية حول غولن كل مساء على «سي إن إن تورك» («الشرق الأوسط»)
TT

ماذا تبقى من الإعلام التركي بعد الانقلاب الفاشل؟

برنامج أجندة تركيا يقدم شهادات سلبية حول غولن كل مساء على «سي إن إن تورك» («الشرق الأوسط»)
برنامج أجندة تركيا يقدم شهادات سلبية حول غولن كل مساء على «سي إن إن تورك» («الشرق الأوسط»)

تركت محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها تركيا في منتصف يوليو (تموز) الماضي آثارًا واضحة على وسائل الإعلام في تركيا، فقد اختفى من على الساحة الإعلامية أكثر من 170 وسيلة إعلامية مختلفة التوجهات، وغيرت بعض وسائل الإعلام المعسكرات التي كانت تقف فيها، وتحولت من جانب إلى آخر. وتؤثر حملات الاعتقال والتطهير التي تشهدها تركيا بشكل كبير على وسائل الإعلام، مما فتح الباب أمام انتقادات واسعة من جانب الغرب والاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة التي رصدت تغيرًا في المناخ المحيط بعمل الإعلام في تركيا، سواء الصحافة أو القنوات التلفزيونية أو وسائل الإعلام الاجتماعي.
وأصدرت السلطات التركية، كجزء من حملة تطهير الجيش ومؤسسات الدولة ممن تقول إنهم أتباع الداعية فتح الله غولن المقيم في أميركا الذي تتهمه السلطات بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، مرسومًا أغلقت بموجبه أكثر من 100 مؤسسة إعلامية لعلاقتها بحركة «الخدمة» التي يتزعمها غولن، والتي تسميها الحكومة بـ«الكيان الموازي».
لكن الحملة اتخذت أبعادا مختلفة في الأسابيع الأخيرة إذ اتسع نطاقها لتشمل مؤسسات إعلامية مؤيدة للأكراد، وأخرى تابعة للعلويين، وثالثة منتمية للمعارضة التقليدية، كصحيفة «جمهوريت» أقدم الصحف التركية على الإطلاق التي تمثل التيار العلماني، والتي ظهرت في العام التالي لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، أي عام 1924، والتي سبق أن اعتقل رئيس تحريرها جان دوندار، ومدير مكتبها في أنقرة أردم جول، وسجنا بسبب اتهامهما بإفشاء أسرار للدولة، ثم أفرج عنهما بموجب قرار من المحكمة الدستورية أصدرته بموجب طعن على قرار حبسهما.
والأسبوع الماضي، أمرت محكمة تركية بحبس رئيس تحريرها الجديد مراد سابونجو و9 من صحافييها وإدارييها لاتهامهم بالترويج لمنظمات إرهابية ودعمها، مما فجر انتقادات واسعة من خارج تركيا، فضلا عن غضب حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية.
وأدرجت منظمة «صحافيون بلا حدود» تركيا في قائمة مؤشر حرية الصحافة في العالم في المرتبة 151 من مجموع 180 بلدًا. وبحسب باحثين محسوبين على الحكومة التركية، أصبح نحو 80 في المائة من وسائل الإعلام يسير في خط الدولة الرسمي بعد محاولة الانقلاب، فيما خففت وسائل إعلام أخرى، لا سيما المملوكة لمجموعة دوغان التي تعد أكبر مجموعة إعلامية في تركيا، من انتقاداتها للحكومة، وأصبحت توجهات صحف وقنوات المجموعة، مثل صحيفة «حريت» وقناتي «سي إن إن تورك» و«كنال دي»، لا تختلف كثيرا عن القنوات والصحف الموالية للحكومة.
وإحدى الصحف التي صدر بحقها قرار إغلاق صحيفة «زمان» التي اتخذت موقفا منتقدا للحكومة بعد تصدع العلاقة بين غولن والرئيس رجب طيب إردوغان في عام 2013. وكانت هذه الصحيفة الأوسع انتشارا قد أخضعت لسيطرة الدولة في وقت سابق.
أما صحيفة «طرف» اليومية، وهي من الصحف التي أثارت ضجة واسعة بكشفها عن محاولات انقلابية ضد الحكومة من قبل، أبرزها قضية أرجينكون التي تضمنت أكثر من 200 محاكمة لصحافيين وجنرالات اتهموا بالتآمر على الحكومة، فقد تعرضت معاييرها المهنية لانتقادات قوية بعدما اتضح أن بعض الوثائق التي نشرتها، والتي تدين بعض المتهمين، كانت وثائق مزورة.
وبحسب تقارير دولية، يبلغ عدد الصحافيين المحبوسين في تركيا 180 صحافيًا، وهو الوضع الذي انتقده كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، الذي قال: إن بلادنا أصبحت في مقدمة دول العالم من حيث عدد الصحافيين القابعين في السجون.
ولم تتسم علاقة الحكومة بوسائل التواصل الاجتماعي بالسلاسة أيضا، في مراحل ومناسبات مختلفة.
وقد جعلت هذه الأوضاع الكاتب الصحافي التركي الشهير فهمي كورو، أحد الكتاب الذين أمضوا وقتا طويلا بالقرب من الرئيس رجب طيب إردوغان حتى وقت قريب، ينتقد وضع الصحافة في تركيا في مقال له، مشيرًا إلى أن الصحف في تركيا لم تعد تنشر أخبارًا، بل أصبحت تنقل فقط تصريحات مسؤولي الحكومة في السياسة الداخلية والخارجية.
وأضاف كورو أن وسائل الإعلام التركية تخصص مساحة كبيرة لتصريحات مسؤولي الحكومة، في الوقت الذي تشهد فيه البلاد هجمات انتحارية، وأن وسائل الإعلام لا تهدف لكشف خلفية الأحداث، مستدلاً على هذا بأن الصحف التركية لم تتناول أبدًا أسباب استقالة وزير الداخلية أفكان آلا، في سبتمبر (أيلول) الماضي، الذي شغل منصب المحافظ، ثم مستشار رئيس الوزراء، وأخيرا وزير الداخلية، وأن الصحافة اكتفت بإرجاع الأمر إلى تغييرات يجريها الرئيس إردوغان ومسؤولو الحكومة، وضعف أداء الوزير.
ولفت كورو إلى أن تركيا تشن حربًا في سوريا، وأن الجنود الأتراك ودبابات الجيش التركي تعمل على جبهتين مختلفتين كقوات داعمة لعناصر الجيش السوري الحر، وأن هذه هي المرة الأولى التي ترسل فيها تركيا جنودًا إلى دولة من دول الجوار بعدما فعلت في شبه جزيرة قبرص، موضحا أن الخبراء على شاشات التلفزيون يدلون بتصريحات لا طائل من ورائها، دون أن يتحدث أحد عن كيفية تخطيط هذه العملية العسكرية، وموعد اتخاذ هذا القرار، ومن الذين عارضوه، وما الحجج المقنعة في حال اتخاذ هذا القرار دون معارضة، لافتًا إلى أن مهمة الصحافة هي الكشف عن الحقائق، والحصول على إجابات عن كل هذه التساؤلات.
وتأتي ملاحظات كورو في محلها تماما بعدما انغمست القنوات التلفزيونية في تسابق محموم لمحاولة ترسيخ فكرة أن غولن هو مدبر محاولة الانقلاب، عبر برامج يومية لساعات طويلة على مختلف القنوات.
كما أن القنوات التي أغلقت، وكانت تضمن للمشاهد التركي تنويعة كبيرة من البرامج، حلت محلها قنوات تجارية تركز على التسوق عبر التلفزيون للأعشاب والعلاج البديل، أو مستحضرات التجميل والتخسيس، وباتت الخيارات ضيقة جدا أمام المشاهد، ليتسع الاتجاه إلى التلفزيون المدفوع والقنوات المشفرة.
وبحسب الكاتبة التركية أمبرين زمان، بدأت الصحف المعارضة القليلة المتبقية في تركيا تخسر مستثمريها الأجانب، وهو واقع مأسوي، على حد قولها، لأن مجموعة «أكسل سبرينغر» التي تُعتبر من مجموعات النشر الكبرى في أوروبا، قررت عدم القيام باستثمارات جديدة في تركيا، بحسب ما أعلنه مديرها التنفيذي ماثياس دوبفنر في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، مضيفا أنّ المجموعة الإعلامية العملاقة التي تتّخذ من برلين مقرًّا لها ستبيع حصّتها المتبقّية في مجموعة «دوغان» للبثّ، البالغة نسبتها 7 في المائة. واتخذت المجموعة هذا القرار بعد تعرّض مقرّ صحيفة «جمهوريت» اليوميّة المعارضة لمداهمة الأمن التي أسفرت عن اعتقال 15 موظّفًا من موظّفي الصحيفة، بمن فيهم رئيس التحرير مراد سابونجو، استنادًا إلى تهم تتعلّق بالتواطؤ مع منفّذي انقلاب 15 يوليو، وأفرج عن 5 منهم لاحقا، بعضهم كتاب في الخامسة والسبعين.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.