تأثير الأصولية المسيحية في انتخابات الرئاسة الأميركية

كاثوليك ضد كلينتون وبروتستانت لا يؤيدون ترامب

بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)
بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)
TT

تأثير الأصولية المسيحية في انتخابات الرئاسة الأميركية

بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)
بحث الأسباب الكثيرة للموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة (أ.ب)

منذ وقت بعيد، جرى العرف أن يميل التيار الأصولي المسيحي في الولايات المتحدة لتأييد الحزب الجمهوري بنوع خاص، في حين أن الديمقراطيين وأنصارهم عادة ما يكونون أقرب إلى اليسار، ولا تشغلهم كثيرًا مسألة الهوية الدينية للمرشح للرئاسة، بقدر انشغالهم برؤاه السياسية، وطروحاته الاقتصادية للبلاد. وثمة من يقول إن التيارات الإنجيلية هذه المرة لا تميل لدعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لا سيما أن الرجل «مجرد من الأخلاقيات التي تسبق الإيمانيات أو العقائد»، وحتى إن وجدت نسبة منهم تدعمه، فإن مرد ذلك، كما يقول غريغ سميث، مساعد مدير معهد بيو للأبحاث في واشنطن، إلى «رفض التصويت لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون». ولعل بحث الأسباب الكثيرة لهذا الموقف الإنجيلي من كلينتون يحتاج إلى حفر عميق في الجذور اللاهوتية للولايات المتحدة التي تشهد هذه الأيام ثورة من القيم الكاثوليكية والأرثوذكسية ضد القيم البروتستانتية الكالفينية - نسبة إلى جون كالفين، أو جان كالفان، (1509 - 1564) المصلح اللاهوتي السويسري - المتجسدة في عموم مذاهب البروتستانت، وخصوصًا لدى طائفة المعمدانيين (Baptists)، ناهيك بتجليها في جماعة النظاميين (Methodists) الذين تنتمي إليهم هيلاري كلينتون.
العداء الأصولي الديني للكاثوليك والأرثوذكس في الولايات للتيارات البروتستانتية يرجع إلى النظام الطائفي الذي نشأ من وحي أفكار كالفان في الماضي، الذي ارتكب مجازر جماعية بحق الآيرلنديين الكاثوليك في أوروبا. والشاهد أن الحضور الكاثوليكي في الولايات المتحدة الأميركية اليوم، الذي يقارب 25 في المائة من سكان البلاد - أي ما يزيد على 75 مليون نسمة - يبدو حائرًا إزاء من سيصوت هذه المرة، وخصوصًا بعد حالة الاضطراب والعداء الديني الذي بات يقسم الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة. ولقد جاءت الضربة القاسية والموجعة للتيارات المسيحية الأصولية - بالمعنى الإيجابي وليس السلبي، أي الكنائس ذات الأصول والمرجعيات التي تعود إلى زمن الحواريين، مثل الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية - عبر وثائق «ويكيليكس» التي تحدثت عن «مخططات» لجماعة هيلاري تحمل عداوة واضحة للمؤسسة الكاثوليكية. والرسالة الخطيرة التي نشرها موقع «ويكيليكس» في هذا الصدد كانت عبارة عن طرح فكري من ساندي نيومان، مؤسس ما يعرف بـ«صوت التقدم» على جون بوديستا، رئيس الحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون، يقول فيها «إن الجدل الذي يطرحه الأساقفة الكاثوليك حول وسائل منع الحمل، جعلني أفكر أن هناك حاجة ملحة لـ(ربيع كاثوليكي) يطالب من خلاله الكاثوليك بوضع حد، بل إنهاء ديكتاتورية العصور الوسطى وبداية عصر يحفظ بعض الديمقراطية والمساواة بين الجنسين في الكنيسة الكاثوليكية».
ولاحقًا احتدمت المعركة بين جبهات أصولية مسيحية في الداخل الأميركي. فعلى سبيل المثال سخر جون هالبين، العضو في «مركز التقدم الأميركي» من الذهنية المحافظة في الكنيسة الكاثوليكية، وذلك عن طريق رسالة إلكترونية. وذهب هالبين إلى حد القول إنه «لا بد أن هؤلاء ينجذبون إلى الفكر الممنهج والرجعي فيما يخصّ العلاقات ما بين الجنسين، لا بد أنهم غائبون تمامًا عن الديمقراطية المسيحية».. وفي هذه إشارة لا تخطئها العين للسياسات المحافظة للأصوليين الكاثوليك، ورفض الليبراليين الأميركيين الذين يدعمون الحزب الديمقراطي ومرشحته التوافق معها والقبول بها.
ولكن، هل جاءت وثيقة «ويكيليكس» المشار إليها لتغير من اتجاهات الرياح ما بين المرشحين؟ سلفًا أشرنا إلى أن ترامب - غير الكاثوليكي بالمرة - لا يحوز ثقة شريحة كبيرة من المسيحيين الراديكاليين، وفي مقدمتهم نحو 30 مليون كاثوليكي يخضعون روحيًا لرؤية البابا الكاثوليكي فرانسيس الأول، في الفاتيكان، الذي كان قد شكك في هوية ترامب المسيحية من الأصل، بسبب رغبته في إقامة جسر عازل مع المكسيك. وقال البابا إبان زيارته الأخيرة للولايات المتحدة إن «من يريد تدمير الجسور وإقامة الجدران بين الناس ليس مسيحيًا».
* مشكلة كلينتون والكاثوليك
وحتى ظهور وثيقة «ويكيليكس»، كانت نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز بيو الموثوق في واشنطن أواخر أغسطس (آب) الماضي تشير إلى أن 52 في المائة من كاثوليك أميركا سيصوّتون لصالح هيلاري كلينتون، غير أن المشهد وقبل ساعات يبدو أنه يتغير، وأن لم يعنِ بالضرورة أن التحولات والتبديلات ستصب في صالح ترامب.
مع هذا، أشعلت وثيقة «ويكيليكس» نار الأصولية الطائفية ضد المرشحة الديمقراطية، إذ استنكر بول رايان، رئيس مجلس النواب الأميركي، والكاثوليكي المتدين، ما اعتبره «تشويهًا لسمعه الكنيسة الكاثوليكية»، ورأى أن نظرة فريق حملة كلينتون إلى ثلاثين مليون كاثوليكي أميركي على أنهم رجعيون إهانة تكشف مقدار الموقف العدائي لليبراليين الديمقراطيين «تجاه الشعب الأميركي والمؤمنين بشكل خاص»! ولم يتوقف رايان عند حد الإدانة أو الشجب، إذ أضاف في كلمات ما يتصل اتصالاً مباشرًا بعملية الاقتراع... «يجب على المؤمنين الأميركيين أخذ هذا الموضوع بعين الاعتبار وبشكل جدي، والاختيار ما إذا كانت هذه هي القيم التي يريدونها في رئيسنا المقبل أم لا».
المثير جدًا أن رايان لم يكن من قبل يدعم ترامب، رغم أنه من الجمهوريين، بل قياداتهم المتقدمة وهو رئيس مجلس النواب، كما أن البعض طرح اسمه مرشحًا بديلاً في حال انسحب ترامب أو أجبرته كوادر الحزب على الانسحاب، وهذا لم يحدث بالطبع.
ما نراه، إذن، يعني أن المسألة الأصولية الدينية صارت فاعلاً في الانتخابات. وإن لم تكن بالضرورة تدعم أيًا من المرشحين، وقد تنتظر الجواد الأخلاقي لقيادة أميركا في انتخابات 2020 أو 2024، لا سيما أن لدى الجمهوريين ما يراهم اليمين المحافظ جوادين رابحين، بهما من الشباب والحيوية، ويتوافران على المعايير التي يضعها للأخلاقية والمصداقية، هما السيناتوران اليمينيان تيد كروز (من ولاية تكساس) ومارك روبيو (من ولاية فلوريدا)، اللذان جربا حظيهما في الانتخابات الترشيحية للحزب الجمهوري قبل أن يخسرا أمام ترامب..
والحقيقة، أن الأيام الأخيرة من سباق الانتخابات الرئاسة الأميركية لم تخلُ من إعادة إحياء لقصص مغرقة في الأصولية المسيحية، حاول من خلالها الديمقراطيون «مغازلة» التيارات المسيحية البروتستانتية التي تشكل النسبة الغالبة من البيض الأنغلو ساكسون.
من هذه مواجهة هرمجدون (أرماجدون).. أو الصراع الحربي العالمي من منطلق ديني، ويمثل آخر المواجهات بين أمم العالم من جهة، واليهود في إسرائيل من جهة ثانية. هذه المعركة آمن بها رؤساء أميركا الأصوليون وأصحاب الفكر اليميني المسيحي المتشدد، بل والمتطرف في واقع الأمر، لا سيما رونالد ريغان، وجورج بوش الابن. وهما على رغم مسيحيتهما الظاهرة، أوليا الكتابات اليهودية أهمية أكبر من الإنجيل وروح التسامح والمحبة الموجودة فيه، وتمسّكوا بحرفية الناموس الموسوي إلى درجة تقديس ألواح موسى.
أنصار هذه المعركة يرون أنه يومًا ما سيأتي ملايين من دول الشمال «أقوام يأجوج ومأجوج» لمحاصرة المدينة المقدسة أورشليم (القدس) في وادي هرمجدون - التي هي سهل مجدّو في فلسطين - غير أن النار والبرد سينزلان من السماء ليتكفلا بالقضاء على تلك الملايين.
هذا المفهوم المحرف والمجتزأ لفهم التوراة قد أصبح قناعة مطلقة عند ساكن البيت الأبيض وأصحاب المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الأمر الذي دفع الكاتبة الأميركية غرايس هالسل لأن تصف في أحد كتبها النبوءة المسيسة هذه بأنها تجلٍ لتغلغل روح الصهيونية في البيت الأبيض، مما يدفع الأصوليين المسيحيين الأميركيين لأن يكونوا على أتم الاستعداد، بل يكونون راغبين بكل قواهم في إشعال نيران حرب نووية.
وقبل عشرة أيام تحديدًا من يوم الاقتراع الرئاسي، امتلأت وسائل الإعلام الأميركية بآراء أحد أولئك الأصوليين، هو القس كارل جالوبس، الذي زعم أن التحالف الروسي - الصيني - التركي، والدور الذي يقوم به هذا المثلث القوي في الشرق الأوسط، هو تحقيق للتنبؤات التي تتحدث عن معركة هرمجدون، لا سيما أن المعركة مشروطة بوجود مائتي مليون جندي يحيطون بأورشليم، وأنه ما من جيش حول العالم لديه إمكانية حشد هائلة لذلك العدد إلا الصين. هذه التصريحات وجدت لها آذانًا صاغية عند الناخبين الديمقراطيين ومرشحتهم التي لها موقف سلبي معروف من فلاديمير بوتين وروسيا، وترفض ما تراه «ديكتاتورية روسية». ثم، لعل من يتابع تحركات الأسطول الروسي خلال الأيام الأخيرة لجهة البحر المتوسط يدرك أن موسكو لم يعد يوقفها شيء للتدخل وبقوة في المنطقة، حتى أن البعض يتحدث عن سيناريو عسكري ساحق ماحق يتصل بمعركة حلب في سوريا.
غير أن هذا ليس بيت القصيد، فيما التنسيق المثير يأتي من الأصوات الأصولية اليهودية داخل إسرائيل التي باتت تعتبر «روسيا عدوة»، لا سيما أن إسرائيل لم تعد قادرة على السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، بسبب وجود أنظمة صواريخ ووسائل مراقبة روسية في المنطقة، والأصوات داخل إسرائيل تتحدث عن زيادة احتمالات وقوع الصدام بين القوات الروسية والإسرائيلية في السماء أو في البحر..
ختامًا، ربما لا تلعب الأصوليات الدينية في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016 دورًا مثيرًا وحاسمًا، مثل تلك التي رأيناها من قبل أوائل هذا القرن، إلا أنها ستبقى فاعلة في كل الأحوال. ذلك أن الحراك الديني الأميركي ينطلق مثل البركان من تفاعلات داخلية من جهة، ويجد اليوم محفزات «هرمجدونية» وروسية خارجية من جهة ثانية. وهذا مشهد حكمًا لن يتوقف عند هذه الانتخابات، بل هو كذلك مرشح لمزيد من التصاعد في الآتي من الأيام.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.