يطرح علي الناس السؤال التالي طوال الوقت: «ما سر نجاحك داخل ليفربول؟» بطبيعة الحال، سيجيب الكثير من لاعبي ليفربول بالإجابة ذاتها تقريبًا التي تدور حول كثافة التدريب وصرامة التعليمات ومستوى الثقة بين مختلف العناصر. كل هذا حقيقي بالفعل، لكن يبقى وراء ذلك كله عنصر آخر يتمثل في ثقافة التنافس. ويحمل هذا العنصر الأخير أهمية كبيرة لا يمكن إغفالها. وإذا عجز لاعب ما عن التعامل مع التحديات الذهنية المتمثلة في جميع العناصر الموجودة داخل ميلوود (ملعب تدريب ليفربول)، فإن الفشل سيكون مصيره حتمًا، وسينتهي به الحال إلى الانتقال لنادٍ آخر.
لقد كان الوضع محتدمًا داخل النادي. وهناك مقولة شائعة تشير إلى أنك إذا تمكنت من التكيف مع مسألة التدريب في مواجهة أفضل اللاعبين على مستوى البلاد، وما يحمله ذلك من ضغوط، فإن المباريات ستصبح مهام يسيرة بالنسبة لك. وبالمثل، فإنك إذا تمكنت من التعامل مع ضغوط المضايقات الموجودة في ليفربول، لن يتمكن فريق أو شخص آخر من إثارة غضبك خلال المباريات.
وباعتباري أول لاعب صاحب بشرة سمراء في ليفربول، كنت في وضع فريد من نوعه اضطرني لإبداء قدر أكبر من الصلابة الذهنية كي أتمكن من الاستمرار والنجاح.
من بعدي، شارك لاعبون آخرون من أصحاب البشرة السمراء في صفوف ليفربول، لكنهم تمتعوا بنجاح أكبر داخل النادي. بعد أن رحلت عن النادي، أصبح جون بارنيز أول لاعب أسمر البشرة يوقع عقد انضمام إلى ليفربول قادمًا من نادٍ آخر. وسرعان ما اكتسب جون اسم شهرة «ديغر»، على غرار شخصية ديغر بارنيز من مسلسل «دالاس» التلفزيوني الشهر. إلا أنني شخصيًا لم يَرُقْ لي الاسم الجديد لما حمله من تشابه باللفظ المسيء الذي يطلقه البعض على أصحاب البشرة الداكنة.
ومع ذلك، تختلف نشأتي تمامًا عن نشأة جون، ففي الوقت الذي نشأت داخل منطقة نوريس غرين بليفربول التي ينتمي غالبية سكانها إلى أصحاب البشرة البيضاء، مع وجود عدد قليل للغاية من الأسر التي يتسم أبناؤها ببشرة داكنة. وعليه، شكلت العنصرية جزءًا من حياتي.
في المقابل، عاش جون في جامايكا في قلب مجتمع كامل من أصحاء البشرة السمراء. وكانت أسرته ثرية وتحظى بتقدير كبير داخل منطقة كنغستون. وبذلك، لم يكن جون مضطرًا لمعايشة العنصرية بصورة يومية. أما بالنسبة لي، فقد كانت العنصرية هي «القاعدة» - الروتين اليومي للحياة.
في الواقع، لا أرغب في أن تبدو قصتي مشحونة بمشاعر الرثاء تجاه الذات، لكن ليس بوسعي تجاهل الحقيقة. لقد اضطررت إلى تحدي جميع مشاعر العداء الموجهة ضدي على مدار حياتي. داخل نوريس غرين، لم يكن بمقدوري تقبل مناطق رمادية على غرار تلك المساحات الرمادية التي سادت عبارات المزاح داخل ميلوود.
على سبيل المثال، اتسم اللاعب السابق فيل تومبسون بكبر حجم أنفه، لذا اعتاد الآخرون مضايقته بهذا الأمر والتهكم عليه. وبالمثل، كان لدى ديفيد فيركلوف شعر أحمر لامع، وبالتالي تحول إلى هدف للمزاح والسخرية. أما أنا، فكانت بشرتي سمراء. من جانبي، لم أكن معتادًا على هذا النمط من المزاح.
وكان من الصعب أن تميز ما بين من يقول شيئًا لمجرد المزاح ومن يلقي بعبارة بهدف استثارة غضبك. تبعًا للثقافة السائدة داخل ليفربول، كان المتوقع مني أن أسمح لمثل هذه العبارات المازحة بالمرور بسلام وعدم التعامل معها بجدية، لكنني بطبيعتي لم أكن لأسمح بمرور كلمات بعينها من دون الرد عليها وبقوة. وعليه، كنت أرد وبقوة، الأمر الذي أكسبني سمعة أنني شخص أعاني مشكلة في التوجه الذي أتبعه بمعنى أدق، شخص بطيء في التكيف مع البيئة المحيطة.
بوجه عام، كانت التوجهات التي أبداها المحيطون بي إزائي مختلطة. بالنسبة للغالبية، لم تكن لديهم أدنى مشكلة في انضمام شاب أسمر اللون إلى بيئة جميع أبنائها من أصحاب البشرة البيضاء.
ومع هذا، كنت أستشعر أن وجودي يشكل مصدر عدم ارتياح بالنسبة للبعض. وقد خلق هذا الأمر مشكلة أخرى، ذلك أن بعض التعليقات تجاهي كانت تصدر عن أشخاص أحبهم ولا يقصدون أي إهانة من وراء حديثهم، لكن كان التساؤل المسيطر على ذهني: هل لو سمحت بمرور مثل هذه التعليقات، سيخلق هذا انطباعًا لدى أولئك أصحاب الآراء السليبة تجاهي بأنه بإمكانهم الاحتذاء بحذو الفريق السابق وإلقاء تعليقات بشأني؟
كانت المرة الأولى التي أدرك خلالها وجود توجهات متعصبة داخل «ميلوود» عبر أشخاص لم يكونوا مدركين أثناء حديثهم أنني أجلس قريبًا منهم وأن كلامهم نما إلى مسامعي. وخلال تلك الأحاديث، جرى استخدام عبارات غير لائقة. وكان ذلك يحدث في المطعم داخل نادي ليفربول، وداخل الحافلة في الطريق إلى التدريب أو المباريات. ورغم أن مثل هذه العبارات كان يجري إلقاؤها في صورة مزاح، فإنني لم أكن أضحك. بالنسبة لي، كان من الأسهل تقبل العنصرية الصادرة عن المدرجات لأنني كنت أقول لنفسي إن الأمر برمته مرتبط بالأداء، لكن هذا التفكير كان في حقيقته ساذجًا.
وفي الواقع، كنت أتعرض لإساءات مستمرة من الجماهير، سواء كنت ألعب بصورة جيدة أو سيئة. إلا أن هذه العنصرية تصبح مؤلمة عندما تصدر عن الأشخاص الذين تعمل معهم. وحينها لا تتسامح حيالها، وإنما ترد بقوة، الأمر الذي تعتبره الإدارة نقطة ضعف لديك. ويصبح التساؤل المطروح من جانب الإدارة: كيف يمكن الوثوق في قدرتك على التحلي بالهدوء في المواقف التي تتعرض خلالها لضغوط؟
بوجه عام، تجري المبالغة في استخدام لفظ دعابة داخل مجال كرة القدم - وهو لفظ يمكن استغلاله لإخفاء حقيقة الأمور. خلال الشهور الأولى من وجودي في ليفربول، كنت بالكاد أتحدث إلى أي شخص حتى جاء موعد حفل احتفالات أعياد الميلاد. وفي إطار جهود تقديمي إلى مجموعة زملائي من اللاعبين، جرى ترتيب قيام راقصة بالرقص أمامي بينما يقف باقي أفراد الفريق يشاهدون. كانت الراقصة تغطي جسدها بمسحوق أبيض، وعندما احتضنتني أثناء الرقص، غطى المسحوق الأبيض وجهي. وحينها، أطلق روبي تشوبي براون عبارة مازحة بخصوص اللون، تفاعل مع باقي الحضور بالضحك، لكنني شعرت بعدم ارتياح إزاءها. ومع ذلك، في خضم جو الحفل، نجحت في مسايرة الضحكات المحيطة دون إبداء غضب.
داخل ليفربول، تجسدت مشكلتي الكبرى في تومي سميث. كان تومي قائد فريق ليفربول واشتهر باسم «رجل أنفيلد الحديدي»، وكان يتمتع بسمعة قوية ويهابه الجميع، خصوصا أنه شارك في قرابة 650 مباراة لحساب ليفربول على مدار 16 عامًا. وفاز خلالها بأربع بطولات للدوري الممتاز وبطولتي كأس الاتحاد الإنجليزي. خلال الموسم السابق لانضمامي إلى ليفربول، سجل تومي هدف الفوز في نهائي بطولة الكأس الأوروبية أمام بوروسيا مونشنغلادباخ - هدف فرحت به وهللت له كثيرًا مثلما الحال مع جميع مشجعي ليفربول. في الواقع، كان تومي واحدًا من الأبطال في نظري.
كان تومي قد نشأ بمنطقة سكوتلاند رود في ليفربول، القريبة من قلب المدينة. وتتركز بالمنطقة غالبية الأسر المهاجرة إلى ليفربول - حقيقة الأمر، كانت المنطقة والتي اشتهرت باسم «سكوتي» أشبه بمدينة داخل المدينة. وكانت تضم أربع جاليات مهاجرة أساسية - الآيرلندية والويليزية والاسكوتلندية والإيطالية - بجانب مجموعة من المهاجرين من لانكستر وبعض الجيوب الألمانية والبولندية.
بحلول بداية القرن العشرين، تحولت سكوتلاند رود إلى بؤرة للانقسامات الطائفية. إلا أنه مع هدم الأزقة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، جرت إعادة تسكين الأسر في عقارات تابعة للمجلس المحلي بمناطق مثل كيركبي وهيوتون وكروكتيث ونوريس غرين، حيث نشأت. وكان من شأن ذلك مرور سكوتلاند رود بحالة تردٍّ مستمر، وكانت الأسر التي بقيت بالمنطقة في معظمها من أصحاب البشرة البيضاء، وتفاقمت المشاعر العنصرية بالمنطقة.
في الواقع، كان تومي سميث بمثابة أسطورة حية، وكان مشجعو ليفربول يعشقونه وكنت واحدًا منهم. إلا أنني سرعان ما أدركت أن ثمة اختلافًا قائمًا بين الأسطورة والشخص. لقد بدت على تومي مرارة بسبب اقتراب مسيرته في الملاعب من نهايتها. كما بدا ساخطًا بسبب نزع شارة القائدة منه قبل عامين، وحل محله إملين هيوز الذي كان قائد فريق رائعًا وإحدى الشخصيات داخل فريق ليفربول التي كنت أوليها ثقتي. أما تومي، فكان من الصعب التعامل معه، ذلك أنه كان سريع الغضب. ولا أعتقد أنه كان يحظى بكثير من الأصدقاء داخل الفريق. أما أنا فكنت صغيرًا وكنت مختلفًا عن الآخرين بسبب لون بشرتي. ورغم أن تومي لم يصرح قط بأنني لا أروق له، فإن هذا هو الانطباع الذي تكون بداخلي.
خلال الشهور الستة الأولى من وجودي بنادي ليفربول، كنت أتدرب بصورة أساسية مع فريق الاحتياط، لكنني كنت أتدرب مع الفريق الأول أيضًا. وكان تومي يوجه تعليقات جارحة إلي. وفي البداية، كنت أتساءل في داخلي ما إذا كان يحاول اختباري من وراء ذلك.
في صيف 1978، توجه تومي للمشاركة بدوري كرة القدم بأميركا الشمالية، وعندما عاد وقع عقد انضمام إلى سوانزي سيتي. ومع ذلك، لم يكن تومي يرغب في الانتقال إلى سوانزي سيتي، ذلك أنه كان يعيش في كروسبي، واستمر في التدريب في ميلوود، وكان يسافر إلى ويلز في عطلات نهاية الأسبوع للمشاركة بالمباريات. واستمر وجود تومي بالجوار وكأنه رائحة كريهة تأبى التلاشي، وكان يحاول دومًا إثبات أنه لا يزال اللاعب المتألق الذي كان عليه ذات يوم، رغم ما أصاب ركبتيه من وهن. ولا بد أن هذا الأمر أصابه بالإحباط.
من جانبي، بذلت مجهودًا كبيرًا في التدريب. وعلى ما يبدو، شعر تومي ببعض التهديد بسبب ذلك. وخلال المواجهات الفردية لاعب للاعب، كنت أفضل منه، ذلك أنني كنت أمرر الكرة أمامه وأطارده، مثلما كان المدرب الاسكوتلندي بيل شانكلي يوجهني.
من ناحيته، حاول تومي تشتيت انتباهي من خلال إلقاء تعليقات فظة حول لون بشرتي. ولبعض من الوقت، نجحت بصورة ما في كبح جماح غضبي. كنت أشعر بالتقدير تجاه حقيقة أن تومي قائد ليفربول السابق وأسطورة حية. أما أنا أمامه، فلا أمثل شيئًا يُذكر. إلا أن تنشئتي علمتني أنني إذا سمحت بمرور أمر ما مرة، فسيشجع ذلك الجميع على التجاوز بحقي.
وبالفعل، أثر علي ما كان تومي يفعله لفترة، ذلك أنني لم أكن مستمتعًا بالذهاب إلى ميلوود، وكانت حالتي المعنوية متردية. وأخبرت أشقائي بالأمر، فاقترحوا علي أن يرافقوني إلى التدريب ويتشاجروا معه. وبطبيعة الحال، لم أكن أرغب في حدوث ذلك، لذا كان لزامًا علي إيجاد حل لهذا الأمر. وبدا حتميًا أنه في نهاية الأمر سيقع شيء ما بيننا.
وفي صباح أحد أيام نوفمبر (تشرين الثاني) الباردة، كنت قد شعرت بأن صبري قد نفد. وجرت توجيه الدعوة إلى عدد من اللاعبين الناشئين، وأنا بينهم، للعب على استاد ويمبلي، أفضل ملاعب ميلوود، حيث يجري استضافة مباريات مع نهاية الموسم.
وكان من المنتظر أن يتولى جميع اللاعبين الناشئين الجري نيابة عن الآخرين الكبار.
وخلال اللقاء، تسلمت الكرة وأحكمت سيطرتي عليها وأطلقت كرة صاروخية باتجاه المرمى. كان تومي سميث بالفريق المقابل وارتطمت الكرة بساقه. ومن الواضح أنها آلمته بشدة، وبدأ عدد من اللاعبين الآخرين في الضحك. كما ارتسمت ابتسامة على وجهي أيضًا، وشعرت بأن هذا انتقام عادل لما يفعله معي. أما تومي، فقد رد على ذلك بوابل من السباب والشتائم العنصرية عن لوني.
كان المكان هادئًا، وكان باستطاعة الجميع سماع وابل الشتائم، بما في ذلك فريق التدريب، لكن تومي كان أسطورة وأنا لا شيء، وبالتالي لم ينطق أحد بحرف.
أما أنا فكنت قد نلت كفايتي من هذا الرجل العجوز المليء بالمشاعر المريرة. لذا، توجهت نحوه ووقفت أمامه وجهًا لوجه وقلت له: «هل تعلم شيئًا يا توني، يومًا ما ستكون بمنزلك، وسأكون في انتظارك بمضرب البيسبول ولنرى حينها ما ستقوله»، كنت أرغب في هذه اللحظة في الدخول في شجار معه، لكنه اكتفى بالتحرك بعيدًا عني. الآن، أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظة واعتبرها واحدة من اللحظات التي انحدرت فيها إلى مستوى رديء بالفعل من الأخلاق. لقد نشأت على عشق تومي سميث كلاعب. لقد كان بطل فريق بيل شانكلي، لكنك في ذلك الوقت لا ترى اللاعب والأسطورة والبطل، لكنك لا تعلم الإنسان. إلا أنه منذ تلك اللحظة، لم يعد بطلاً بالنسبة لي. أما كإنسان، كان تومي سميث بمثابة خيبة أمل كبرى لي.
وكان غرايم سونيس الوحيد الذي اقترب مني بعد ذلك الموقف مباشرة وقال لي: «أحسنتَ صنعًا، هوارد. تومي يستحق ذلك»، لقد كان غرايم قائدًا بحق. بعد أسابيع من هذا الموقف، انتظرت أن يعاود تومي سميث استفزازي، لكنه بدلاً عن ذلك لم يتحدث بأي أسلوب عنصري مرة أخرى قط.
ومنذ ذلك الحين، تحدثنا إلى بعضنا البعض بالكاد. وكان من شأن هذا الموقف إرساء أسس التعامل معي، ذلك أنه ربما كانت تلقى تعليقات عنصرية من وراء ظهري، لكن لم يحدث قط بعد ذلك أن قيلت في وجهي. لقد علم الآخرون داخل ليفربول أنني لست خائفًا، وأنني سأواجه أي شخص مهما كان إذا لزم الأمر.
غايل.. أول لاعب أسمر في ليفربول يروي قصة معاناته مع العنصرية
واجه الإساءة من الجماهير وبعض زملائه بالتحمل حيناً.. وبالحزم أغلب الأحيان
غايل في المواجهة أمام بايرن ميونيخ في نصف نهائي الكأس الأوروبية عام 1981 («الشرق الأوسط») - مهارات غايل لم تمنع الإساءات العنصرية تجاهه («الشرق الأوسط») - غايل.. لون بشرته أذاقه العذاب - غايل والظهير ألان كينيدي يحملان الكأس الأوروبية عام 1981 («الشرق الأوسط»)
غايل.. أول لاعب أسمر في ليفربول يروي قصة معاناته مع العنصرية
غايل في المواجهة أمام بايرن ميونيخ في نصف نهائي الكأس الأوروبية عام 1981 («الشرق الأوسط») - مهارات غايل لم تمنع الإساءات العنصرية تجاهه («الشرق الأوسط») - غايل.. لون بشرته أذاقه العذاب - غايل والظهير ألان كينيدي يحملان الكأس الأوروبية عام 1981 («الشرق الأوسط»)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

