كتب جديدة عن السعودية.. الفهم وسوء الفهم

مقاربات جديدة حيال التخطيط الاقتصادي.. وإعادة النظر إزاء أجندة الإصلاح الداخلية من زوايا جديدة

أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا
أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا
TT

كتب جديدة عن السعودية.. الفهم وسوء الفهم

أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا
أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا

يتسابق كتاب كثيرون في أوروبا والولايات المتحدة في الكتابة عن المملكة العربية السعودية وشؤونها، لأسباب متباينة؛ تاريخية وسياسية، فهي دولة عربية كبيرة، ولاعب رئيسي في النظام الجيو - سياسي في منطقة الشرق الأوسط، ومستودع أكبر احتياطي للنفط في العالم، بالإضافة إلى التغييرات الكبيرة التي تشهدها المملكة، التي تجسدت في «رؤية 2030». ولكن القليل من هذه الكتب يتناول المملكة العربية السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا، يتعذر فهمهما وإدراك ماهيتهما من خلال الكليشيهات التي عفا عليها الزمن، بينما يسقط كتاب آخرون ضحية أفكارهم المسبقة، وتصوراتهم أو أغراضهم الآيديولوجية، أو في أفضل الأحوال، نتيجة عدم معرفتهم بالبلد معرفة موضوعية شاملة تساعدهم على الفهم الصحيح. وتنشر «الشرق الأوسط» هنا أهم ما جاء في تلك الإصدارات، التي نشرت حديثًا في عدد من الدول الأوروبية، والأميركية.
إن أعددنا قائمة تضم عشرين أو أكثر من البلدان التي دائما ما تظهر أخبارها في الصحف ووكالات الأنباء، وليس ذلك دائما لأفضل الأسباب، فسوف تحتل المملكة العربية السعودية مكانا بارزا بكل تأكيد.
هل تشعرون بشيء من القلق حول الموقع المستقبلي للإسلام في خضم النظام العالمي الذي يزداد تعقيدا؟ حسنا، لن يمكنك الوقوف على عرض كامل للأمر من دون معرفة بعض المعلومات المهمة حول المملكة العربية السعودية. ولعلكم تتساءلون ما الذي سوف يحدث في منطقة الشرق الأوسط الجاثمة على نيران الحروب المشتعلة في العراق، وسوريا، واليمن، والتي تبعث بمزيد من التهديدات والمخاطر، بما في ذلك التحركات الجماعية للاجئين التي تلوح في أفق البحر الأبيض المتوسط، وأوروبا، وربما وصولا إلى الكتلة القارية الأوروبية الآسيوية.
ومرة أخرى، لا يمكن استبعاد المملكة العربية السعودية، وهي الدولة العربية الكبيرة واللاعب الرئيسي في النظام الجيو - سياسي في منطقة الشرق الأوسط، من مشهد الأحداث وتحليلاتها. وهناك، أيضا، مكان بارز للمملكة العربية السعودية، سواء بصفتها ضحية من ضحايا الإرهاب، أو باعتبار أن بعض الإرهابيين هم قلة قليلة من مواطنيها. ولأنها مستودع أكبر احتياطي للنفط في العالم، فإن المملكة العربية السعودية تحتل كذلك مكانة بارزة في أي دراسة علمية معنية بشؤون الوضع العالمي للطاقة.
إن المملكة، التي تحتل موقعها في نقطة التقاء قارتي آسيا وأفريقيا، هي الأقرب من الطرق الملاحية العالمية الأكثر ازدحاما، كما أن لديها موقعها المهم على رقعة الشطرنج الجيو - استراتيجية العالمية، ولقد سلطت الضوء في الآونة الأخيرة على مشكلة قرصنة الخطوط الملاحية في خليج عدن والبحر الأحمر.
وتجتذب المملكة العربية السعودية قدرا من الاهتمام أكبر من المعتاد لسبب آخر: هو أنها تمر بفترة انتقالية تتميز بتغيير في الأجيال، ومقاربات جديدة حيال التخطيط الاقتصادي، وإعادة النظر إزاء أجندة الإصلاح الداخلية من زوايا جديدة. وليس من المستغرب، أن تجود قرائح بعض الكتاب في أوروبا والولايات المتحدة ببعض الكتب الجديدة حول المملكة العربية السعودية وشؤونها.
ويمكن تقسيم تلك الكتب إلى فئات ثلاث: بعض منها تقارير صحافية مباشرة تغلب عليها بعض الانتقاءات التاريخية والتكهنات المستقبلية. والبعض الآخر رسائل جامعية تستند في كثير من الأحيان إلى أسس العمل الأكاديمي. وفي الفئة الأخيرة نجد الكتب التي يحاول أصحابها تصفية بعض من الحسابات الآيديولوجية مع المملكة العربية السعودية.
وما ينقص هذه الفئات، مع بعض الاستثناءات القليلة، أو، على أقل تقدير، الفئة التي لم تنل حظها الكافي من الاهتمام، هي الكتب المعنية بالمملكة العربية السعودية بصفتها كيانًا حيًا، ومجتمعًا متغيرًا، يتعذر فهمهما وإدراك ماهيتهما من خلال الكليشيهات التي عفا عليها الزمن، ولنضرب على ذلك مثالا؛ فكثيرا ما وصفت المملكة بأنها «مجتمع مغلق». ولكن كيف يمكن توصيف الدولة التي يعيش 30 في المائة من سكانها في خارجها، مغتربين في أكثر من 80 بلدا حول العالم، بأنها «مجتمع مغلق»، هذا بالإضافة إلى ملايين الحجاج الأجانب الذين يفدون إلى الأراضي المقدسة في المملكة العربية السعودية كل عام؟ الادعاء بأن المملكة مجتمع مغلق أمام العلماء الأجانب ووسائل الإعلام الخارجية، هو من الادعاءات التي يصعب الدفاع عنها؛ إذ يمكن للمرء في زيارته لأي من المدن السعودية الكبرى مقابلة نصف دزينة من العلماء والأكاديميين، وأغلبهم من أوروبا أو من الولايات المتحدة، وهم يعملون في مشروعات بحثية غالبًا ما تقوم المملكة العربية السعودية بتمويلها. أما بالنسبة لوصول وسائل الإعلام الخارجية، فهناك من يعتقدون أن كبار المسؤولين السعوديين يمضون كثيرًا من أوقاتهم في الحديث إلى الصحافيين والمراسلين الأجانب.
أما بالنسبة للدين، فهناك كليشيهات تصور المملكة على أنها المكان الذي ينبع منه الإيمان بلون أحادي الطيف. وفي واقع الأمر، ورغم كل شيء، فإن المملكة العربية السعودية تضم مجاميع من كل المدارس الإسلامية تقريبًا، ناهيكم بالمغتربين المسيحيين، والهندوس، والبوذيين، وأتباع الديانات الأخرى، الذين يعيشون في المملكة العربية السعودية.
هناك كتب، أيضًا، تصور المملكة العربية السعودية على أنها مجرد صحراء؛ ماديًا وثقافيًا.
ما يتعلق بالجزء المادي قد يكون صحيحًا إلى حد كبير، رغم أنه في هذه الأيام حتى صحراء الربع الخالي المذهلة، الواقعة في جنوب شرقي المملكة، ليست منطقة معزولة تمامًا كما كان حالها قبل نصف قرن من الزمان. أما بالنسبة للثقافة، فيمكن وصف المملكة العربية السعودية بأي شيء إلا أنها صحراء جرداء؛ فالمكان برمته مليء بالشعراء، والرواة، والمؤرخين، والأكاديميين، والمفكرين، وهي الفئة العزيزة للغاية على قلوب العرب. حتى البرامج التلفزيونية السعودية، بما في ذلك البرامج الكوميدية منها، حازت الآن جمهورَها العريض داخل وخارج حدود المملكة. وشهدت البلاد أيضا إحياء كثير من الفنون القديمة والحرف التقليدية، وإن كانت بسبب أن الطبقة الوسطى باتت توفر السوق الطبيعية لاستيعابها.
وصدقوا أو لا تصدقوا، هناك عدد ليس قليلا أيضا من الرسامين السعوديين الذين تستحق أعمالهم الفنية مزيدا من التقدير والاهتمام. وسوف تتضمن احتفالات توزيع جوائز الأوسكار المقبلة في هوليوود فيلما روائيا سعوديا للمرة الأولى، وهو فيلم كوميدي، ومن الأفلام المرشحة للحصول على جائزة أفضل فيلم أجنبي لهذا العام. (سوف يدخل الفيلم السعودي منافسا لفيلم روائي إيراني في المسابقة ذاتها!)
«المجتمع المحافظ» هو أحد الأوصاف الملحقة دائما بالمملكة العربية السعودية، الذي يصورها على أنها مجتمع مناهض للتغيير. ورغم ذلك، فإن هناك بعضًا مما يسمى «الدول النامية» التي خبرت مختلف مستويات وصعوبات التغييرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية التي مرت بها المملكة العربية السعودية منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي، عندما اتخذ العاهل الراحل الملك سعود بن عبد العزيز أولى خطواته نحو الإصلاح.
ويمكن لأولئك الذي تابعوا أحوال المملكة العربية السعودية خلال نصف القرن الماضي الشهادة على التغيرات المادية الهائلة، التي غيرت من وجه الحياة تماما في المدن والقرى السعودية شبه المهجورة، وحولتها إلى مراكز حضرية حديثة. ويمكن لنتائج تلك التحولات الهائلة ألا ترضي أولئك الذين يقتلهم الحنين إلى الماضي العربي الرومانسي القديم. ولكن ليس بمقدور أحد إنكار مختلف مجالات التغيير المشهودة حاليا في مختلف أصقاع المملكة.
وكان استحداث أدوات الحياة الحديثة كافة في المملكة العربية السعودية، وبوتيرة سريعة، من نظام الهواتف المبكر، الذي كان محظورا لفترة طويلة، قد نقل المملكة إلى العصر الحديث لتكنولوجيا المعلومات العالمية. ودخل كثير من الجوانب الأخرى للحياة المعاصرة كذلك في نسيج المجتمع السعودي، ملتفّة في بعض الأحيان على حالات التردد العصيبة أو العداءات الناجمة عن بعض التفسيرات الدينية. ومن بين هذه الملامح الحديثة كانت المصارف، وشركات التأمين، والمؤسسات العامة، وبطبيعة الحال، الخدمات المدنية والعسكرية المنظمة تنظيما حديثا. كما نتج عن توفير التعليم الأساسي الإلزامي والتوسع السريع في التعليم الثانوي والجامعي، للبنين والبنات على حد سواء، وجود جيلين من المواطنين السعوديين من أصحاب الخلفيات التعليمية ذات الطراز الحديث.
ومن التوصيفات الأخرى التي وصفت بها المملكة العربية السعودية، صفة «المجتمع القبلي»، من حيث استحضار صورة محاربي الصحراء القدماء الذين ينطلقون على الجياد أو الجمال إلى المعارك بالسيوف والرماح. ومع ذلك، فإن المملكة العربية السعودية اليوم مجتمع حضري إلى حد كبير، وظهرت أشكال جديدة من التنظيم إلى حيز الوجود، بما في ذلك النقابات المهنية، وغرف التجارة والصناعة، والأندية الأدبية والاجتماعية، ونقابات الخريجين، وجماعات الضغط التي تنظم الحملات لنصرة مختلف القضايا. وبالطبع، هناك مجلس الشورى السعودي، الذي تطور وبشكل مطرد إلى جهاز تشريعي حديث مفعم بالحيوية والنشاط.
وللأسف، فإن أغلب الكتاب والمؤلفين في الشأن السعودي يخصصون مساحة كبيرة من مؤلفاتهم للحديث عن الماضي، منذ منشأ الدولة السعودية في القرن الثامن عشر، ويصورونه كمجتمع بدائي وذلك على حساب المجتمع السعودي القائم والحيوي والمتغير الذي تشهده المملكة في العصر الحاضر، وكذلك في الماضي. وهو مثل تأليف كتاب عن الولايات المتحدة الأميركية مع تكريس جُل صفحات الكتاب للحديث عن الأيام الأولى للمهاجرين الأوروبيين وحروبهم مع الهنود الحمر.
أما كتاب «المملكة العربية السعودية في المرحلة الانتقالية: رؤى حول التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية»، وهو من تأليف برنارد هيكال، وتحرير توماس هيغهامر، وستيفان لاكروا، ويتضمن إسهامات من بعض الأكاديميين السعوديين، فهو يقفز بالقارئ متجاوزا الماضي البعيد، ويخصص الفصول الخمسة عشر لمعالجة مختلف جوانب التطوير والتنمية في المملكة العربية السعودية.
وفي بعض الأحيان، يعترف الكتاب بواقع التغيير المشهود في المملكة العربية السعودية. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك كتاب يحمل عنوان «التفحيط في الرياض: ثورة التغيير في النفط والعمران والطرق»، من تأليف باسكال مينوريه. وهو يعرض لنا في كتابه صورة للشباب حديثي السن الذين ينطلقون في سياراتهم الحديثة يلتهمون الطرق السعودية السريعة التي غالبا ما تكون، لحسن الحظ، خالية من المارة أو السيارات. ويعد المؤلف هذا الأمر صورة من صور المشكلات الاجتماعية ذات النغمات المثيرة. ومع ذلك، فإن هواية «التفحيط» في الشوارع ليست بكل تأكيد من اختراع المملكة العربية السعودية. ففي واقع الأمر، أن المثال الأول لها كان في فيلم «ثائر بلا قضية» من إخراج نيكولاس راي في عام 1955 وبطولة الممثل الأميركي الراحل جيمس دين.
لو حاول السيد مينوريه أن يمعن النظر قليلا، لكان لاحظ أن للشباب السعودي وسائل أخرى للترفيه وقضاء الأوقات بدلا من مجرد تقليد جيمس دين. ومع ذلك، فإن الكتاب يستحق الاهتمام لأنه ينظر للمجتمع السعودي من زاوية فنون العالم الحديث المشتبكة بهموم الحياة الحضرية المعاصرة.
ومن الكتب التي تتبع آثار الماضي كتاب «تحديث الصحراء: الأميركيون، والعرب، والنفط على التخوم السعودية بين 1933 - 1973 (الثقافة، والسياسة والحرب الباردة)»، من تأليف تشاد باركر. وهو يسرد لنا قصة شركة «أرامكو»، أو شركة النفط الأميركية السعودية التي أسست في ثلاثينات القرن الماضي، وأصبحت واحدة من كبريات شركات الطاقة في الأسواق العالمية.
وأسلوب السيد باركر حاد بعض الشيء، وفي بعض الأحيان هادئ ولطيف. ولكنني أرى أنه يغالي كثيرا في الدور الذي تلعبه الشركة النفطية، والولايات المتحدة في المجمل، في صياغة وجه الحياة في المملكة العربية السعودية حاليا. والزعم المبالغ فيه بصورة خاصة، هو ادعاؤه أن «أرامكو» قد ساهمت في «بناء الدولة» في المملكة، وهو الأمر الذي لم تكن الشركة النفطية مؤهلة له من الناحية المادية أو مجهزة له من الناحية الفكرية.
وليس هناك من شك أنه، بعد الاجتماع التاريخي الذي جمع العاهل السعودي الراحل الملك عبد العزيز بالرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت في عام 1945، قد احتلت الولايات المتحدة الأميركية مكانا بارزا في المشهد الجيو - سياسي السعودي الكبير.
غير أن ذلك لا يعني بالضرورة أن واشنطن حاولت تصدر الدور الريادي في تنمية وتطوير المملكة العربية السعودية كما يشير باركر في كتابه،
حيث يقول إن الدبلوماسيين الأميركيين كانت لديهم أوامر مسبقة بالتركيز على «القضايا المعتادة» من حقوق الإنسان، والمساواة للمرأة، والتنوع الديني، من واقع أنها مسائل روتينية الطرح في معرض الاتصالات الرسمية الدائمة مع المسؤولين السعوديين. ولكن واشنطن لم تنتوِ أبدا ممارسة أي قدر من الضغوط الحقيقية على المملكة العربية السعودية في ما يتعلق بقضايا كهذه.
بل في الواقع، أصدر دين راسك، وزير الخارجية الأميركي في إدارة الرئيس الأسبق جونسون، أوامره إلى الدبلوماسيين الأميركيين عام 1965 بالابتعاد الواضح عن أي تصريحات تمس الشأن السعودي الداخلي، إذ قال آنذاك: «إن العاهل السعودي يدرك جيدا وأفضل منكم صالح شعبه وبلاده».
ويسرد كتاب توبي ماثيزن الذي يحمل عنوان «السعوديون الآخرون: التشيع، والمعارضة، والطائفية» افتراضات روتينية يدلي بها كثيرا مختلف الكتاب حول الشأن السعودي أن الدولة التي أسسها الملوك السعوديون المتعاقبون كانت ملتزمة للغاية بمصادقة علماء الدين على سياساتها الداخلية. غير أن السيد ماثيزن، رغم كل شيء، يقول إن الأمور في المملكة العربية السعودية لم تكن بمثل هذه البساطة.
في واقع الأمر كان الدين في المملكة الناشئة، هو الملحق بالدولة، وليس العكس من ذلك. وفي أغلب الحالات والقضايا تقريبا، كانت مصالح الدولة، وعلى رأس أولوياتها الاستقرار والأمن، تتفوق على الاعتبارات والتفسيرات الدينية التي كان يثيرها غالبية رجال الدين.
وكما هو ملاحظ بالفعل، كانت شبه الجزيرة العربية مفعمة بالتنوع الديني بأكثر مما كان معروفا أو مفترضا.
ومنذ القرن الثامن الميلادي، كانت هناك طوائف شيعية تعيش في المدينة المنورة، وقبائل الشيعة الإسماعيلية في نجران، ناهيكم بالشيعة الزيدية، وهي من العشائر الأصيلة الموجودة في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية
ويحاول السيد ماثيزن توصيف شيعة المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية بأنهم محرومون من حقوقهم، ولكنه سرعان ما يلاحظ أن تلك الطائفة لديها مدارسها الدينية الخاصة، والمعروفة باسم الحوزات العلمية، التي تشرف على تعليم وتدريب علماء المذهب الشيعي، ومن بينها إحدى الحوزات الخاصة بالنساء، وهي على اتصالات دائمة ومنتظمة مع رجال الدين الشيعة في مدن النجف، وبيروت، وقُم، كما يُسمح لهم دوما بإقامة الاحتفالات الشعبية الخاصة بالأعياد الدينية في تقويمهم السنوي، ولا سيما في شهري المحرم وصفر من كل عام.
ويكرر سيمون روس فالانتين الخطأ نفسه الذي وقع فيه كثير من المؤلفين عن الشأن السعودي، وذلك في كتابه المعنون: «القوة والتعصب»، حيث تصور وجود عقيدة دينية محددة ورفعها لمستوى الدين الرسمي في المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، يعلم علماء الدين الإسلامي جيدا أنه لا يوجد في الإسلام ما يُعرف بمذهب محدد، وأن الدولة السعودية تقدم نفسها للعالم بصفتها دولة ملتزمة بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف وليس بنسخة ما من أي آيديولوجية دينية محددة.
ومن الواضح أن فالانتين قد بذل قصارى جهده للوقوف على التجاوزات ووضعها تحت أضواء المسرح العالمي، حيث يستشهد بعدد من القواعد والقيود الصارمة التي يفرضها المجتمع السعودي، وكثير منها يعود بجذوره إلى التقاليد القبلية القديمة بدلا من كونها تفسيرات لتعاليم الدين الإسلامي. ومع ذلك، كان من الأمانة بمكان؛ حيث أشار إلى أن كثيرا من هذه القيود يُحتفى بها من خلال التجاهل بأكثر من الالتزام بها.
والتحدي الذي يواجهه فالانتين وغيره من المؤلفين الغربيين حول الشأن السعودي يكمن في أنهم يعجزون عن تحرير أنفسهم وأفكارهم من فكرة أن هناك «نموذجا مثاليا واحدا» ينسحب على كل المجتمعات. فالمملكة العربية السعودية بكل تأكيد ليست مجتمعا متحررا على الطراز الغربي، ومن الممكن، بطبيعة الحال، أن يكون أغلب سكانها لا يرغبون في المعيشة في المجتمعات الغربية المتحررة. ولكن السؤال الحاسم هنا هو ما إذا كان المجتمع السعودي متماسكا وفق قيمه وتقاليده الخاصة، وما إذا كان يحترم قواعده المنصوص عليها والمعمول بها.
هذا، ولم يُجهد فالانتين نفسه في التعامل مع المشكلة ومعالجتها على نحو مباشر. ولكن، وربما بسبب الجهل بالأمر، يحاول الكشف عن بعض ما يسميها التناقضات. وبناء على ذلك، فإن قائمته الخاصة من السلوكيات «الممنوعة» قد تكون بطول دليل الهواتف في مدينة جدة!
وفي الواقع، وفي كل عام، تستضيف جدة مهرجانا تحت شعار: «كنا كده»، (ما اعتدنا أن نكون عليه)، يعكس مدى التنوع الواسع الذي تحفل به المملكة، من حيث وتيرة الحياة المعاصرة المحسوبة والدرجة المدهشة من الحريات.
أما كتاب «المملكة العربية السعودية: المملكة على حافة الخطر»، من تأليف بول آرتس وكارولين رولانتس، فهو الحلقة الأخيرة من سلسلة مؤلفات ظلت تتنبأ بالتغييرات الجذرية الكبيرة في المملكة العربية السعودية. ولقد بدأت تلك السلسلة في عام 2012 بكتاب «المملكة العربية السعودية على الحافة: المستقبل الغامض للحليف الأميركي»، من تأليف توماس ليبمان، الذي، على العكس من العنوان، قد أظهر أن المملكة العربية السعودية ليست قريبة من أو تستشرف أي حافة أو هاوية تُذكر.
ويحاول بول آرتس وكارولين رولانتس، رغم ذلك، استخدام كليشة «الربيع العربي» لتبرير «الخطر» الذي يداهم المملكة كما يوحي عنوان الكتاب. وقد انتهى بهما الأمر أيضا بمناقضة فكرتهما الأساسية المطروحة بين دفتي الكتاب التي تفيد بأن المملكة العربية السعودية «قد» تكون في خطر داهم ووشيك. ولقد بذلا القليل من الجهد في تصوير أي تهديدات خارجية تواجهها المملكة العربية السعودية، أو قد واجهتها منذ تأسيسها، محاولين التركيز على التهديدات الداخلية، لا سيما من الجماعات الإرهابية.
تواجه المملكة العربية السعودية كثيرا من التحديات في منطقة غير مستقرة ومهتزة إثر الحروب الطائفية المنتشرة في المنطقة، من حيث الاشتباك مع طموحات بناء الإمبراطوريات، والفراغ العميق الذي يبتلع الدول واحدة تلو الأخرى في ثقب أسود هائل من الفشل المنهجي العقيم. والخيار المطروح يدفع الدول إما إلى استخدام تلك الخلفية المرعبة مبررا لفرض القبضة الأمنية الصارمة وتأخير كل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الضرورية، أو الوقوع في هوة الذعر والهلع والشروع في تغييرات مصممة على عجالة ومفعمة بالمخاطر الشديدة
تجنب كل من بول آرتس وكارولين رولانتس مناقشة تلك الخيارات المهمة. ولا تزال الحاجة ماسة وقائمة لإجراء فحص أعمق وتحليل أوسع لاحتياجات المملكة العربية السعودية الراهنة والآفاق المستقبلية المتوقعة.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.