كتب جديدة عن السعودية.. الفهم وسوء الفهم

مقاربات جديدة حيال التخطيط الاقتصادي.. وإعادة النظر إزاء أجندة الإصلاح الداخلية من زوايا جديدة

أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا
أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا
TT

كتب جديدة عن السعودية.. الفهم وسوء الفهم

أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا
أغلفة بعض الكتب التي تتناول السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا

يتسابق كتاب كثيرون في أوروبا والولايات المتحدة في الكتابة عن المملكة العربية السعودية وشؤونها، لأسباب متباينة؛ تاريخية وسياسية، فهي دولة عربية كبيرة، ولاعب رئيسي في النظام الجيو - سياسي في منطقة الشرق الأوسط، ومستودع أكبر احتياطي للنفط في العالم، بالإضافة إلى التغييرات الكبيرة التي تشهدها المملكة، التي تجسدت في «رؤية 2030». ولكن القليل من هذه الكتب يتناول المملكة العربية السعودية بصفتها كيانًا حيًا ومجتمعًا متغيرًا، يتعذر فهمهما وإدراك ماهيتهما من خلال الكليشيهات التي عفا عليها الزمن، بينما يسقط كتاب آخرون ضحية أفكارهم المسبقة، وتصوراتهم أو أغراضهم الآيديولوجية، أو في أفضل الأحوال، نتيجة عدم معرفتهم بالبلد معرفة موضوعية شاملة تساعدهم على الفهم الصحيح. وتنشر «الشرق الأوسط» هنا أهم ما جاء في تلك الإصدارات، التي نشرت حديثًا في عدد من الدول الأوروبية، والأميركية.
إن أعددنا قائمة تضم عشرين أو أكثر من البلدان التي دائما ما تظهر أخبارها في الصحف ووكالات الأنباء، وليس ذلك دائما لأفضل الأسباب، فسوف تحتل المملكة العربية السعودية مكانا بارزا بكل تأكيد.
هل تشعرون بشيء من القلق حول الموقع المستقبلي للإسلام في خضم النظام العالمي الذي يزداد تعقيدا؟ حسنا، لن يمكنك الوقوف على عرض كامل للأمر من دون معرفة بعض المعلومات المهمة حول المملكة العربية السعودية. ولعلكم تتساءلون ما الذي سوف يحدث في منطقة الشرق الأوسط الجاثمة على نيران الحروب المشتعلة في العراق، وسوريا، واليمن، والتي تبعث بمزيد من التهديدات والمخاطر، بما في ذلك التحركات الجماعية للاجئين التي تلوح في أفق البحر الأبيض المتوسط، وأوروبا، وربما وصولا إلى الكتلة القارية الأوروبية الآسيوية.
ومرة أخرى، لا يمكن استبعاد المملكة العربية السعودية، وهي الدولة العربية الكبيرة واللاعب الرئيسي في النظام الجيو - سياسي في منطقة الشرق الأوسط، من مشهد الأحداث وتحليلاتها. وهناك، أيضا، مكان بارز للمملكة العربية السعودية، سواء بصفتها ضحية من ضحايا الإرهاب، أو باعتبار أن بعض الإرهابيين هم قلة قليلة من مواطنيها. ولأنها مستودع أكبر احتياطي للنفط في العالم، فإن المملكة العربية السعودية تحتل كذلك مكانة بارزة في أي دراسة علمية معنية بشؤون الوضع العالمي للطاقة.
إن المملكة، التي تحتل موقعها في نقطة التقاء قارتي آسيا وأفريقيا، هي الأقرب من الطرق الملاحية العالمية الأكثر ازدحاما، كما أن لديها موقعها المهم على رقعة الشطرنج الجيو - استراتيجية العالمية، ولقد سلطت الضوء في الآونة الأخيرة على مشكلة قرصنة الخطوط الملاحية في خليج عدن والبحر الأحمر.
وتجتذب المملكة العربية السعودية قدرا من الاهتمام أكبر من المعتاد لسبب آخر: هو أنها تمر بفترة انتقالية تتميز بتغيير في الأجيال، ومقاربات جديدة حيال التخطيط الاقتصادي، وإعادة النظر إزاء أجندة الإصلاح الداخلية من زوايا جديدة. وليس من المستغرب، أن تجود قرائح بعض الكتاب في أوروبا والولايات المتحدة ببعض الكتب الجديدة حول المملكة العربية السعودية وشؤونها.
ويمكن تقسيم تلك الكتب إلى فئات ثلاث: بعض منها تقارير صحافية مباشرة تغلب عليها بعض الانتقاءات التاريخية والتكهنات المستقبلية. والبعض الآخر رسائل جامعية تستند في كثير من الأحيان إلى أسس العمل الأكاديمي. وفي الفئة الأخيرة نجد الكتب التي يحاول أصحابها تصفية بعض من الحسابات الآيديولوجية مع المملكة العربية السعودية.
وما ينقص هذه الفئات، مع بعض الاستثناءات القليلة، أو، على أقل تقدير، الفئة التي لم تنل حظها الكافي من الاهتمام، هي الكتب المعنية بالمملكة العربية السعودية بصفتها كيانًا حيًا، ومجتمعًا متغيرًا، يتعذر فهمهما وإدراك ماهيتهما من خلال الكليشيهات التي عفا عليها الزمن، ولنضرب على ذلك مثالا؛ فكثيرا ما وصفت المملكة بأنها «مجتمع مغلق». ولكن كيف يمكن توصيف الدولة التي يعيش 30 في المائة من سكانها في خارجها، مغتربين في أكثر من 80 بلدا حول العالم، بأنها «مجتمع مغلق»، هذا بالإضافة إلى ملايين الحجاج الأجانب الذين يفدون إلى الأراضي المقدسة في المملكة العربية السعودية كل عام؟ الادعاء بأن المملكة مجتمع مغلق أمام العلماء الأجانب ووسائل الإعلام الخارجية، هو من الادعاءات التي يصعب الدفاع عنها؛ إذ يمكن للمرء في زيارته لأي من المدن السعودية الكبرى مقابلة نصف دزينة من العلماء والأكاديميين، وأغلبهم من أوروبا أو من الولايات المتحدة، وهم يعملون في مشروعات بحثية غالبًا ما تقوم المملكة العربية السعودية بتمويلها. أما بالنسبة لوصول وسائل الإعلام الخارجية، فهناك من يعتقدون أن كبار المسؤولين السعوديين يمضون كثيرًا من أوقاتهم في الحديث إلى الصحافيين والمراسلين الأجانب.
أما بالنسبة للدين، فهناك كليشيهات تصور المملكة على أنها المكان الذي ينبع منه الإيمان بلون أحادي الطيف. وفي واقع الأمر، ورغم كل شيء، فإن المملكة العربية السعودية تضم مجاميع من كل المدارس الإسلامية تقريبًا، ناهيكم بالمغتربين المسيحيين، والهندوس، والبوذيين، وأتباع الديانات الأخرى، الذين يعيشون في المملكة العربية السعودية.
هناك كتب، أيضًا، تصور المملكة العربية السعودية على أنها مجرد صحراء؛ ماديًا وثقافيًا.
ما يتعلق بالجزء المادي قد يكون صحيحًا إلى حد كبير، رغم أنه في هذه الأيام حتى صحراء الربع الخالي المذهلة، الواقعة في جنوب شرقي المملكة، ليست منطقة معزولة تمامًا كما كان حالها قبل نصف قرن من الزمان. أما بالنسبة للثقافة، فيمكن وصف المملكة العربية السعودية بأي شيء إلا أنها صحراء جرداء؛ فالمكان برمته مليء بالشعراء، والرواة، والمؤرخين، والأكاديميين، والمفكرين، وهي الفئة العزيزة للغاية على قلوب العرب. حتى البرامج التلفزيونية السعودية، بما في ذلك البرامج الكوميدية منها، حازت الآن جمهورَها العريض داخل وخارج حدود المملكة. وشهدت البلاد أيضا إحياء كثير من الفنون القديمة والحرف التقليدية، وإن كانت بسبب أن الطبقة الوسطى باتت توفر السوق الطبيعية لاستيعابها.
وصدقوا أو لا تصدقوا، هناك عدد ليس قليلا أيضا من الرسامين السعوديين الذين تستحق أعمالهم الفنية مزيدا من التقدير والاهتمام. وسوف تتضمن احتفالات توزيع جوائز الأوسكار المقبلة في هوليوود فيلما روائيا سعوديا للمرة الأولى، وهو فيلم كوميدي، ومن الأفلام المرشحة للحصول على جائزة أفضل فيلم أجنبي لهذا العام. (سوف يدخل الفيلم السعودي منافسا لفيلم روائي إيراني في المسابقة ذاتها!)
«المجتمع المحافظ» هو أحد الأوصاف الملحقة دائما بالمملكة العربية السعودية، الذي يصورها على أنها مجتمع مناهض للتغيير. ورغم ذلك، فإن هناك بعضًا مما يسمى «الدول النامية» التي خبرت مختلف مستويات وصعوبات التغييرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية التي مرت بها المملكة العربية السعودية منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي، عندما اتخذ العاهل الراحل الملك سعود بن عبد العزيز أولى خطواته نحو الإصلاح.
ويمكن لأولئك الذي تابعوا أحوال المملكة العربية السعودية خلال نصف القرن الماضي الشهادة على التغيرات المادية الهائلة، التي غيرت من وجه الحياة تماما في المدن والقرى السعودية شبه المهجورة، وحولتها إلى مراكز حضرية حديثة. ويمكن لنتائج تلك التحولات الهائلة ألا ترضي أولئك الذين يقتلهم الحنين إلى الماضي العربي الرومانسي القديم. ولكن ليس بمقدور أحد إنكار مختلف مجالات التغيير المشهودة حاليا في مختلف أصقاع المملكة.
وكان استحداث أدوات الحياة الحديثة كافة في المملكة العربية السعودية، وبوتيرة سريعة، من نظام الهواتف المبكر، الذي كان محظورا لفترة طويلة، قد نقل المملكة إلى العصر الحديث لتكنولوجيا المعلومات العالمية. ودخل كثير من الجوانب الأخرى للحياة المعاصرة كذلك في نسيج المجتمع السعودي، ملتفّة في بعض الأحيان على حالات التردد العصيبة أو العداءات الناجمة عن بعض التفسيرات الدينية. ومن بين هذه الملامح الحديثة كانت المصارف، وشركات التأمين، والمؤسسات العامة، وبطبيعة الحال، الخدمات المدنية والعسكرية المنظمة تنظيما حديثا. كما نتج عن توفير التعليم الأساسي الإلزامي والتوسع السريع في التعليم الثانوي والجامعي، للبنين والبنات على حد سواء، وجود جيلين من المواطنين السعوديين من أصحاب الخلفيات التعليمية ذات الطراز الحديث.
ومن التوصيفات الأخرى التي وصفت بها المملكة العربية السعودية، صفة «المجتمع القبلي»، من حيث استحضار صورة محاربي الصحراء القدماء الذين ينطلقون على الجياد أو الجمال إلى المعارك بالسيوف والرماح. ومع ذلك، فإن المملكة العربية السعودية اليوم مجتمع حضري إلى حد كبير، وظهرت أشكال جديدة من التنظيم إلى حيز الوجود، بما في ذلك النقابات المهنية، وغرف التجارة والصناعة، والأندية الأدبية والاجتماعية، ونقابات الخريجين، وجماعات الضغط التي تنظم الحملات لنصرة مختلف القضايا. وبالطبع، هناك مجلس الشورى السعودي، الذي تطور وبشكل مطرد إلى جهاز تشريعي حديث مفعم بالحيوية والنشاط.
وللأسف، فإن أغلب الكتاب والمؤلفين في الشأن السعودي يخصصون مساحة كبيرة من مؤلفاتهم للحديث عن الماضي، منذ منشأ الدولة السعودية في القرن الثامن عشر، ويصورونه كمجتمع بدائي وذلك على حساب المجتمع السعودي القائم والحيوي والمتغير الذي تشهده المملكة في العصر الحاضر، وكذلك في الماضي. وهو مثل تأليف كتاب عن الولايات المتحدة الأميركية مع تكريس جُل صفحات الكتاب للحديث عن الأيام الأولى للمهاجرين الأوروبيين وحروبهم مع الهنود الحمر.
أما كتاب «المملكة العربية السعودية في المرحلة الانتقالية: رؤى حول التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية»، وهو من تأليف برنارد هيكال، وتحرير توماس هيغهامر، وستيفان لاكروا، ويتضمن إسهامات من بعض الأكاديميين السعوديين، فهو يقفز بالقارئ متجاوزا الماضي البعيد، ويخصص الفصول الخمسة عشر لمعالجة مختلف جوانب التطوير والتنمية في المملكة العربية السعودية.
وفي بعض الأحيان، يعترف الكتاب بواقع التغيير المشهود في المملكة العربية السعودية. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك كتاب يحمل عنوان «التفحيط في الرياض: ثورة التغيير في النفط والعمران والطرق»، من تأليف باسكال مينوريه. وهو يعرض لنا في كتابه صورة للشباب حديثي السن الذين ينطلقون في سياراتهم الحديثة يلتهمون الطرق السعودية السريعة التي غالبا ما تكون، لحسن الحظ، خالية من المارة أو السيارات. ويعد المؤلف هذا الأمر صورة من صور المشكلات الاجتماعية ذات النغمات المثيرة. ومع ذلك، فإن هواية «التفحيط» في الشوارع ليست بكل تأكيد من اختراع المملكة العربية السعودية. ففي واقع الأمر، أن المثال الأول لها كان في فيلم «ثائر بلا قضية» من إخراج نيكولاس راي في عام 1955 وبطولة الممثل الأميركي الراحل جيمس دين.
لو حاول السيد مينوريه أن يمعن النظر قليلا، لكان لاحظ أن للشباب السعودي وسائل أخرى للترفيه وقضاء الأوقات بدلا من مجرد تقليد جيمس دين. ومع ذلك، فإن الكتاب يستحق الاهتمام لأنه ينظر للمجتمع السعودي من زاوية فنون العالم الحديث المشتبكة بهموم الحياة الحضرية المعاصرة.
ومن الكتب التي تتبع آثار الماضي كتاب «تحديث الصحراء: الأميركيون، والعرب، والنفط على التخوم السعودية بين 1933 - 1973 (الثقافة، والسياسة والحرب الباردة)»، من تأليف تشاد باركر. وهو يسرد لنا قصة شركة «أرامكو»، أو شركة النفط الأميركية السعودية التي أسست في ثلاثينات القرن الماضي، وأصبحت واحدة من كبريات شركات الطاقة في الأسواق العالمية.
وأسلوب السيد باركر حاد بعض الشيء، وفي بعض الأحيان هادئ ولطيف. ولكنني أرى أنه يغالي كثيرا في الدور الذي تلعبه الشركة النفطية، والولايات المتحدة في المجمل، في صياغة وجه الحياة في المملكة العربية السعودية حاليا. والزعم المبالغ فيه بصورة خاصة، هو ادعاؤه أن «أرامكو» قد ساهمت في «بناء الدولة» في المملكة، وهو الأمر الذي لم تكن الشركة النفطية مؤهلة له من الناحية المادية أو مجهزة له من الناحية الفكرية.
وليس هناك من شك أنه، بعد الاجتماع التاريخي الذي جمع العاهل السعودي الراحل الملك عبد العزيز بالرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت في عام 1945، قد احتلت الولايات المتحدة الأميركية مكانا بارزا في المشهد الجيو - سياسي السعودي الكبير.
غير أن ذلك لا يعني بالضرورة أن واشنطن حاولت تصدر الدور الريادي في تنمية وتطوير المملكة العربية السعودية كما يشير باركر في كتابه،
حيث يقول إن الدبلوماسيين الأميركيين كانت لديهم أوامر مسبقة بالتركيز على «القضايا المعتادة» من حقوق الإنسان، والمساواة للمرأة، والتنوع الديني، من واقع أنها مسائل روتينية الطرح في معرض الاتصالات الرسمية الدائمة مع المسؤولين السعوديين. ولكن واشنطن لم تنتوِ أبدا ممارسة أي قدر من الضغوط الحقيقية على المملكة العربية السعودية في ما يتعلق بقضايا كهذه.
بل في الواقع، أصدر دين راسك، وزير الخارجية الأميركي في إدارة الرئيس الأسبق جونسون، أوامره إلى الدبلوماسيين الأميركيين عام 1965 بالابتعاد الواضح عن أي تصريحات تمس الشأن السعودي الداخلي، إذ قال آنذاك: «إن العاهل السعودي يدرك جيدا وأفضل منكم صالح شعبه وبلاده».
ويسرد كتاب توبي ماثيزن الذي يحمل عنوان «السعوديون الآخرون: التشيع، والمعارضة، والطائفية» افتراضات روتينية يدلي بها كثيرا مختلف الكتاب حول الشأن السعودي أن الدولة التي أسسها الملوك السعوديون المتعاقبون كانت ملتزمة للغاية بمصادقة علماء الدين على سياساتها الداخلية. غير أن السيد ماثيزن، رغم كل شيء، يقول إن الأمور في المملكة العربية السعودية لم تكن بمثل هذه البساطة.
في واقع الأمر كان الدين في المملكة الناشئة، هو الملحق بالدولة، وليس العكس من ذلك. وفي أغلب الحالات والقضايا تقريبا، كانت مصالح الدولة، وعلى رأس أولوياتها الاستقرار والأمن، تتفوق على الاعتبارات والتفسيرات الدينية التي كان يثيرها غالبية رجال الدين.
وكما هو ملاحظ بالفعل، كانت شبه الجزيرة العربية مفعمة بالتنوع الديني بأكثر مما كان معروفا أو مفترضا.
ومنذ القرن الثامن الميلادي، كانت هناك طوائف شيعية تعيش في المدينة المنورة، وقبائل الشيعة الإسماعيلية في نجران، ناهيكم بالشيعة الزيدية، وهي من العشائر الأصيلة الموجودة في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية
ويحاول السيد ماثيزن توصيف شيعة المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية بأنهم محرومون من حقوقهم، ولكنه سرعان ما يلاحظ أن تلك الطائفة لديها مدارسها الدينية الخاصة، والمعروفة باسم الحوزات العلمية، التي تشرف على تعليم وتدريب علماء المذهب الشيعي، ومن بينها إحدى الحوزات الخاصة بالنساء، وهي على اتصالات دائمة ومنتظمة مع رجال الدين الشيعة في مدن النجف، وبيروت، وقُم، كما يُسمح لهم دوما بإقامة الاحتفالات الشعبية الخاصة بالأعياد الدينية في تقويمهم السنوي، ولا سيما في شهري المحرم وصفر من كل عام.
ويكرر سيمون روس فالانتين الخطأ نفسه الذي وقع فيه كثير من المؤلفين عن الشأن السعودي، وذلك في كتابه المعنون: «القوة والتعصب»، حيث تصور وجود عقيدة دينية محددة ورفعها لمستوى الدين الرسمي في المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، يعلم علماء الدين الإسلامي جيدا أنه لا يوجد في الإسلام ما يُعرف بمذهب محدد، وأن الدولة السعودية تقدم نفسها للعالم بصفتها دولة ملتزمة بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف وليس بنسخة ما من أي آيديولوجية دينية محددة.
ومن الواضح أن فالانتين قد بذل قصارى جهده للوقوف على التجاوزات ووضعها تحت أضواء المسرح العالمي، حيث يستشهد بعدد من القواعد والقيود الصارمة التي يفرضها المجتمع السعودي، وكثير منها يعود بجذوره إلى التقاليد القبلية القديمة بدلا من كونها تفسيرات لتعاليم الدين الإسلامي. ومع ذلك، كان من الأمانة بمكان؛ حيث أشار إلى أن كثيرا من هذه القيود يُحتفى بها من خلال التجاهل بأكثر من الالتزام بها.
والتحدي الذي يواجهه فالانتين وغيره من المؤلفين الغربيين حول الشأن السعودي يكمن في أنهم يعجزون عن تحرير أنفسهم وأفكارهم من فكرة أن هناك «نموذجا مثاليا واحدا» ينسحب على كل المجتمعات. فالمملكة العربية السعودية بكل تأكيد ليست مجتمعا متحررا على الطراز الغربي، ومن الممكن، بطبيعة الحال، أن يكون أغلب سكانها لا يرغبون في المعيشة في المجتمعات الغربية المتحررة. ولكن السؤال الحاسم هنا هو ما إذا كان المجتمع السعودي متماسكا وفق قيمه وتقاليده الخاصة، وما إذا كان يحترم قواعده المنصوص عليها والمعمول بها.
هذا، ولم يُجهد فالانتين نفسه في التعامل مع المشكلة ومعالجتها على نحو مباشر. ولكن، وربما بسبب الجهل بالأمر، يحاول الكشف عن بعض ما يسميها التناقضات. وبناء على ذلك، فإن قائمته الخاصة من السلوكيات «الممنوعة» قد تكون بطول دليل الهواتف في مدينة جدة!
وفي الواقع، وفي كل عام، تستضيف جدة مهرجانا تحت شعار: «كنا كده»، (ما اعتدنا أن نكون عليه)، يعكس مدى التنوع الواسع الذي تحفل به المملكة، من حيث وتيرة الحياة المعاصرة المحسوبة والدرجة المدهشة من الحريات.
أما كتاب «المملكة العربية السعودية: المملكة على حافة الخطر»، من تأليف بول آرتس وكارولين رولانتس، فهو الحلقة الأخيرة من سلسلة مؤلفات ظلت تتنبأ بالتغييرات الجذرية الكبيرة في المملكة العربية السعودية. ولقد بدأت تلك السلسلة في عام 2012 بكتاب «المملكة العربية السعودية على الحافة: المستقبل الغامض للحليف الأميركي»، من تأليف توماس ليبمان، الذي، على العكس من العنوان، قد أظهر أن المملكة العربية السعودية ليست قريبة من أو تستشرف أي حافة أو هاوية تُذكر.
ويحاول بول آرتس وكارولين رولانتس، رغم ذلك، استخدام كليشة «الربيع العربي» لتبرير «الخطر» الذي يداهم المملكة كما يوحي عنوان الكتاب. وقد انتهى بهما الأمر أيضا بمناقضة فكرتهما الأساسية المطروحة بين دفتي الكتاب التي تفيد بأن المملكة العربية السعودية «قد» تكون في خطر داهم ووشيك. ولقد بذلا القليل من الجهد في تصوير أي تهديدات خارجية تواجهها المملكة العربية السعودية، أو قد واجهتها منذ تأسيسها، محاولين التركيز على التهديدات الداخلية، لا سيما من الجماعات الإرهابية.
تواجه المملكة العربية السعودية كثيرا من التحديات في منطقة غير مستقرة ومهتزة إثر الحروب الطائفية المنتشرة في المنطقة، من حيث الاشتباك مع طموحات بناء الإمبراطوريات، والفراغ العميق الذي يبتلع الدول واحدة تلو الأخرى في ثقب أسود هائل من الفشل المنهجي العقيم. والخيار المطروح يدفع الدول إما إلى استخدام تلك الخلفية المرعبة مبررا لفرض القبضة الأمنية الصارمة وتأخير كل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الضرورية، أو الوقوع في هوة الذعر والهلع والشروع في تغييرات مصممة على عجالة ومفعمة بالمخاطر الشديدة
تجنب كل من بول آرتس وكارولين رولانتس مناقشة تلك الخيارات المهمة. ولا تزال الحاجة ماسة وقائمة لإجراء فحص أعمق وتحليل أوسع لاحتياجات المملكة العربية السعودية الراهنة والآفاق المستقبلية المتوقعة.



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.