شكل جديد للقراءة

رحلتي مع الكتاب

شكل جديد للقراءة
TT

شكل جديد للقراءة

شكل جديد للقراءة

القراءة التي راح ألبرتو منغويل يفلسفها ويتقصى وضعها، تاريخها، يومياتها، وفنها، والأهم متعتها، هي بالنسبة لي تاريخ شخصي من جهة إشارتها لأحداث وأشخاص تختزنها الذاكرة: صبي يحاول فك أيروتيكيات مورافيا، ليعنف من شقيقه الأكبر في أن الوقت لم يحن لولوج عالم مورافيا، بينما ثنية الورقة في صفحة 177 في كتاب وليم شيرر (تاريخ ألمانيا الهتلرية)، تعني الكلمات التي استقرت في عين أبي في إغفاءته الأخيرة، في حين تؤرخ كتب بعينها لمرحلة الحماسة الثورية منتصف السبعينات. وهكذا على امتداد أكثر من ثلاثة عقود.
أظن أن شغفي بالقراءة بدأ يوم قرأت ما قاله طه حسين من أننا أمام جيل يكتب أكثر مما يقرأ، ورغم أنني كنت في سن لا يؤهلني للكتابة التي يعنيها أحد أساطين الأدب العربي الحديث، إلا أن ذلك لم يمنعني من قبول تحدي القراءة.
الأدب الثوري.. هكذا كنا نلقن، ولكن لا بأس إن كانت شخصية (بافل) في روايتي (الأم) أو (الفولاذ سقيناه) هو من سيقودنا إلى (الأدب اللا ثوري) هناك، حيث سنتعرف على ديستوفسكي، ومنه إلى حكمة ميشكن في رواية «الأبله»، وأزمة (راسكولنيكوف) في «الجريمة والعقاب» وطهارة (أليوشا) وطيش (ديمتري) في «الأخوة كرامازوف». هؤلاء الذين يعيشون جميعا أشكالا متباينة لمعاناة وحيدة: هي التأنسن، كما يرى ستيفان زفايج.
لم تسلبني السينما شغف القراءة بل على العكس وضعتني أمام طريقة جديدة فيها. هي لم تشل الفاعلية الإبداعية للنص لكنها أيضا أضاءت المناطق المعتمة فيه.. صرت أقرأ وأرسم في الآن نفسه، أقرا وأنا أتخيل الوضع الذي يتجسد أو سوف يتجسد فيه النص المكتوب حياة وصورا. القراءة هنا منتجة بالفعل.
رواية «الحرب والسلام» التي استهلكت مني مراهقا ليالي طوالا، حيث الحدث الأهم في تاريخ روسيا مثلما رواه شيخ الرواية الروسية تولستوي، معالجة مخرج عظيم مثل الروسي بوندارشوك للسينما أتاحت لي قراءة جديدة لهذا الأثر الأدبي الخالد. اكتشف فيها ما قاله تولستوي عن الرواية من أنها أقل تماما من قصيدة، ومع ذلك فهي أقل من تاريخ.. وهو ما لم أكتشفه في قراءتي الأولى لها. الأمر نفسه سيكون مع مارغريت ميتشل و«ذهب مع الريح».
القراءة إذن اتخذت عمقا آخر مع الصورة، وصار لك أن تقف مع فيلم مبهر عند سيناريو يعين الكاميرا على المعالجة.
وكان من سوء أو حسن حظي أن أشاهد رائعة الأفغاني عتيق رحيمي (حجر الصبر) فيلما قبل قراءة الرواية وهي بالأصل الرواية التي حظيت بامتياز غونكور الجائزة قبل أن يعالجها رحيمي نفسه في فيلم ولا أروع.. في قراءة الرواية نقف عند جمل قصيرة، وسرد يعتمد المونولوغ الداخلي، والتقطيع السينمائي، وعندما نقرأها فيلما لعتيقي نفسه، نعثر على الأسلوب الأدبي، واعتماد الحوار، وكما في الرواية ينساب الحدث مع كل لقطة. مؤلف الرواية ومترجمها للسينما يعينني في (حجر الصبر) في شكل القراءة.. هي رواية تتحدث فيها الزوجة عن مصير زوجها الراقد صامتا، والمصاب بالشلل على إثر رصاصة من رصاصات الحرب، ذكرياتها الموجعة، المؤلمة حد الجنون، تتداخل فيها التعاويذ والتمائم وآيات القرآن الكريم، والحب الذي لا ينطفئ أواره. هي أيضا عن المأساة والكوارث التي يعاني منها الشعب الأفغاني على مدى أكثر من ثلاثة عقود.

* ناقد سينمائي. المحرر الثقافي لجريدة المدى العراقية.



شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
TT

شكسبير من منظورات نقدية نسوية

غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»
غلاف «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

كتابان صدرا حديثاً – أحدهما في هذا العام - عن وليم شكسبير (1616 - 1564) ومتى كان الحديث ينقطع عن شاعر الإنجليزية – بل شاعر الإنسانية - الأكبر؟ كلا الكتابين من تأليف امرأة، وكلاهما عن شكسبير والنساء. ولكن الطرق تنشعب بهما بعد ذلك. فأحد الكتابين – على إسهابه - لا يكاد يقول شيئاً مقنعاً. والكتاب الآخر - على إيجازه - يضيف جديداً إلى موضوعه. الأول أقرب إلى الإثارة الصحافية والآخر بحث أكاديمي رصين.

أمّا الكتاب الصادر في هذا العام 2024 فهو «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

Shakespeare was a woman and other Heresies

من تأليف إليزابيث وينكلر

Elizabeth Winkler

وهي ناقدة وصحافية أميركية. والكتاب صادر عن دار نشر «سيمون شوستر» في نيويورك في أكثر من 400 صفحة.

ترمي المؤلفة - بحسب قولها - إلى «إماطة اللثام عن بعض الأساطير المتعلقة باسم شكسبير وإدانة مَن يقبلون نسبة أعمال شكسبير إليه دون فحص ولا تدقيق ورفض لعبادة الشاعر في الأوساط الأكاديمية وكأنه وثن مقدس لا يمس».

ودعوى المؤلفة - كما هو واضح من عنوان الكتاب - أن شكسبير ليس مؤلف المسرحيات والقصائد القصصية والسوناتات (154 سوناتة) التي تنسب إليه وإنما مؤلفها امرأة جرت التغطية على هويتها الأنثوية لأسباب مختلفة. قديماً أنكر البعض أن يكون لشكسبير ذاته وجود تاريخي، والآن تنكر وينكلر عليه أن يكون مؤلف المآسي والملاهي والمسرحيات التاريخية التي ارتبطت باسمه منذ القرن السادس عشر.

ما البراهين التي تستند إليها إليزابيث وينكلر تأييداً لدعواها؟ يمكن تلخيص حججها فيما يلي: (أولاً) لم تصل إلينا أي مسرحية بخط شكسبير (ثانياً) كان العصر بقيمه الأبوية لا يسيغ أن تكون المرأة كاتبة أو أن تخرج إلى الفضاء العام ومن ثم كان كثير من النساء الموهوبات ينشرن أعمالهن بلا توقيع أو تحت اسم ذكري مستعار (ثالثاً) نحن نعرف أن شكسبير لم يغادر حدود بلده إنجلترا قط فمن أين تسنى له أن يدير أحداث مسرحياته في بلدان ومدن أجنبية مثل أثينا وروما والبندقية وفيرونا والدنمارك وصور والإسكندرية (رابعاً) لم تثر وفاة شكسبير في 1616 اهتماماً يذكر بين معاصريه مما يبعث على الشك في أنه كان مؤلفاً مرموقاً.

غلاف «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»

والواقع أن وينكلر ليست أول مَن يشكك في نسبة مسرحيات شكسبير إليه فقد عبّر عن هذه الشكوك قبلها آخرون. ويتذكر المرء في هذا المقام أن الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابها المسمى «غرفة خاصة» (1929) – وهو مثل كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» (1949) من الأعمال المؤسسة للنقد النسوي في القرن الماضي - راحت تتخيل أنه ربما كانت لوليم شكسبير شقيقة تعادله نبوغاً وعبقرية. ولكن ظروف عصرها واستبداد الرجال بالنساء لم تتح لموهبتها النمو والازدهار وتركتها ملقاة في منطقة الظل على حين حظي أخوها وليم – لأنه ذكر - بالنجاح المادي وذيوع الصيت عبر الأجيال.

على أن وينكلر تكتفي بإثارة الشكوك حول تأليف شكسبير لأعماله دون أن تقدم أي بديل واضح معزز بالأسانيد الموثقة لمؤلفها الحقيقي. وتذكر على سبيل التخمين لا الجزم أن أعمال شكسبير ربما كانت من تأليف إميليا باسانو وهي معاصرة لشكسبير ومؤلفة ديوان شعري واحد ظهر أثناء حياتها.

وخلاصة ما تقوله وينكلر أن مسرحيات شكسبير «ثقب أسود» مجهول وأن اعتبارات شتى - قومية وإمبراطورية ودينية وأسطورية وجنوسية وطبقية - تكمن وراء نسبة هذه المسرحيات إليه.

وقد قوبلت آراء وينكلر هذه بالرفض من كبار دارسي شكسبير في عصرنا مثل ستانلي ويلز وجوناثان بيت وجيمس شابيرو.

وعلى النقيض من كتاب وينكلر يقف كتاب «نساء شكسبير ذوات الرؤى»

Shakespeare's Visionary Women

من تأليف لورا جين رايت

Laura Jayne Wright

وهو كتيب صغير الحجم (86 صفحة) صدر عن مطبعة جامعة كمبردج يستوفي جميع شرائط البحث العلمي المتزن الرصين.

موضوع الكتاب شخصيات شكسبير النسائية التي تملك بصيرة نافذة وتستطيع أن تتنبأ بالمستقبل وما هو آتٍ (مثل زرقاء اليمامة في تراثنا). من هذه الشخصيات كاسندرا في مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» وهي امرأة إغريقية (ابنة بريام ملك طروادة) منحها الرب أبولو ملكة القدرة على التنبؤ. وحين رفضت أن تستجيب لمحاولات أبولو الغرامية عاقبها بأن جعل كل الناس لا يصدقون نبوءاتها. وقد لقيت مصرعها بعد سقوط طروادة في أيدي الإغريق.

وهناك كالبورنيا في مسرحية «يوليوس قيصر» وقد رأت فيما يرى النائم حلماً منذراً بالشؤم وحاولت ثني قيصر عن التوجه إلى مجلس الشيوخ في منتصف مارس (آذار) 44 ق. م. ولكنه استخف بكلامها «إفراطاً في الثقة بنفسه» ومن ثم كان مصرعه على سلالم الكابيتول في روما بخناجر كاسيوس وبروتس وسائر المتآمرين.

وهناك الليدي مكبث التي تولاها شعور غامر بالذنب بعد أن حرضت زوجها القائد مكبث على قتل الملك دنكان واغتصاب عرشه فاضطربت قواها العقلية وصارت تسير في نومها وتهذي. ولكن مكبث لا يعير هذه المخاوف اهتماماً ويمضي في طريقه الدموي حتى النهاية المحتومة فيلقى مصرعه في مبارزة مع ماكدوف.

وهناك جان دارك «عذراء أورليان» في الجزء الأول من مسرحية «هنري السادس». وكانت في نظر الفرنسيين بطلة أشبه بـ«نبية من أنبياء الكتاب المقدس» وفي نظر الإنجليز أشبه بـ«الشياطين والساحرات» مستوجبات الحرق وقد كان.

وتبقى حقيقة مؤداها أن كتاب رايت إبراز للدور المهم الذي تلعبه المرأة في مسرحيات شكسبير (لرجاء النقاش كتاب سطحي متواضع القيمة عن بطلات شكسبير). إن كتاب وينكلر – مهما يكن من مآخذنا عليه - دعوة إلى إعادة النظر في المسلمات. والكتابان - من هذه الزاوية – عملان مفيدان يحثان القارئ على فحص أفكاره المسبقة وعلى رؤية الأمور من منظور جديد.