قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

للتنظيم قدرة كبيرة على التحول من أجل الاستمرار

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»
TT

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

قراءة ميدانية لمعركة إنهاء «داعش»

شهد الأسبوعان الأخيران الهجوم المنتظر على مدينة الموصل، معقل تنظيم داعش المتطرف في العراق. وفي الوقت الذي تؤكد القوات الأميركية والحكومية العراقية أن المعركة ستكون حاسمة، يرى بعض المحللين أنها قد لا تؤدي بالضرورة إلى وضع حدٍّ نهائي للتنظيم الذي برهن خلال السنوات القليلة الماضية قدرته على التطور والاستمرار.
انشق تنظيم داعش المتطرف الإرهابي عن تنظيم القاعدة في عام 2013، وحين بدأ بالاستيلاء على الأراضي في أوائل عام 2014، لم يُعره الرئيس الأميركي باراك أوباما في حينه أي أهمية بل استخف بقدراته، واصفا إياها بفريق من الصغار في الحركة الراديكالية. غير أن «داعش» ما لبث أن أحكم قبضته على الموصل، أكبر ثاني مدينة في العراق في شهر يونيو 2014 بعد حملة خاطفة شنها على شمال غربي البلاد من أراضي سوريا. وخلال العامين المنصرمين، تمكّن التنظيم من التحكّم بالمدينة والسيطرة عليها والتقدّم بشكل مطرِّد مستوليًا على كثير من الأراضي في العراق وسوريا، حاصلا على مبايعة غيره من المجموعات المتطرفة في المنطقة. مع هذا، خلال الأشهر الأخيرة الماضية، مُني هذا التنظيم الإرهابي بهزائم كبيرة، وتقلّصت مساحة مناطق سيطرته الجغرافية بنسبة 30 في المائة خلال سنتين بحسب مركز الدراسات «آي إتش إي جاينز» IHS JANE.
ونقلا عن موقع «السورية نت» تكبد «داعش» الخسائر التالية على صعيد سيطرته الجغرافية في كل من سوريا والعراق:

سوريا
1 - عين العرب (كوباني): المدينة السورية ذات الغالبية الكردية الواقعة على الحدود مع تركيا في أقصى شمال شرقي محافظة حلب بشمال سوريا. ولقد باتت عين العرب رمزًا للقتال ضد «داعش» بعدما خاض مقاتلو الميليشيات الكردية معارك عنيفة طالت أكثر من أربعة أشهر لينجحوا أخيرًا في يناير 2015 في طرد مقاتلي التنظيم منها بدعم للمرة الأولى من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
2 - تل أبيض: وهي مدينة سورية أخرى تقع أيضًا على الحدود مع تركيا في ريف محافظة الرقّة الشمالي، وقد سيطر عليها الأكراد في يونيو عام 2015. وتعد تل أبيض ذات الغالبية العربية مدينة مهمة على خط الإمداد الرئيسي ونقطة عبور للأسلحة والمقاتلين بين تركيا ومدينة الرقّة، معقل «داعش» الأبرز في سوريا.
3 - تدمر: سيطر التنظيم المتطرف على «عروس البادية» التي تتبع محافظة حمص، وتبعد مسافة 200 كم عن دمشق باتجاه وسط سوريا، في مايو (أيار) 2015، وعمد إلى تدمير الكثير من آثارها المدرجة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، بينها معبدي بل وشمين. وبدعم من الطيران الحربي الروسي، تمكن جيش نظام الأسد من استعادة السيطرة على تدمر في 27 مارس (آذار) 2016.
4 - منبج: استعادت ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية - وهي ميليشيات تشكل ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية عمودها الفقري، مع بعض المقاتلين العرب وتتلقى الدعم من الولايات المتحدة - مدينة منبج الواقعة في الريف الشمالي الشرقي بمحافظة حلب في السادس من أغسطس 2016، وذلك بعدما خضعت لسيطرة التنظيم المتطرف عام 2014. وكانت منبج تعد أحد أبرز معاقله في محافظة حلب لا سيما أنها على خط الإمداد الرئيس الذي كان متبقيًا للتنظيم بين الرقّة والحدود التركية.
5 - جرابلس: وهي أيضًا مدينة سورية تقع على الحدود التركية وعلى ضفاف نهر الفرات، إلى الغرب من عين العرب وشمال شرق منبج. ولقد طردت القوات التركية والفصائل المقاتلة السورية المدعومة من أنقرة، ولا سيما «الجيش السوري الحر»، التنظيم المتطرف منها في 24 أغسطس 2016 ضمن إطار عملية «درع الفرات» التي تشنها القوات التركية ضد التنظيم والميليشيات الكردية الانفصالية على حد سواء.
6 - الحدود التركية السورية: في الرابع من سبتمبر طردت القوات التركية والفصائل المدعومة منها مقاتلي «داعش» من آخر منطقة واقعة تحت سيطرته على الحدود بين البلدين.
7 - دابق: سيطرت فصائل سورية معارضة مدعومة من أنقرة في 16 أكتوبر على بلدة دابق الحدودية مع تركيا والتي لها أهمية رمزية لدى التنظيم، وعلى بلدة صوران المجاورة.

العراق
1 - تكريت: في 31 مارس 2015 أعلنت القوات العراقية استعادة مدينة تكريت الواقعة على بعد 160 كيلومترًا شمال بغداد، بعدما شنت أكبر عملية لها منذ هجوم التنظيم في يونيو 2014 الذي سمح له بالسيطرة على مساحات واسعة من البلاد. وشاركت واشنطن وطهران من خلال ميليشيا «الحشد الشعبي» الشيعية في عملية القوات العراقية.
2 سنجار: في 13 نوفمبر 2015 استعادت الميليشيات الكردية من تنظيم داعش، مدعومة بغارات جوية لقوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، مدينة سنجار في شمال غربي العراق، قاطعة بذلك طريقًا استراتيجيًا كان يستخدمه مقاتلوه بين العراق وسوريا. ويذكر أن التنظيم المتطرف كان قد استولى على سنجار في أغسطس 2014، وارتكب فظائع بحق السكان وغالبيتهم العظمى من الأقلية الإيزيدية.
3 الرمادي: في 9 فبراير (شباط) 2016 تمت استعادة مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار السنّية، وهي تقع على بعد 100 كلم غرب من العاصمة العراقية بغداد، من «داعش» الذي كان قد سيطر عليها في مايو 2015.
4 الفلّوجة: المدينة العراقية السنيّة التي تقع على مسافة 50 كلم غربي بغداد، كانت أولى المدن التي سيطر عليها التنظيم مطلع عام 2014 وأعلن الجيش العراقي استعادة الفلوجة في 26 يونيو 2016 بعد شهر على شن هجوم كبير انتهى بتهجير عشرات الآلاف من سكان المدينة.
5 القيارة: في 9 يوليو 2016، سيطرت القوات الحكومية العراقية مدعومة من قوات التحالف الدولي على قاعدة جوية مهمة قرب القيارة، التي تبعد مسافة 60 كلم جنوبي مدينة الموصل. وفي 25 أغسطس طردت القوات الحكومية العراقية مقاتلي التنظيم من البلدة تأهبًا لمعركة الموصل، آخر معاقل التنظيم الرئيسة في العراق.
6 - الشرقاط: أعلنت القوات العراقية في 22 سبتمبر استعادة السيطرة على بلدة الشرقاط التي تحظى بأهمية استراتيجية كبرى بالنسبة لمعركة الموصل، كونها تقع على طريق الإمداد الرئيسي إلى بغداد التي تبعد عنها مسافة 260 كلم، والشرقاط آخر معاقل التنظيم في محافظة صلاح الدين.

معركة الموصل
وبالعودة إلى الموصل، يتوقع الخبراء أن تستغرق المعركة شهرين أو ثلاثة، وأن تدور المرحلة الأولى منها على أطراف المدينة. ويعتبر الخبراء أن المعركة الأصعب هي التي ستخاض داخل المدينة خاصة في الأحياء القديمة، وفق ما شرحه في حديث إلى «الشرق الأوسط» الناشط المتحدر من الموصل غانم العابد، متوقعًا أن يغادر التنظيم أطراف الموصل مثل حي عرابي متوجهًا إلى سوريا إن لم يتمكن من الصمود. ومن ناحية ثانية، أيضًا في حديث إلى «الشرق الأوسط» يقر الشيخ العراقي أحمد السامرائي «أن الشعب العراقي ملّ من (داعش) ولم يعد يؤيده، حتى لو أنه يشعر بالخوف من الابتزازات التي قد يمارسها عليه الحشد الشعبي المقرب من إيران». وهنا يضيف غانم العابد في السياق نفسه قائلا: «إن الكل يعلم أن الحكومة العراقية سلّمت بنفسها الموصل للتنظيم الإرهابي، إنما في الحقيقة ليس هناك من يدعمه فعليًا، على الرغم من أن الميليشيات الشيعية و(داعش) وجهان لعملة واحدة».
يذكر أن تنظيم داعش يواجه حقًا معارضة متصاعدة ضمن مناصريه بحيث عمد خلال الأسبوعين الماضيين إلى تصفية 58 شخصا في الموصل تمردوا ضده بحسب وكالة «رويترز»، بمن فيهم مساعد مقرب من زعيم التنظيم «أبو بكر البغدادي».

لن تكون النهاية
ولكن على الرغم من أن هذه الأحداث كلها وضعت «داعش» في موقف دفاعي، فإن سقوط الموصل لن يؤدي بالضرورة إلى نهايته، وهو الذي تمكن من البقاء على قيد الحياة حتى الآن، والذي يُعتقد أنه لا يزال يملك ما يزيد عن 10 إلى 15 ألف مقاتل بعد أن كانوا 30 ألف مقاتل في عام 2014. ويبقى الخطر الرئيسي الذي قد تواجهه القوات العراقية وقوات التحالف، متمثلا في قدرة التنظيم على التحرك بشكل سرّي. فقد برهنت الأحداث السابقة أنه كلما وجد التنظيم نفسه أمام خطر تصفيته، لجأ إلى أساليب التحرّك السري بدلا من القوة العسكرية التقليدية. وهكذا، تمكن من الصمود والاستمرار سنة بعد سنة ومن مواجهة عمليات مكافحة الإرهاب التي شنتها القوات الحكومية العراقية والأميركية في الموصل بين عامي 2004 و2009.. وعاد وظهر على الساحة من جديد ما إن غادرت القوات الأميركية المدينة في عام 2010.
بناءً عليه، يحذِّر الخبير باتريك جونسون والخبير باتريك رايان، في تقرير نشر أخيرًا على موقع War on the Rocksأنه بناء على تحليل تصرفات «القاعدة» سابقًا في العراق، على المحللين وصنّاع القرار توخي الحذر قبل أن يعلنوا كم سيكون من السريع أو السهل إلحاق الهزيمة بـ«داعش» من قبل قوات التحالف سواء في الموصل أو أماكن أخرى. ذلك أن التنظيم أثبت مرارًا وتكرارًا قدرته على التحوّل من «دويلة تتمتع بقدرات عسكرية وإمكانية الحُكم علانية، إلى مجموعة إرهابية سريّة تعمل تحت الأرض بغية الحفاظ على نفوذها وسيطرتها على السكان المحليين مع تقليل إلى أقل حدّ ممكن خسائرها».
وبالتالي، قد يلجأ «داعش» من جديد إلى هذا النهج، ويعمد إلى تعطيل وتشتيت وحداته العسكرية مع تعزيز في الوقت عينه قوته الاستخبارية، والأمنية والإدارية. وعليه، لا بد للتحالف بين القوات العراقية والأميركية أن يتوقع هذا التغيير في أسلوب العمل، ويستعد لتنفيذ حملة ضد مقاتلي «داعش» والعناصر الموالية القادرة على العمل سرا. وإلا فستستمر المنظمة بالابتزاز والترهيب وتنفيذ الاغتيالات قبل أن تعود إلى الحياة من جديد بعد أن تحوِّل القوات العراقية اهتمامها إلى مكان آخر.
إن الهجوم المنفذ في الموصل يشكل المرحلة الأولى من حملة «التطهير، وبسط الاستقرار، والبناء» التي سيتم إطلاقها خلال الأشهر أو حتى السنوات المقبلة. وفي الهجمات الأخيرة لاحظنا أن «داعش» يراجع تكتيكيًا، ما قد يشير إلى أنه خلال فترة «بسط الاستقرار» قد يعمد إلى استنفاد قوة القوات العراقية»، وفق مصدر أمني عراقي تحدث، شرط عدم الكشف عن هويته. ومن ثم، فإن قوات التحالف والقوات الحكومية العراقية لن يكون عليها فقط القضاء على «داعش» عسكريًا، بل أيضًا تدمير شبكاته السرية من خلال عمل استخباراتي شامل، مع ضمان أمن السكان الذي يعتبر عنصرًا أساسيًا لمنع المنظمة الإرهابية من العودة إلى الحياة من جديد.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.