بين عودة المالكي وبقاء الأسد.. الموصل ليست نهاية «داعش»

صحوة التنظيم الإرهابي و«دولته» ثم إعلان «خلافته» المزعومة جزء من تداعيات الأزمة السورية

رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})
رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})
TT

بين عودة المالكي وبقاء الأسد.. الموصل ليست نهاية «داعش»

رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})
رايات الحشد الشعبي تتصدر عملية تحرير الموصل ({الشرق الأوسط})

بدأت عملية تحرير الموصل من قبضة «داعش» يوم 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بعد مرور ما يزيد على العامين من سقوطها بأيديهم صيدا سهلا، في أعقاب فرار قوات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، في 9 و10 يونيو (حزيران) 2014.
إلا أن هذه المعركة تظل صعبة بكل المقاييس، ولا يمكن الجزم سريعا بأنها نهاية أبدية لـ«داعش»، رغم الإصرار الدولي والإقليمي والوطني على ضرورتها وتصويرها كذلك. وذلك، لعدد من العوامل والأسباب، بعضها متعلق بسياقات المعركة وبعضها متعلق بأطرافها، أما السياسات فقد بقيت نفس السياسات، وفشلت عملية الإصلاح وصناعة الإجماع العراقي والوطني، وما زالت الخلافات والاختلافات بين أجندات الأفرقاء، من حكومة أربيل إلى حكومة بغداد وصولا إلى الشركاء الإقليميين والدوليين.
يجمع الخبراء الاستراتيجيون والمحللون السياسيون على أن الجانب الأخطر في سياق الحرب على تنظيم داعش الإرهابي المتطرف هو بقاء «الحاضنة» المساعدة على نموه من جديد، وبالأخص أنه سبق أن اندثرت «دولة» أعلنها تنظيم القاعدة في العراق من قبل، تحديدًا عام 2007، ولكنها عادت «أكثر من دولة» عند سقوط الموصل قبل سنتين، فهدمت منذ ذلك علامات حدود استقرت قبل نحو 100 عام بين سوريا والعراق. وسنحاول قراءة بعض هذه العوامل فيما يلي:

تكتيكات التنظيم
أولا: التكتيكات الجديدة لـ«داعش»: يستخدم «داعش» تكتيكات جديدة نسبيًا لصد القوات المستهدفة له في الموصل، ولئن كانت أغلب هذه التكتيكات قد سبق استخدامها من قبل التنظيم عام 2015 إلا أنها تظل مواضع صعوبة في هزيمته ويمكن تحديدها فيما يلي:
1 - هجمات مباغتة بعيدا عن الموصل: مثل الهجمات غير المتوقعة كتلك التي حدثت في كركوك يوم 21 أكتوبر الحالي، ونفذها ما لا يقل عن 40 انتحاريًا داعشيًا، عاونتهم كثير من الخلايا النائمة للتنظيم في كركوك، وقد حاولوا السيطرة على المدينة الواقعة تحت السيطرة الكردية، ومهاجمة مقر الحكومة والإدارة العليا للأمن وعدد من أقسام الشرطة، وقد راح ضحيته ما لا يقل عن 90 عنصرا كرديا على الأقل. ويعد التفجير الأضخم والأبعد أثرا الذي يستهدف فيه «داعش» المدينة منذ يناير (كانون الثاني) 2015 حسب دراسة أخيرة لـ«معهد دراسات الحرب» الأميركي، وقد حذر فيها المعهد ميليشيا البيشمركة الكردية والقوات الحكومية العراقية من عدم توقع هجوم مباغت من الخلف للعناصر الداعشية على كركوك. ولعله سبب مبطن لتأكيد رئيس إقليم «كردستان العراق» مسعود بارزاني، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس «التحالف الوطني» عمار الحكيم أن قواته لن تشارك في اقتحام المدينة.
2 - أساطيل السيارات المفخخة: وقد استخدمه «داعش» في مداهمة القوات العراقية والبيشمركة عند قرية باطنايا بشمال الموصل وعند مدينة بعشيقة بشمال شرقي الموصل، يومي 21 و21 أكتوبر الماضي، وكذلك في بلدة برطلة التي تتمركز فيها قوات مكافحة الإرهاب الأميركية، بشرق الموصل، مما أعاق تحرك القوات العراقية والبيشمركة وأربكها. ومن الاستراتيجيات الجديدة نسبيا الإكثار من الأنفاق والدروع البشرية داخل قرى ومدن شمال الموصل.
3 - طبيعة ومشاركة «الحشد الشعبي»:
أكدت ميليشيا «الحشد الشعبي» التي تمثل الهيئة الجامعة للميليشيات الطائفية الشيعية، وتضم عشرات الآلاف من المقاتلين المبايعين للولي الفقيه في إيران، مشاركتها يوم 28 أكتوبر الحالي. وتنشر مواقعها بصفة مستمرة مشاركاتها، وللعلم، كثير من فصائل «الحشد» المكونة متهمة سابقا في أعمال العنف والتمييز الطائفي ضد السنّة في العراق في الموصل والأنبار على السواء إبان عهد رئيس الحكومة السابق نوري المالكي. كذلك اتهمت بعض فصائل «الحشد» مثل لواء «عصائب أهل الحق» - رغم إنكاره - بممارسة أعمال عنف ضد مدنيين في ديالى أثناء صلواتهم في مساجدها أكثر من مرة عامي 2015، مما يجعل بعض المراقبين يرى أن ديالى قد تكون معركة أصعب من الموصل نفسها. ويشتهر قادة «الحشد» الكبار بأنهم رموز تاريخية في الثورة الإيرانية، وأعضاء تاريخيون في الحرس الثوري الإيراني، ونكتفي بذكر ثلاثة منهم هم:
- أبو مهدي المهندس، واسمه الحقيقي جمال جعفر محمد آل إبراهيم، نائب قائد «الحشد الشعبي» المطلوب للقضاءين الكويتي والأميركي، في محاولة تفجير السفارة الكويتية في بغداد في 10 يوليو (تموز) 2005 في تفجير السفارة الأميركية في بيروت يوم 12 ديسمبر (كانون الأول) 1983 وأيضًا مطلوب للشرطة الدولية (الإنتربول)، ومتهم في تفجير السفارتين الأميركية والفرنسية في الكويت خلال ديسمبر 1983، مما أسفر حينها عن مقتل ستة أشخاص وإصابة 80 آخرين من بينهم رعايا غربيون.
- هادي العامري، وزير النقل السابق في حكومة المالكي وقائد «الحشد الشعبي» ومنظمة بدر. واسمه بالكامل هادي فرحان عبد الله العامري الملقب بـ(أبو حسن العامري) من مواليد 1954 في محافظة ديالى زوجته إيرانية وأبناؤه يعيشون في إيران، وبالذات في منطقة لسكن قادة فيلق القدس وظل يعيش بها إلى ما قبل الاحتلال وإلى حين عودته إلى العراق في عام 2003. ولا ينكر العامري في تصريحاته وأحاديثه ارتباطه بإيران، بل يؤكد ذلك ويعتز به. وفي عام 2006 وبأمر من فيلق القدس نظم شبكات عمليات اغتيال ضد القوات الأميركية، كذلك اشتهر العامري بتقبيله يد المرشد الإيراني على خامنئي، حين كان يعمل وزيرا للنقل في حكومة المالكي أثناء مؤتمر «المجمع العالمي لأهل البيت» في مدينة مشهد يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2011.
- قيس الخزعلي: الخزعلي هو زعيم «عصائب أهل الحق» التي أسسها مع عبد الهادي الدراجي وأكرم الكعبي، وفي يوليو 2006 تم تأسيس عصائب أهل الحق وانفصلت كلية عن الصدر و«جيش المهدي» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008. ويبدو أن محاولة الصدر لثني «عصائب أهل الحق» عن المشاركة في تحرير الموصل لم تجد أثرا، بعد اجتماعه بهم في بغداد قبل أيام. ويذكر أن فرعا لـ«عصائب أهل الحق» يقاتل في سوريا، وتحديدا في حلب مع بقايا نظام الأسد ونصرائه، يسمى «لواء حيدر الكرّار» يقوده أكرم الكعبي. ولقد سبق اتهام «عصائب أهل الحق» تحديدا بارتكاب جرائم حرب في ديالى عبر استهداف مدنيين العام الماضي كما سبق أن ذكرنا.

سياقات أزمة سوريا
ثانيًا: بقاء سياقات الأزمة من العراق لسوريا: إن بقاء الأسباب والروافد التي صنعت للعالم وللعراق وسوريا أزمة «داعش»، التنظيم الأخطر في العالم، حسب تصريحات الأمم المتحدة، لا يمكن أن تكون جزءا من حلها، وأسباب زواله بعد ذلك. ولا شك أن أقوى ما يتقوى به «داعش» استمرار نفس الأسباب والسياقات والظروف، فقد عاد المالكي وظل الأسد، ويشتعل خطاب التأجيج الطائفي ضد المواطنين السنّة الذين سبق أن اتخذ «داعش» بعضهم حاضنة له قبل بناء «دولته» المزعومة عام 2006 فيما عرف بـ«حلف المطيّبين»، أو في «صحوته» الجديدة في العراق عام 2013 بعد يوم واحد من فض اعتصامات الأنبار بالقوة. وقد ظهر حينها «أبو محمد العدناني» المتحدث الرسمي باسم «داعش» والمقتول في 30 أغسطس (آب) الماضي داعيا أهل الأنبار للتخلص من قمع المالكي والنظام الإيراني المعادي لهم وداعيا إياهم لاحتضان تنظيمه من جديد.
ولعل كون عدد من قيادات «داعش» العراقيين من أبناء العشائر التي سبق أن تعرضت لاضطهاد المالكي يؤكد هذا الاحتمال، وهذا رغم أن كثرتها ضد «داعش» - سابقًا ولاحقًا - وكون بعض أبنائها الصحوات التي قضت على دولتها الأولى في الأنبار عام 2007، وتعرضت لاستهدافات «القاعدة» و«داعش» في العراق أكثر من مرة مثل البونمر والبوجبارة والبوعلوان وغيرهم.

عودة المالكي وبقاء الأسد
تتقد اللغة الطائفية المثيرة لسنّة العراق وغيرهم معا في تصريحات أمثال نوري المالكي نفسه، الذي صرح يوم السبت 23 أكتوبر الحالي في مؤتمر ما يسمى «الصحوة الإسلامية في العراق» وجه فيه الشكر للمرشد الإيراني على خامنئي، رابطا الحرب من أجل تحرير الموصل ونينوى العراقيتين وبين ما يراه تحريرا في الرقة السورية واليمن، حيث قال: «إن عمليات (قادمون يا نينوى) تعني في وجهها الآخر (قادمون يا رقة) (قادمون يا حلب) (قادمون يا يمن) قادمون في كل المناطق التي يقاتل فيها المسلمون».
وهو ما يذكرنا - نصا ومضمونا - بما سبق أن صرح به مسؤولون آخرون، مثل مندوب مدينة طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرب من المرشد الإيراني، الذي صرح يوم 22 سبتمبر 2014 بدء الانقلاب الحوثي على الحكومة الشرعية في اليمن، واحتلال العاصمة صنعاء، مع أن العاصمة اليمنية صنعاء أصبحت العاصمة العربية الرابعة التابعة لإيران بعد كل من بيروت ودمشق وبغداد، مبينًا أن ثورة الحوثيين في اليمن هي امتداد لثورة الخميني. وأضاف زاكاني خلال حديثه أمام أعضاء البرلمان الإيراني حينها، أن إيران تمر بمرحلة «الجهاد الأكبر»، منوها أن هذه المرحلة تتطلب سياسة خاصة، وتعاملا حذرا من الممكن أن تترتب عليه عواقب كثيرة.
كانت صحوة «داعش» و«دولته» ثم إعلان «خلافته» المزعومة جزءا من تداعيات الأزمة السورية بعدما عسكرها وطوأفها نظام بشار الأسد وأنصاره في إيران. إذ برر استدعاء الأسد وملالي طهران لنصرات شيعية طائفية ضد شعب سوريا بدأها حزب الله اللبناني ثم الميليشيات العراقية الموالية لإيران ثم الأفغانية (من الهزارة الشيعة) التي أسست لواء «فاطميون» وغيرها كثير، لدخول التنظيمات السنّية المتطرفة على الخط واعتبارها حربا «جهادية» لا ثورة مدنية.
ولا شك أن استمرار وبقاء الأسد، ونسف فرص الحل السياسي وفق «جنيف 1» يبقي الفرصة لهؤلاء قائمة، رغم أي تراجع للاستنفار وللاستثمار في الأزمة السورية بعموم.. إذ يعني كفر الأسد بالحل السياسي وإعدامه وهو ما يؤكد إذ ذاك قناعات تنظيم داعش وأخواته أن المواجهة في سوريا حرب طائفية ودينية، وأنهم على حق حين يكفرون بكل مقولات السياسة وأدواتها كذلك.
ومن ثم، فإن بقاء أسباب الأزمة وروافدها يعني استمرارها وتناميها سوريًا وعراقيًا. وكما تحرك الدواعش حين سيطروا على الموصل من سوريا للعراق فجأة قد يتحركون ثانية أو العكس.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.