أطول يوم في تاريخ اليابان

سجل تفصيلي للأحداث السياسية والعسكرية والنفسية في الـ24 ساعة التي سبقت إعلان طوكيو استسلامها في الحرب العالمية الثانية (1 من 3)

لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
TT

أطول يوم في تاريخ اليابان

لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب
لقطة للاجتماع الذي عقده الامبراطور الياباني هيروهيتو مع حكومته وجنرالاته عام 1949 لتحديد الموقف من الحرب

تكمن أهمية كتاب «أطول يوم في تاريخ اليابان.. التعصب الذي قاد اليابان إلى حافة القيامة» الذي ننشر منه ثلاث حلقات متسلسلة، أساسًا في كشفه جانبًا من الحالات النفسية التي كانت تتحكم، سرًا، في مواقف وسلوك شخصيات سياسية وعسكرية كبيرة، تتحدث بلياقة وهدوء، لكن دواخلها تعتمل بالغضب والفزع والضياع، فقد كان مطلوبًا منها اتخاذ قرارات سريعة لمصارعة الزمن الذي كان يهدد، في لحظاته الأخيرة، أكبر إمبراطورية استعمارية في الشرق بالانهيار، وقادتها بالهوان، بعد أن أصبحوا يعيشون في ملاجئ تحت الأرض، محاصرين بين نزعة ضباطهم المتعصبة للاستمرار في الحرب، وهزائم جيوشهم المتوالية أمام زحف قوات الحلفاء، تعززها غارات كثيفة فوق مدن اليابان وعاصمتها طوكيو، ثم مسح هيروشيما وناغازاكي من الوجود بأول سلاح نووي يُستَعمل في التاريخ.
ولا بد أن نلاحظ في السرديات والوقائع التي يرويها الكتاب، بشكل شبه روائي، الشبه الكبير بين عنجهية العقلية الشوفينية وسيطرتها (متمثلة بالمؤسسة العسكرية) على كل أوجه الحياة في اليابان ذلك الوقت، بما يحدث حاليا في سوريا ومن قبلها العراق، حيث تطغى شوفينية الحاكم على أصوات السلام، حتى لو قضى الشعب كله، طالما الحاكم وعساكره يستمتعون بحياة «كريمة». وسوف نرى تفاصيل مشابهة إلى حد كبير لما يجري اليوم، وكأن التاريخ فعلاً يظل يُعيد نفسه بلا رحمة، وتنشر صحيفة «الشرق الأوسط» الحلقة الأولى من كتاب «أطول يوم في تاريخ اليابان.. التعصب الذي قاد اليابان إلى حافة القيامة»، التي تتبعها حلقتان في اليومين المقبلين.
في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، الخامس من أغسطس (آب) 1945، حدث أمران تاريخيان في الوقت نفسه باليابان: الشعب الياباني سمع صوت إمبراطوره لأول مرة، ليخبرهم في الراديو أن بلدهم خسر حربه الأولى. هذا الكتاب هو سجل تفصيلي للأربع والعشرين ساعة التي سبقت ذلك البث، منذ الاجتماع الإمبراطوري حيث اتخذ قرار الاستسلام إلى إذاعة خطاب الإمبراطور نفسه.
كان ذلك أطول يوم يعيشه شعب اليابان في تاريخه.
بالنسبة لنا، نحن أعضاء معهد دراسات حرب الباسيفيك، كانت فكرة تجميع وكتابة هذا السجل مهمة للغاية، إذ بدا كما لو أننا نعيش من جديد قسوة تلك الأحداث التي عاناها بلدنا. الخامس عشر من أغسطس سنة 1945، كان ذروة السنوات المائة الأخيرة في تاريخ اليابان، منذ عهد ميجي. كل مستقبل الشعب الياباني، واليابان نفسها، يتوقفان على ذلك اليوم.
إنني الأكبر سنًا بين أعضاء معهد دراسات حرب الباسيفيك، فقد كنت في الصف الثالث الإعدادي يوم تحدث الإمبراطور من الراديو. حينها كنت أعمل في مصنع للعتاد الحربي ينتج خرطوشة للرشاش 20 ملم، وتلك كانت مساهمتي في الحرب. وفي أحد الأيام قصفت طائرات بي 29 المصنع وقتل كثير من زملائي في العمل. يومها كانت جبهة القتال قد انتقلت إلى الداخل، مع ذلك كنت لا أزال آمل بانتصار اليابان، لذلك كان شعوري في منتصف ذلك اليوم خليطًا من المرارة والغضب، مع إحساس بعبثية الأمل، إذ أُخبرنا أننا مع احتلال اليابان سوف نُجبر على عيش حياة العبيد.
في ذلك اليوم دخنتُ أول سيجارة، الأمر الذي كان ممنوعًا في المدارس، مع الإصرار على القيام بأي شيء آخر، فقد كنت لا أزال شابًا، وبدا أن القليل من الوقت قد تُرك لي لأعيشه، ولم تكن هناك متعة في أي شيء أفعله. بالنسبة لنا، نحن الذين عانينا الحرب، سواء على الجبهة أو في الداخل، كنا بشكل أو بآخر عرضة لرعب الحرب. كانت الحرب مثل قدر لا يمكن تجنبه. كان علينا تحمّل قسوة المشاهد اليومية لوحشية الإنسان ضد الإنسان.
على الرغم من أن الخامس عشر من أغسطس وضع نهاية لبعض تلك الوحشية، فالحقيقة أن الهزيمة، بالنسبة للشعب الياباني، كانت تجربة كارثية من الصعب جدًا قياس آثارها. وحتى اليوم لا تزال اليابان ضالّة طريقها لتهدئة أرواح قتلى الحرب، وإلى أن تفعل، لا تستطيع القول إن كانت قد نسيتْ الماضي، أم أنها تعيش برمتها في الحاضر.
ما الذي قاد مئات الآلاف إلى الموت؟ بعض الإجابات قد توجد في أفكار وذكريات اللاعبين الرئيسيين في دراما الأربع وعشرين ساعة تلك! وكان ذلك أحد أسباب وضع هذا الكتاب.
أن تموت من أجل وطنك، كان يعتبر على الدوام واجبًا دينيًا في اليابان. قد تكون عشرون عامًا ليست طويلة بما يكفي على أمّة، لتطرح عنها ذلك الاعتقاد القديم، لكن يجب عليها أن تفعل هذا، إذا أراد الشعب الياباني أن يعيش في عالم اليوم وليس الأمس. وربما هذا سببٌ آخر لوضع هذا الكتاب.
إن مصاعب تسجيل أحداث تاريخ معاصر، بينما ممثلوه لا يزالون أحياء، واضحة. لقد قابلنا كل الأحياء من المشاركين في الدراما النهائية لهزيمة اليابان - مع استثناء واحد، هو بطل تلك الدراما، الإمبراطور نفسه وبينما نقرأ بشكل طبيعي كل ما نُشر في تلك الفترة، فإن القاعدة الأساسية لتقريرنا تعتمد المقابلات الشخصية، صياغتنا للأحداث، المشاعر والحالات الذهنية، كلها دُعمت من قبل الرجال الذين قابلناهم.
مع ذلك، علينا أن نتذكر أن أكثر من عشرين سنة انقضت منذ ذلك اليوم. الأحداث تصاعدت بسرعة، لوّنتْ الذاكرة بطريقة قدرية لا يمكن تجنبها. ذاكرات شاحبة، رجال لهم أسبابهم لاسترجاع ما يريدون تذكره فقط، أو تكرار ما يرغبون بتكراره فقط. ثم على المؤرخ أن يستخلص الحقيقة من الزيف - وأحيانا لا يمكن تلافي الفشل.
كثير من اللاعبين الرئيسيين ماتوا، إذ كانوا رجالاً مسنين وقت حصول الدراما، والبعض مات قبل وقت قريب. أحدهم فضّل عدم الكلام: عندما قابلنا الماركيز كويتشي كيدو، ظلّ كاتم السر الإمبراطوري رافضًا كسر صمته.
محنة استسلام اليابان كانت أشبه بزلزال ما فتئت آثاره بادية حتى اليوم. ولإعادة حساب التفاصيل المأساوية للهزيمة، ينبغي، بل ومن الضروري، استحضار وحث الذاكرة الحزينة، فربما ساعدتْ أيضًا على تعبيد الطريق لبداية جديدة أفضل. وقد يكون هذا أهم الأسباب لوضع هذا الكتاب وهو:
حروب واتفاقيات اليابان منذ عهد الإمبراطور ميجي (1868)
حتى الاستسلام في عهد الإمبراطور هيرو هيتو (1945)

أحداث بارزة
عام 1868، وهو العام الذي توّج فيه الإمبراطور ميجي، حُكمت اليابان من قبل لوردات الحرب الذين أطلق عليهم اسم شوكانز. وبتسلم ميجي الحكم، بدأت اليابان نقلة راديكالية حوّلتها من مجتمع إقطاعي إلى أقوى أمّة في العالم المعاصر، فقد اهتم ميجي بعصرنة اليابان بعد عزلة عن الغرب استمرت 250 سنة، واهتم، شخصيًا، بدعم مؤسستي الجيش والبحرية، مما أنعش لدى اليابانيين الروح الشوفينية والرغبة في التوسع.
* في أكتوبر (تشرين الأول) 1874، غزت اليابان جزيرة فرموزا لتصبح قواتها على مشارف الصين. وفي فبراير (شباط) قامت قوات يابانية مموهة بالهجوم على كوريا. وفي فبراير من نفس العام رتبت اليابان الخطوات لاستقلال كوريا.
* 22 مايو (أيار) 1882، وقعت الولايات المتحدة معاهدة مع كوريا، رتبت بموجبها استقلال كوريا عن الصين وروسيا واليابان، وكانت الدول الثلاث تتنازع للسيطرة عليها.
* 1 أغسطس (آب) 1894، أعلنت الحرب بين اليابان والصين.
* 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1894، وقعت الولايات المتحدة واليابان اتفاقية تجارية.
* 23 أبريل (نيسان) 1895، تدخلت روسيا وألمانيا وفرنسا لإيقاف الحرب بين اليابان والصين، وأجبرت اليابان على إعادة بعض المناطق التي احتلها إلى الصين.
* 30 يناير (كانون الثاني) 1902، وقعت بريطانيا واليابان اتفاقية يحترم بموجبها الطرفان مصالح كل منهما في الصين.
* 5 سبتمبر (أيلول) 1905، نشبت الحرب بين روسيا واليابان في منشوريا وكوريا.
* 15 أبريل 1907، سلمت اليابان منشوريا للصين ضمن شروط معاهدة بورتسموث، التي وضعت نهاية للحرب بين اليابان وروسيا.
* 4 يوليو (تموز) 1910، اعترفت روسيا لليابان بحقها في السيطرة على كوريا، مقابل إطلاق يد روسيا في منشوريا.
* في يونيو (حزيران) 1915، وسعيًا وراء التدخل في شؤون الصين، وضعت اليابان 21 مطلبًا، تجعل الصين دولة خاضعة للنفوذ الياباني.
* في 30 يوليو 1921، مات ميجي، وتولى السلطة ابنه يوشيتو في نوفمبر 1921، فأطلق على نفسه لقب الإمبراطور يايشو. إلا أن يايشو ظهرت عليه بسرعة علامات الاختلال العقلي، ثم توفى عام 1924.

عهد الإمبراطور هيرو هيتو:
* 25 في ديسمبر (كانون الأول) 1926، خلف هيرو هيتو والده يوشي هيتو في تولي السلطة، وفي 10 نوفمبر 1928 توّج إمبراطورا لليابان، إذ إن التقاليد اليابانية تفرض مرور سنتين على وفاة الإمبراطور ليصبح ولي العهد إمبراطورا جديدًا للبلد. حكم هيرو هيتو لأطول فترة في تاريخ اليابان. تميّز عهده بالسلام المشرق، على الرغم من حرب اليابان ضد الولايات المتحدة من 1941 إلى 1945. وكما يصف المؤلف هيرو هيتو في مكان آخر، فهو شخص وديع، مسالم، يكره العنف والحروب، إلا أن العسكريين الذين يقدسون الإمبراطور حسب التقليد الديني للبلد، أرادوا خلق سلطة موازية لسلطته من خلال الحروب التوسعية وتغذية الروح الشوفينية بين اليابانيين، وقد نجحوا في ذلك، إلا أنهم دمروا اليابان في النهاية. وقد سار هيتو على نهج جده الإمبراطور ميجي بالنسبة للدستور فقد ظلّ الإمبراطور بعيدًا عن أي تدخل شخصي في قرارات الحكومة، فاستغل الجيش هذه النقطة لاحتلال منشوريا ضد رغبة الإمبراطور، وحسب بعض المؤرخين فإن احتلال اليابان للصين هو الذي مهّد للحرب العالمية الثانية.
* أثناء فترة الحروب السابقة، تحوّل الجيش إلى قوة مؤثرة في الحياة السياسية، وخلق لنفسه سلطة موازية لسلطة الإمبراطور. ورغم طبيعة هيرو هيتو الميالة إلى السلام، وتطوير المظاهر الديمقراطية التي بدأها جده ميجي، واصل الجيش حروبه التوسعية في المنطقة، تشجعه حكومات ضعيفة، وأخرى تطمح إلى إخضاع البلدان المجاورة لسلطة اليابان.
*18 سبتمبر 1931، عادت اليابان واحتلت منشوريا.
* 25 نوفمبر 1936، وقعت اليابان وألمانيا اتفاقية لحماية العالم المتحضر من تهديد البولشفيك. وفي 6 نوفمبر 1937 انضمت اليابان إلى المحور النازي الفاشي.
* 13 أبريل 1941، وقع ستالين اتفاقية سلام مع اليابان.
* عندما احتلت ألمانيا هولندا ثم فرنسا، أصبحت الهند الصينية التي كانت تحت الهيمنة الاستعمارية الهولندية والفرنسية غير محميّة، فهددت اليابان بالاستيلاء عليها، وفي سبتمبر عام 1937 دفعت اليابان بقواتها إلى الهند الصينية لتحتلها بهدف الحصول على قواعد عسكرية لقواتها في حربها ضد الصين.
*27 سبتمبر 1940، وقعت اليابان معاهدة مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، تنصّ على التحالف بين الدول الثلاث لخلق وضع عالمي جديد، تسيطر فيه ألمانيا وإيطاليا على أوروبا، بينما تسيطر اليابان على شرق آسيا.
*7 ديسمبر 1941، هاجمت الطائرات اليابانية القاعدة الجوية الأميركية في بيرل هاربر في هاواي.
* في منتصف 1942، احتلت القوات اليابانية الفلبين، ومستعمرات هولندا، ومالاوي، وبورما، وبذلك سيطرت على المنطقة الآسيوية الوسطى من الباسيفيك، وكانت قواتها وصلت إلى جزيرة اليوتيان في آلاسكا. كانت اليابان تطمح، بانتصاراتها السريعة، إلى عقد معاهدة سلام مع الولايات المتحدة أثناء انشغال الأخيرة في الحرب إلى جانب حلفائها في أوروبا ضد هتلر.
* حتى منتصف 1942، كان حظ اليابان في ذروته، والحلم بالهيمنة على شرق آسيا يوشك أن يتحقق، إلا أن الولايات المتحدة قد وصلت إلى قمة تطورها الصناعي، وكان ذلك فقط بعد أشهر من حادث بيرل هاربر، حين بدأ الحظ ينقلب إلى جانب خصمها.
* 25 ديسمبر 1941، استسلمت هونغ كونغ لليابان.
* في 17 أبريل 1942، أنذر الجنرال الأميركي جيمي دووليتل بقصف طوكيو بطائرات «B25» مما فاجأ سكان اليابان وصدمهم، وفي يونيو من السنة ذاتها بدأت المعارك البحرية في بحر كورال، إذ انطفأ حظ اليابان تماما في الدفاع عن نفسها.
* 15 يونيو 1944، بدأت الولايات المتحدة قصف المدن اليابانية.
* في بداية 1945، أنزل الجنرال ماك آرثر قوات أميركية في خليج Lingayen بلوزون لإعادة الاستيلاء على الجزيرة التي احتلتها اليابان قبل أربعة أعوام، مما ساعد على إنهاء المقاومة العنيفة التي أبداها الجيش الياباني قبل الانسحاب من الفلبين وفي مانيلا التي استمرت لعدة أشهر، وبذلك نظف الأميركيون آخر جيب للمقاومة اليابانية في الفلبين.
* 26 يوليو 1945، اجتمع قادة الدول الحليفة في ضاحية بوتسدام بمدينة برلين بعد احتلالها، وأنذروا اليابان بالاستسلام أو مواجهة الدمار. لكن اليابان واصلت القتال.

اليوم السابق
في عام 1931، دخل الجيش الإمبراطوري الياباني منشوريا ليصبح، نتيجة لذلك، القوة المسيطرة في حياة الشعب. وبعد 14 سنة من ذلك التاريخ، أي في عام 1945 أدرك الإمبراطور ومعظم رجال حكومته أن اليابان قد خسرت الحرب، إلا أن مشكلتهم العسيرة كانت كيف يوصلون هذه الحرب إلى نهايتها.
كان الجيش الياباني في تلك المرحلة لا يزال قويًا، ولن يقبل الهزيمة ولا الاستسلام، فأصرّ أنه وحده الذي يعرف مصلحة البلد. لهذا فإن صراع اليابان الأخير لم يكن مع العدو، بل مع نفسها. وللحظة أو اثنتين من ذلك اليوم الطويل من أغسطس، بدا أن الصراع لا مفرّ منه، ولو كان الإمبراطور نفسه في قلب الصراع لكان في النهاية من يقوده إلى الحلّ.
بعيدًا إلى الوراء، في فبراير (شباط) من عام 1942، كان اللورد ماركيز كويشي كيدو، كاتم أسرار الإمبراطور، قد أدرك أن التفوق الأميركي على اليابان سيكون حتمًا العامل الحاسم في الحرب، فنصح الإمبراطور سرّا بأن «يقتنص أي فرصة ممكنة للتعجيل بوضع نهاية للحرب». وقد توصل الآخرون إلى الاستنتاج الخطير ذاته، لكن بعد أن انتهت الحرب. كان الوضع خطيرًا لأن الجيش لم يتفهم الموقف.
كانت المحاولات السرية لإنهاء الحرب من خلال منظمة الـ«OSS» الأميركية السويسرية قد باءت بالفشل، وكثير من الرجال، بمن فيهم الإمبراطور نفسه، فضّلوا تعليق الآمال على المساعي الحميدة التي يقوم بها الاتحاد السوفياتي، وظلوا معلقين بهذه الآمال إلى اليوم الذي أعلن فيه ستالين الحرب على اليابان.
الوزارة الحالية للبارون سوزوكي كانت تصرخ أبعد من صراخ الجنرال توجو، أحد أكبر مهندسي خطة الجيش لتقسيم العالم بين اليابان وألمانيا. وزير الخارجية شيجينوري توكو ترأس المجموعة المؤيدة لإعلان بوتسدام، وإن بوقت متأخر جدًا، ليوفروا على الشعب الكثير من العناء، ويجنبوا اليابان الدمار الشامل. وكلتا المجموعتين (المؤيدة للسلام والمحبّذة للحرب) متشابهتان بإصرارهما على صون الكيان الأساسي للأمّة باستعدادهما لوهب أرواحهم من أجل معتقداتهم ومن أجل الإمبراطور، لأن اليابان دون سيادة مسألة لا يمكن التفكير بها من قبل الجانبين.
عشرون يومًا قبل اليوم الأخير، استيقظ الشعب الياباني على ما بدا لهم يوم حرب عاديًا من أيام الصيف الحارة الرطبة. المعدة خالية ويبدو أنها ستبقى كذلك، وثمة عمل يجب إنجازه، هو مواصلة الحرب حتى النهاية، بينما كانت الحرب تكبر وتصعب مع مرور الأيام. مع زيادة سوء التغذية، تصاعد التلوث الإشعاعي الذي يعني الموت للبعض والتشرد لكثيرين، ونقص المواد الخام الذي يعيق الإنتاج. كل هذا في حرارة ورطوبة صيف اليابان. يوم آخر رغم الجوع والإرهاق، لكن ما زالت بسالة اليوم مثل بسالة الأمس.
إلاّ أنهم كانوا مخطئين، والحكومة علمت بهذا. في السادسة من صباح نفس اليوم التقطت دائرة الإذاعات الخارجية في طوكيو بثًّا من سان فرانسيسكو، يعلن عن بيان وقعه في اليوم السابق كل من الرئيس الأميركي ورئيس جمهورية الصين ورئيس وزراء بريطانيا الذي كان طرفًا في محادثات بوتسدام، يوصي بإعطاء اليابان فرصة لإنهاء الحرب. على الفور بدأ مكتب وزير الخارجية دراسة عبارات البيان بينما الترجمة أصبحت جاهزة.
لقد حان الوقت لتقرر اليابان فيما إذا كانت ستظل محكومة بنصائح العسكريين المتشبثين برأيهم، الذين أوصلت استنتاجاتهم غير الذكية إمبراطورية اليابان إلى حافة الهلاك، أم أنها ستتبع طريق المنطق؟
بعد ذلك جاء دورنا. لن ننحرف عنهم، لا يوجد بديل، لم نعد نحتمل أي تأخير. علينا إنهاء تلك الفترة، حيث كانت الصلاحيات والنفوذ بيد أولئك الذين خدعوا الشعب الياباني وأدخلوه في مشروع لاكتساح العالم، بإصرارنا على أن نظامًا جديدًا من السلام والأمن والعدالة سيكون مستحيلاً ما لم يختفِ العسكر من العالم!
«نحن لا نقصد استعباد اليابان كعرق، أو تدميرها كأمّة، لكن العدالة الصارمة تقتضي إقصاء مجرمي الحرب، بمن فيهم أولئك الذين أوقعوا وحشيتهم على أسرانا. على الحكومة اليابانية أن تزيل كل العقبات من أجل إحياء وتعزيز الاتجاهات الديمقراطية لدى الشعب الياباني. حرية الكلمة، العقيدة، الفكر، ومبادئ حقوق الإنسان لا بُدّ أن ترسى.
نحن ندعو الحكومة أن تعلن الآن التنازل غير المشروط عن كل ما احتلته بالقوة، وأن تقدم التعهدات الصحيحة والملائمة لإثبات حسن النيات. أما البديل عن كل هذا فسيكون الدمار السريع والشامل لليابان».
أول شخص استجاب لبيان بوتسدام الذي بثّ من سان فرانسيسكو كان نائب وزير الخارجية شونيكي ماتسومو، فقد نصح وزير الخارجية توكو بأن على اليابان أن تقبل ما جاء في ذلك الإعلان، حيث سيكون الرفض أكبر حماقة ترتكب، وكان قد بدأ بتحرير مسودة الموافقة اليابانية فعلاً، ليتم إرسالها إلى سفارات اليابان في سويسرا أو السويد، ومن هناك تمرّر إلى العدو. عندها دخل توكو الغرفة.
«انتظر..» قال وزير الخارجية: «لن يكون الأمر بهذه السهولة». كان صوته في غاية الحزن، «فالجيش لن يقبل الإعلان كما جاء».
لكن توكو شعر أن حقيقة تخفيف الحلفاء حدة مطلبهم الأول في إعلان القاهرة من «استسلام اليابان غير المشروط» إلى «استسلام كل قوى الجيش الياباني غير المشروط» مفاده أن ثمة تخفيفًا وتوددًا أكثر في اللهجة سيأتي قريبًا، بحيث يقبل به الجيش ويحفظ له ماء وجهه. لذا فقد استنتج أنه قبل الردّ، على اليابان أن تبذل محاولة أخيرة للاستعانة بالمساعي الحميدة للسوفيات. لقد توصل توكو إلى هذا الاستنتاج على الرغم من حقيقة أن كل محادثات طوكيو مع موسكو، ولحد الآن، لم تكن حاسمة على الإطلاق. فمحاولات توظيف مساعدة السفير السوفياتي في طوكيو باءت بالفشل، وناوتاكي ساتو، السفير الياباني لدى الاتحاد السوفياتي أكد لتوكو أنه «لا مجال مهمًا لكسب الاتحاد السوفياتي لجانبنا...»، ما لم يكن يعرفه توكو بالطبع، إن روزفلت وتشرشل اتفقا على امتيازات كبرى في الشرق الأوسط، إذا دخل ستالين الحرب ضد اليابان خلال شهر أو ثلاثة أشهر بعد انتهاء الحرب في أوروبا.
على الرغم مما كُشف وما لم يكشف، كان توكو قادرًا ليس على إقناع نفسه فقط، إنما رئيس الوزراء أيضًا بأن الاتحاد السوفياتي لم يكن عاجزًا تجاه اليابان، والمساعي الحميدة للكرملين ربما لا تزال ممكنة.
في الساعة العاشرة والنصف صباح 27 يوليو (تموز)، اجتمع المجلس الأعلى لإدارة الحرب لمناقشة إعلان بوتسدام واحتمالات الوساطة السوفياتية. مجلس الحرب الأعلى هذا يتألف من اليابانيين الست الكبار، رئيس الوزراء، وزير الشؤون الخارجية، وزير الحرب، وزير البحرية، ورئيس عام قوات الجيش ورئيس عام البحرية. في الاجتماع أكد توكو على أهمية الانتقال من استسلام اليابان غير المشروط إلى استسلام القوات المسلحة اليابانية غير المشروط، وأعلن عن اعتقاده أن رفض ما جاء في الإعلان سيكون تصرفًا غير سياسي إلى حدٍ كبير. كان توكو قادرًا رغم المعارضة الكبيرة على إقناع المجلس الأعلى بتأجيل ردّ اليابان إلى أن يسمع مرة أخرى من موسكو. هذا يعني، رغم الكلمات المنذرة: «أننا لم نعد نتحمل أي تأجيل». كانت فترة من الترقب الحذر.
ما أفضل طريقة لإخبار الشعب الياباني بالإعلان؟ كانت تلك مشكلة كبيرة أخرى. مجلس الوزراء عقد اجتماعًا كاملاً بعد الظهر في محاولة لحلّها.

* وضع الكتاب وترجمه إلى الإنجليزية مجموعة من باحثي معهد دراسات حرب الباسيفيك



دروز سوريا وعلاقة مرتبكة بالشرع... خطاب التفاهم وواقع التصادم

رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
TT

دروز سوريا وعلاقة مرتبكة بالشرع... خطاب التفاهم وواقع التصادم

رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)
رجل درزي بلباس تقليدي في السويداء (أ.ب)

اصطبغت علاقة الإدارة السورية الجديدة بالقوى الفاعلة في محافظة السويداء، معقل الطائفة الدرزية، بطابع غلبت عليه حالة من الشد والجذب، والتصعيد في مقابل تصعيد مضاد بهدف توجيه رسائل تدفع عملياً لفتح حوار يجنب سوريا المزيد من الفوضى الأمنية في مقابل انتزاع مكاسب تتعلق بشكل النظام السياسي وتوزيع السلطات والحفاظ على الخصوصيات المحلية في آن واحد.

وقد وضعت الأحداث الأخيرة التي جرت في الساحل السوري، معقل الطائفة العلوية، قضية الدروز على نار حامية وإن بدا ظاهرياً على الأقل أنها هدأت بعد أحداث كثيرة ومتفرقة شهدتها الأسابيع الأخيرة محافظة السويداء وصولاً إلى منطقة جرمانا، حيث الكثافة الدرزية في محيط العاصمة دمشق.

وكان التصعيد بلغ ذروته بمنع الفصائل العسكرية «الدرزية» قوات الأمن العام التابعة لحكومة دمشق من دخول مدينة السويداء، ومنطقة جرمانا جنوب شرقي العاصمة، للقبض على «قتلة» أحد عناصر الأمن العام عند أحد مداخل المنطقة في الأول من مارس (آذار) الماضي، في أحداث سبقت مباشرة أحداث الساحل الدموية.

هذا، وتشهد السويداء بين الحين والآخر احتجاجات رافضة لسلطة أحمد الشرع اتخذ بعضها نهجاً خطراً كمثل حادثة رفع العَلم الإسرائيلي، أو طلب الحماية من إسرائيل في مقابل بيانات وتصريحات لقوى أخرى أكثر ثقلاً محلياً وإقليمياً تدعو إلى الحوار ومنع التصعيد الطائفي كما ورفض التصريحات الإسرائيلية التي عرضت تقديم الحماية للدروز.

انفتاح دونه عقبات

مصدر في حكومة الشرع قال لـ«الشرق الأوسط» إن التقدم الذي تحرزه الحكومة في مجالات عدة بدأ ينعكس على العلاقة مع الدروز. وأشار المصدر، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، إلى أن «الأوضاع في السويداء تسير بشكل إيجابي، وإن هناك تقدماً في أكثر من جانب»، وإن أبناء السويداء «هم جزء لا يتجزأ من سوريا». يأتي ذلك في وقت بدأت تتسرب أنباء عن «اتفاق متعجل» يتم إقراره بين الشرع وأعيان من الطائفة الدرزية على غرار اتفاقه مع الزعيم الكردي مظلوم عبدي، من دون إمكانية تأكيد ذلك بعد بشكل حاسم.

فتى درزي يرفع أعلاماً قرب ملصق كبير للشيخ حكمت الهجري في ساحة الكرامة في السويداء (أ.ب)

ولفت المصدر إلى «أن الحكومة منفتحة على الحوار، لكنها تواجه عقبات قد تتطلب وقتاً لحلها»، مشدداً على أن «حل أي خلافات يتم بين السوريين أنفسهم دون أي تدخل خارجي. فالحكومة السورية تدير شؤون بلدها باستقلالية تامة».

ومنذ سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وسيطرة إدارة العمليات العسكرية بقيادة «هيئة تحرير الشام» على الحكومة الانتقالية المؤقتة، ازداد المشهد تعقيداً بعد تصريحات تصعيدية لبعض رجال الدين الدروز الفاعلين ترفض الامتثال لحل الفصائل المسلحة وتسليم السلاح ودمج عناصرها أفراداً في وزارة الدفاع؛ ما يعكس واقع «الهشاشة» وغياب الثقة في العلاقة بين الطرفين.

وفي خطوة تصب باتجاه تجنب التصعيد، سارع الرئيس السوري أحمد الشرع ومنذ منتصف ديسمبر الماضي إلى استقبال وفد من كبار رجال الدين الدروز، من بينهم الشيخ سليمان عبد الباقي قائد «تجمع أحرار جبل العراق» وسلمان الهجري نجل الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، حكمت الهجري.

وكما وكان الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط أول زائري الشرع على رأس وفد من الوجهاء والأعيان الروحيين، بما يحمل ذلك من رمزية لا تخفى عن طبيعة العلاقات التاريخية بين السلطة (أي سلطة) في دمشق والطائفة الدرزية.

ومع ذلك، ظلت القوى الدرزية الفاعلة على الأرض، سواء الدينية أو الاجتماعية أو المسلحة منقسمة في مواقفها من العهد الجديد، وحول رؤيتها لمستقبلها في كنف السلطة الوليدة.

وفي محاولة إسرائيلية لتأجيج الخلافات بين الطائفة الدرزية والحكومة الانتقالية، استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاشتباكات بين قوات الأمن العام ومسلحي جرمانا للتهديد بالتدخل العسكري في حال تعرض الدروز لأي أذى. لكن الإدارة السورية وظفت علاقاتها مع بعض القوى الدرزية في السويداء لقيادة مفاوضات أسفرت عن التهدئة مع مسلحي جرمانا. كما وجاء إعلانها عن اعتقال اللواء إبراهيم حويجة، الرئيس السّابق للاستخبارات العامّة في سوريا، والمتّهم باغتيال الزعيم الدرزيّ كمال جنبلاط عام 1977 قبل أيام قليلة من الذكرى السنوية لاغتياله، بمثابة رسالة واضحة للزعامة الدرزية «الرسمية» المتمثلة بآل جنبلاط ومن ورائها عموم أبناء الطائفة.

دروز إدلب... علاقة غير ودية

في الواقع، هذه الأحداث ليست وليدة الأمس. فالوجود الدرزي لا يقتصر على معاقل محمية إلى حد بعيد كالسويداء وجرمانا، وإنما هناك أيضاً دروز إدلب وتحديداً في مناطق جبل السمّاق الذين تعرضوا لانتهاكات وعمليات قتل عشوائية في 2015 بعد سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على المنطقة. وأبرز تلك العمليات كانت في قرية «قلب لوزة» على يد فصائل «جهادية» متحالفة مع جبهة النصرة حينذاك.

مسلحون دروز أمام آلية عسكرية ينتظرون وصول قوات الأمن العام عند مدخل ضاحية جرمانا قرب دمشق (أ.ب)

وبعد فك الارتباط بتنظيم القاعدة في يوليو (تموز) 2016، حاولت «جبهة النصرة» التي تحولت تدريجياً إلى «هيئة تحرير الشام» بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، النأي بنفسها عن «التشدد» وتجنب «التصنيف» على لوائح الإرهاب، مستفيدة من تجربة حكم تنظيم الدولة وتعامله مع المجتمعات المحلية وخسارته «الحاضنة الاجتماعية». وعليه، شكلت «هيئة تحرير الشام» في مدينة إدلب «حكومة الإنقاذ» لادارة المناطق الخاضعة لسيطرتها وتسيير شؤون السكان الذين تجاوزت اعدادهم الأربعة ملايين.

ومع التحسن النسبي في الأوضاع الأمنية وخفة حدة العمليات القتالية، وفي محاولة لمنع أي تصعيد سواء بين الفصائل المسلحة، أو بين المجتمعات المحلية، ولإبراز الوجه الجديد للهيئة بصفتها سلطة «الأمر الواقع»، التقى زعيمها «أحمد الشرع» أكثر من مرة بوجهاء وأعيان المحافظة، ومن بينهم «الدروز» الذين تلقوا منه وعوداً بإرجاع حقوقهم وممتلكاتهم وتأمين الخدمات الأساسية لهم وحمايتهم. وهو ما جرى جزئياً ولكن عادت الأحداث وتسارعت واتخذت منعطفات مختلفة مع سقوط نظام بشار الأسد، حيث لا تزال ملامح العملية السياسية وشكل النظام السياسي وهويته بانتظار ما تحدده صيغة دستور المرحلة الانتقالية التي يفترض أن يتوافق عليها السوريون.

مشهد معقّد

ما يزيد المشهد تعقيداً، أن أجزاءً كبيرة من البلاد لا تزال خارج سيطرة الحكومة الحالية، كما أن السلاح لا يزال منتشراً بيد مجموعات مسلحة منظمة أو سكان محليين والدروز بطبيعة الحال ليسوا استثناء.

لذلك؛ فقد سلطت أحداث الساحل الأخيرة ثم الاتفاق مع المكون الكردي، الضوء على التحدي الأبرز أمام الإدارة الجديدة وهو الإبقاء على وحدة المجتمع السوري والحفاظ على تماسك نسيجه المتنوع وكيفية إدارة الأزمات والاحتقان الناتج من ذلك التنوع والاختلافات.

لافتة رفعها الدروز السوريون في 25 فبراير: «السويداء لن تكون خنجركم المسموم في ظهر سوريا» رداً على التوغلات الإسرائيلية في الأراضي السورية (أ.ب)

ويقول مضر هائل لـ«الشرق الأوسط»، وهو من أبناء السويداء النشاطين سياسياً وأحد أبرز منظمي تظاهرات ساحة الكرامة بين 2023 و2024: «الحكومة الحالية هي حكومة أمر واقع، ويجب أن نتجه نحو حكومة منتخبة وأن يشارك الجميع في وضع دستور لهذا البلد وأن تأتي تلك الحكومة من إرادة الشعب. في هذه الحالة، لن يبقى لأحد ذريعة برفض الاعتراف بحكومة دمشق. نحن دائماً كنا مع جميع فئات المجتمع السوري في الثورة ضد النظام، لكن يجب ألا نستبدل نظاماً بآخر فقط، بل يجب أن نبني دولة تحترم الجميع ويكون الجميع تحت قانونها».

ويضيف: «هناك من يستغل التصريحات الإسرائيلية بخصوص حماية الدروز ليثير النعرات الطائفية»، ويقول: «انظروا، هؤلاء عملاء»، وبالتالي ينفذ أجندته غير الوطنية. لا أحد يريد أن يكون مع إسرائيل، لكن بالحوار والتفاهم، وبناء دولة تشاركية، يمكننا قطع الطريق على إسرائيل وغيرها من الطامعين».

أزمة ثقة... لا تمنع المصالحة

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى الباحث السياسي اللبناني مكرم رباح الذي لفت إلى أن الثقة بين الطائفة الدرزية والإدارة السورية الجديدة لا تتعلق فقط بالمسألة الدرزية. وقال رباح: «من المعروف أن النظام السوري السابق استخدم الجماعات التكفيرية لتخويف الدروز، وهذا يشكل هاجساً دائماً لدى الدروز المتمسكين بأرضهم وسلاحهم. والمشكلة الأساسية تكمن في إصرار الرئيس أحمد الشرع على المركزية، وهذا الأمر يثير قلق الدروز، في حين أن نظام البعث نفسه كان قد منحهم نوعاً من الاستقلالية ضمن إطار تحالف الأقليات».

أحمد الشرع خلال استقباله وفداً برئاسة الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط في دمشق (رويترز)

وهنا يبرز السؤال عما إذا كان الشرع سيتمسك بهذه المركزية بعد عقد اتفاق مع الأكراد وهو ما سيتحدد أكثر عندما تظهر بنود الاتفاق وشروطه.

ويؤكد الباحث أن إسرائيل تلعب دوراً في توتر العلاقة بين السويداء ودمشق، لكنه يستبعد أن يكون أحداً من دروز سوريا مستعداً للدخول في مغامرة كهذه. «فإسرائيل تستخدم هذا الملف كورقة في حربها المستمرة في المنطقة، كما تسعى للضغط على الشرع لتقديم تنازلات».

ويقول رباح: «مطالب الدروز هي نفس مطالب كل السوريين. هناك خصوصية للطائفة الدرزية، لكن الإدارة الجديدة ربما لم تحاول التعرف عليها. وفي حال أدركت حكومة الشرع هذه الخصوصية، ستتمكن من التعاطي الإيجابي مع الملف الدرزي».

واعتبر رباح أن وليد جنبلاط يلعب دوراً أساسياً في الملف الدرزي بسوريا، حيث كان أحد المبادرين لمقابلة الرئيس الشرع. لكن هناك أيضاً شخصيات درزية عدة مؤثرة، مثل الشيخ يوسف الجربوع، وحكمت الهجري، ويحيى الحناوي، وكلهم سيتعاملون مع الشرع باعتباره رئيس الجمهورية السورية، نظراً لما يتمتعون به من تأثير كبير كمشايخ عقل.

ورأى أن هناك عوامل تدفع نحو حل الملف الدرزي وتسرّع المصالحة الكاملة بين جميع الأطراف، مثل وضع خريطة واضحة للانتقال السياسي، ومشاركة الدروز في العملية السياسية، ومنح نوع من اللامركزية المحلية. كما أن بعض المبادرات الإيجابية من الرئيس الشرع قد تساهم في تحسين العلاقة بشكل أسرع.

السياسة ومرجعية المشايخ

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى الباحث السوري وائل علوان فقال: «العلاقة بين الطرفين لا تتعلق بعدم الثقة، فهناك خصوصية للمجتمع في السويداء، ليست الحكومة فقط من يراعيها، بل كل المجتمع السوري يراعي تلك الخصوصية».

ولفت علوان إلى أنه خلال الأعوام التي تلت اندلاع الثورة في 2011، كان هناك نزاع داخلي في السويداء بين المرجعية الدينية التقليدية التي كانت في بيت الهجري والحناوي وبيت الجربوع، حيث كانوا موالين للسلطة، وبين الثوار في السويداء الذين كانوا ضد النظام السوري. لكن كان الثوار يفتقدون التغطية الدينية من أحد تلك المراجع المذكورة، وبقي المرجع الديني صاحب الكلمة العليا.

اجتماع الزعيم الدرزي السوري الشيخ حكمت الهجري (وسط) مع أفراد من طائفته في السويداء يوم 20 فبراير (رويترز)

ويضيف علوان: «في السنوات الأخيرة، كان حكمت الهجري، رجل الدين الأبرز، معارضاً للنظام، وبذلك أخذ دوراً أكبر بكثير من الحناوي والجربوع، وهما من أبرز المراجع الدينية الأساسية لدى دروز سوريا. ولعب الهجري دوراً كبيراً في السويداء، لكن لم يكن على علاقة جيدة مع البلعوس الذي يمثل التيار المعارض الثوري ضد النظام السوري. حيث كان هناك تنافس وصراع بين المراجع الدينية التقليدية وبين المكونات الجديدة الثورية، أي التي عارضت النظام السوري وخالفت رأي بعض رجال الدين».

معتبراً أن الفترة الأخيرة التي عارض فيها الهجري نظام بشار الأسد، فتحت خطاً مع علاقة مع موفق طريف، وهو أحد الزعماء الدينيين الدروز في إسرائيل. وبقي البلعوس وسليمان عبد الباقي على علاقة مع وليد جنبلاط في لبنان مع مجموعات عسكرية متحالفة مع البلعوس. وهذان خطان متباينان، خط الهجري مع طريف يقابل خط البلعوس وجنبلاط، وهما متباينان تماماً، وكلا الخطين استعان بحليف خارجي.

انقسامات داخلية

يشير علوان إلى أنه بعد سقوط الأسد، أصبح من الواضح أن هناك انقساماً في المشهد، مرجحاً أن تتحالف الحكومة السورية الجديدة مع تيار البلعوس وجماعته، وأن يصبح الهجري أكثر معارضة لها.

ويذهب الباحث إلى أن إسرائيل تخدم دور الهجري وتعدّه حليفاً؛ وهذا ما أثر سلباً على العلاقة بالمجتمع السوري الأوسع، معتبراً أن مطالب أهل السويداء لم تتغير وهي احترام خصوصية المجتمع الدرزي والهرمية الدينية وعدم دخول أحد من خارجهم ليحكمهم.

من المؤكد أن جميع التحديات التي تواجهها الحكومة الانتقالية هي ذات أبعاد إقليمية أو دولية، إلى جانب التداعيات المحتملة للأوضاع الداخلية «غير المستقرة» على مستقبل البلاد ووحدة المجتمع. وتمثل إسرائيل وتهديداتها وتعهداتها بالتدخل لحماية الدروز، التحدي الأكبر لقدرة الحكومة على التعاطي مع مثل هذه الملفات.

لكن عاملي التمسك بالمركزية و«انعدام الثقة» ولو جزئياً يجعلان ملف الطائفة الدرزية ومن خلفه ملفات بقية المكونات السورية أبرز التحديات التي تواجه «الشرع» ووحدة المجتمع السوري وسيادة البلد ووحدته الترابية.