هل تغير مفهوم الأدب في عصرنا.. أم «المهمش» يكسر «الجدار العازل»؟

بعد منح «نوبل» لصحافية ومغنٍ خلال عامين متتاليين

المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش
المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش
TT

هل تغير مفهوم الأدب في عصرنا.. أم «المهمش» يكسر «الجدار العازل»؟

المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش
المغني وكاتب الأغاني بوب ديلان - الصحافية البلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش

باغت القائمون على جائزة نوبل للعام الثاني على التوالي، الأدباء المنتظرين إعلان اسم واحد منهم بفرع الجائزة الأدبي، فحسابات الأدباء لم تنطبق على حسابات أصحاب نوبل، وبحركة أشبه بالالتفافية فوجئ المهتمون بأن جائزة نوبل للآداب ذهبت إلى مغنٍ وكاتب كلمات أغانٍ هو بوب ديلان، وقبل ذلك في العالم السابق ذهبت الجائزة إلى صحافية تدعى سفيتلانا أليكسيفيتش. فهل كسرت «نوبل» الحواجز التي تسوّر مصطلح الأدب بصرامة، ووسعت آفاق مفهوم هذا المصطلح ليكون الأدب بمفهومها هو كل ما يمت إلى الإبداع الثقافي العام بصلة. وماذا لو تكرس هذا العرف، فقد يحصل عليها في الأعوام التالية فنان تشكيلي ربما أو نحات.. إذن لماذا لا تغير الجائزة اسمها بدلاً من «الآداب» إلى «الإبداع»، وتبقي على المصطلحات بتصنيفها العلمي؟
وكي لا يكون الرأي أحادي الجانب، طرحنا السؤال على مجموعة من المتخصصين في المجال الأدبي، فكانت هذه الحصيلة:
* الخالدي: أجناس أدبية مهمشة
من السعودية يقول الدكتور مبارك الخالدي، أستاذ الأدب الإنجليزي المساعد في جامعة الدمام «إن ما قامت به الأكاديمية السويدية لا يُعد توسعة لمفهوم الأدب، إنما توسيع فعلي، يرتكز إلى أساس من التفاتها واعترافها في الآن ذاته على (أجناس) أدبية كانت مهمشة».
يضيف: «لهذا لم يثر فوز بوب ديلان بالجائزة (أخيرًا) إلا استغراب عدد قليل من الأدباء أو قُرّاء الأدب مقارنة بعدد الأدباء والفنانين والمثقفين الذين رحبوا وفرحوا بفوز ديلان بالجائزة؛ ما يدل على اعتراف هؤلاء بشاعرية ديلان وأنهم سبقوا في ذلك الأكاديمية السويدية نفسها».
يكمل الدكتور الخالدي قائلاً: «من هذه الزاوية، يبدو اعتراف الأكاديمية السويدية وكأنه انعكاس وامتداد لاعترافٍ يتجاوز حتى حدود أوروبا ووطنه الولايات المتحدة ليشمل مساحة واسعة من العالم. لقد تابعت بسبب وجودي في لندن هذه الأيام التغطية الصحافية لاستقبال بعض الأدباء والمغنين وصناع الأفلام لخبر فوز ديلان. كانوا مبتهجين ومؤيدين للأكاديمية لاختيارها من يستحق الجائزة؛ من هؤلاء الشاعرة كيت تيمبست، والروائي الاسكوتلندي أندرو أوهاغان، والشاعر والروائي أندرو موشن، وصانع الأفلام جوناس ميكا، والمغني وكاتب الأغاني بيلي براغ وآخرون».
* الجعيدي: هدم «الجدار العازل»
أما الدكتور سعيد الجعيدي، أستاذ الأدب والنقد، بجامعة الباحة جنوبي السعودية، فقال «إن منح الأكاديمية الجائزة لديلان، وبالتأكيد يشمل هذا فوز سفيتلانا أليكسيفيتش بالجائزة في العام الماضي، يحاكي التفات واشتغال النقد الثقافي على الإنتاج الثقافي المهمش، الذي يشكل ما يسمى الثقافة الدنيا؛ ما يعني اشتراكها في مشروع هدم (الجدار العازل) بين الثقافتين العليا والدنيا. لم يعد الجدار قائمًا، أصبح أثرًا بعد عين، إلا في أذهان سدنة القديم».
ويضيف «مفهوم الأدب ظل راكدا قرونا عدة على الرغم من التطورات الهائلة والمعطيات الجديدة التي لحقت مفاهيم الوجود والكون والإنسان والإبداع المنجز، بما يشبه الثورة، ولا سيما منذ منتصف القرن العشرين؛ إلا أن الشعرية الأدبية لم تساير وتواكب ذلك بما يثري مفهومها ويوسع من أفقها. وإن كنا نلمس شيئا من ذلك عبر مزج الأجناس والأنواع الأدبية، وانفتاحها على الفنون والمعارف الأخرى ومنجزات التكنولوجيا الرقمية، في تفاعل لم تعرفه الحضارة الإنسانية من قبل. كل ذلك ولا شك يستدعي إعادة النظر في مفهوم الأدب.. ونحن الآن (طبقا لما بعد الحداثة) نعيش مفاهيم سائلة لم تتبلور بعد في قراءة نهائية. ومع ذلك كله يمكن القول بأن العملين الأخيرين الفائزين بـ«نوبل للآداب» يندرجان بشكل أو بآخر تحت مظلة مفاهيم الشعرية الأدبية. ففوز بوب ديلان مثلا، وكما جاء في معطيات لجنة الجائزة يعود لعلاقته بالأدب؛ فهو شاعر وكاتب سيرة ذاتية، امتاز شعره بخصائص جمالية بارزة وشكل إضافة في بابه، وهو مؤسس لأغاني الاحتجاجات، وله شعبية جارفة، إضافة إلى تراكم منجزه الشعري والموسيقي؛ والصلة بين الأدب والموسيقى والغناء صلة وثيقة وأزلية في كل الآداب الإنسانية. وعموما سيبقى سؤال (ما الأدب.. ؟!) مفتوحا دائما للمقاربة بانفتاحه على قضايا عصرنا ومنجزاته من نحو: الشفاهية والكتابية الإنسانية والإلكترونية، وصيرورة الأشكال الأدبية والفنية، والأدب والتكنولوجيا، وأدب العولمة والتفاعل والإثارة، وأدب من دون أدباء... ولعل الجائزة الأخيرة تسهم في إعادة تنشيط الجدل حول ذلك كله بما يثري مفاهيم الشعرية المعاصرة للممارسات الأدبية والفنية الجديدة والمستقبلية، مع الأخذ في الحسبان أن للجائزة مقاييسها واعتباراتها الخاصة التي يكتنفها الغموض أحيانا».
* الشمري: توسيع خصوصية الإبداع الأدبي
ويرى الروائي السعودي عبد الحفيظ الشمري أنه «رغم كون الجوائز نخبوية، ومحدودة، وتشوبها الكثير من الشوائب، لا سيما إذ استقصينا نشأتها وأسبابها، وتمكن بعض القوى منها؛ حتى باتت أداة من أدوات الاسترضاء أو التنفيع أو صهر التجربة وإحالتها إلى مجرد تهدئة في روع، أو رفع لمعنويات، أو إلى ما دون ذلك من الأنماط الاختزالية لها... أما وأن سلمنا بوجودها وجدواها فإن محاولة جائزة نوبل فيما يخص الأدب؛ تتجه إلى توسيع خصوصية الأدب والثقافة؛ لتجعل منها رؤية استنطاقية لمفهوم الثقافة والمعرفة التي تتقاطع مع الأدب بطريقة أو بأخرى؛ لكي لا ينحصر الأمر بالشعر والرواية، فيكون للجانب الإبداعي في الكتابة العامة رؤية ومنهج متميز يقبل عليه المجتمع ويرتضي به كمفهوم إنساني نبيل، بل وغير مقيد بنخبوية أو فئوية كشأن الأدب منذ نشأته إلى اليوم.
ويضيف: «خروج الجائزة في منحها لرواد العمل الإبداعي في فنون وثقافات مختلفة يسهل على المجتمع التفاعل مع الطروحات الإنسانية. ونحن نذكر على سبيل المثال أن من يحوزون جائزة الرواية قد يكونون غير معروفين للمجتمعات الأخرى، لكن حينما يحوزها الكاتب المسرحي وفرق التمثيل، وكتاب النصوص الشعرية التي تغنى بشكل فردي أو جماعي، وتنتشر في العالم فإن بعضا من أهداف هذه الجائزة قد يتحقق، وتعم الفائدة هذا الفن أو ذاك، ويمكن تقدير من يعملون فيه، ويفنون أعمارهم خدمة له.
* القاسمي: عودة الشكوك
أما الدكتور الشاذلي القاسمي، أستاذ تاريخ العلوم العربية في جامعة برشلونة بإسبانيا، فيذهب إلى أبعد من ذلك، ويلمح إلى العوامل السياسية، وهي تهمة طالما لحقت بـ«نوبل»، ولكن القاسمي يدخل إلى الموضوع بطريقة أخرى، فيقول «بادئ ذي بدء إن جائزة نوبل لم تعد بقدر الشكل والمضمون اللذين كانت عليهما في زمن ولى، حين كانت تعطى في حقل القصيدة والرواية والكتابة المسرحية، إلا أنها الآن أصبحت تعطى في مجال الصحافة والغناء من قبل الأكاديمية السويدية. ولا نعتقد أن ذلك يدخل في مجال توسيع المصطلح وإنما يدخل ضمن حسابات أخرى منها السياسة والآيديولوجية. ويضيف «إن الغناء والصحافة من الأدوات المتناولة لإيصال المعلومة بطريقة أسرع؛ لأن الصحافة والغناء لهما جمهور واسع، خصوصا ونحن في عصر العولمة على خلاف المسرح والأدب، وأظن أن ذلك ليس من باب توسيع الأدب المعاصر بقدر ما هو إيصال الهدف المنشود بسرعة لخدمة هدف معين وإن كان عبر الفن مثل الغناء؛ لأن الجودة لا تهم بقدر ما يهم التأثير وإيصال السهل والبسيط».
وكان أقصر جواب هو الذي أدلت به الدكتورة العمانية أمينة الحجرية، المدير العام المساعد لـ«الإيسيسكو»؛ إذ قالت لنا باختصار: بما أن الجائزة عالمية، وهي في الأساس نشأت للتشجيع على الإبداع؛ فمن وجهة نظري يجب فتح الآفاق ومجالات الإبداع وعدم حصرها على جوانب محددة وخاصة أنها عالمية.
* شوارب: أسباب غير مقنعة
بينما يذهب الأكاديمي والشاعر الدكتور السعيد شوارب، من مصر، إلى تحليل المصطلح فيرى أن مفهوم الأدب من الناحية العلمية هو كلام بليغ جميل يؤثر في المتلقي ويدفعه في الاتجاه الذي يريده الأديب. ولا يكون «أدبا» إلا إذا قام على العاطفة والخيال وسلامة اللغة الفصيحة. ويضيف «إن مفهوم الأدب يشمل الشعر الفصيح بأنواعه والنثر الفصيح بأنواعه. وأنا واحد ممن لا يُدخلون في الأدب إلا ما كان فصيح اللغة»؛ ويرمي الدكتور السعيد شوارب سهامه نحو كلمات الأغاني فيقول: بالتالي، فإن كل ما كتب في اللهجات رغم جودته أحيانا لا يمكن أن يدخل في المصطلح؛ لأن له اسما هو الزجل فيما يسمى بالأدب الشعبي. ومعلوم أن مجامع اللغة العربية لا تعترف بهذا الإنتاج حين يكون الحديث عن الأدب. ويكشف شوارب عن معلومة بقوله «نحن الآن في مجمع القاهرة نخرج معجما جديدا باسم (معجم لغة الشعر العربي) ولا ندخل فيه شعر العامية مهما بلغ من الجودة». ويختتم وجهة نظره بقوله: لا ندري على أي أساس منحت «جائزة نوبل في الأدب» لمغن أو مؤلف أغان؛ إلا إذا كان لدى اللجنة مفهوم مختلف لا ندري أساسه في المصطلح القديم.
* النجدي: فنون الأدب ليست مغلقة
الدكتور إيهاب النجدي، أستاذ الأدب العربي في الجامعة العربية المفتوحة بدولة الكويت، له رأي جدير بالتأمل، فيقول: حصول الشاعر بوب ديلان على جائزة نوبل لهذا العام كان مفاجئا؛ لشهرته بوصفه مغنيا، لكنه شاعر مهم وصاحب موقف سياسي قبل أن يكون مغنيا، بشهادة بعض نقاد الأدب، لكن الذي أثار الانتباه هو تأكيد لجنة «نوبل» في حيثيات الفوز على «أنه أبدع تعبيرات جديدة ضمن تقاليد الغناء الأميركي»، وهو ما يفتح باب التساؤل: ولماذا لم يفز بالجائزة مثلا شاعر عربي بحجم أحمد رامي الذي كان له دور كبير في تطور الكلمة المغناة عبر عقود طويلة؟
ويضيف «فنون الأدب ليست مغلقة بطبيعتها، فكم من فنون ولدت وأخرى انزوت لتغير حياة الناس وحاجاتهم النفسية، وتبدل الأذواق. وعلى سبيل المثال، أين الآن فنون أدبية قديمة مثل المفاخرات، والنقائض الشعرية؟ وأين الملاحم من الأدب الغربي الآن؟ وكانت القصة القصيرة والرواية، والمسرحية.. في مطالع القرن العشرين محل سجال حول قيمتها. نعم، دائرة الأدب تتسع لكل نص إبداعي، وإن جاء في صورة استطلاعات صحافية، أو أغان شعرية، وتبقى اللغة الإبداعية هي الفيصل. وإذا كانت الحدود بين الأنواع ليست صارمة، فإن التمييز بين الأنواع الأدبية يظل علامة تطور، وأؤيد «تـودروف» حين رأى أنه «لا يكون هناك أدب دون أجناس أدبية».
ويختتم النجدي رأيه بالقول: «جدارية الأدب والفن تتسع لكل تجريب، لكنها في الوقت ذاته، لا تُسمي الأشياء بغير أسمائها، ولا تسقط الفروق بين الأنواع، حتى لا تنماع الأشياء، وتصبح كل كلمات امتلأت بها واجهات النشر كتابة، وكل هذيان نصا، تقام لأجله منصات النقد، ومهرجانات الدعاية والجوائز».
* صالح: سخرية من الأدب
القاص المصري المقيم في الكويت شريف صالح، يقول «ربما نعتبر فوز سفيتلانا أليكسيفيتش توسيعًا لمفهوم الأدب بالالتفات إلى القيمة الأدبية في الكتابة الصحفية. لكن قياس (تفويز) ديلان عليها في غير محله؛ فالآداب تظل دائمًا مرتبطة بالكلمة وحدها، مهما تنوعت ما بين شعر ورواية ومسرحية وقصة.. أو نصوص عابرة للنوع.. أما الفنون التي تعتمد على (الكلمة) مضافًا إليها إبداعيات أدائية مختلفة مثل السينما والعروض المسرحية والغناء والكوميكس.. فهي تأخذنا إلى حقول أخرى خارج الأدب». ويضيف «لو رجعنا إلى تقاليد الجائزة نجدها ظلت مرتبطة بإبداع الكلمة فقط.. فما الذي سيتوسع تحديدًا في (الأدب) بمنحها لموسيقي؟ بالطبع هو فنان عظيم وله تأثير في الثقافة الشعبية ومتوج بالأوسكار و11 جائزة غرامي.. فلن تضيف (نوبل) أي شيء إليه.. وهو ما يفسر استخفافه وعدم الرد على إدارة الجائزة ولو بتصريح مقتضب.. ومنذ أن ظهر اسمه في الترشيحات قبل سنوات سئل عن ذلك فقال بأنه ليس أديبًا مثل هيمنغواي».
ويضيف صالح: «وكما علق أحد أصدقائه بالقول: أحب ديلان، ولكنه بلا أعمال أدبية، وأعتقد أن الأكاديمية السويدية وضعت نفسها محط سخرية العالم، وهذا الأمر مهين للكتاب.. فما حدث بالفعل ليس توسيعًا للأدب، بل إهانة لعشرات المشروعات الإبداعية الكبيرة.. في ظل ظروف مقعدة يعاني فيه الأدب في معظم دول العالم ويحتاج إلى جائزة مثل نوبل لا يحتاج إليها ديلان. إلا إذا أعادت الجائزة توصيف نفسها لتصبح جائزة نوبل في الآداب والفنون والثقافة الشعبية.. ساعتها يصبح جديرًا بها».



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟