الإسلام والسياسة في المغرب

حول نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية

مغاربة يحتفلون بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في بلادهم (رويترز)
مغاربة يحتفلون بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في بلادهم (رويترز)
TT

الإسلام والسياسة في المغرب

مغاربة يحتفلون بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في بلادهم (رويترز)
مغاربة يحتفلون بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في بلادهم (رويترز)

تؤكد خبرة التاريخ السياسي المغربي أن المشاريع الإصلاحية السياسية ارتبطت بالدين الإسلامي، شأنها في ذلك شأن المشاريع الإصلاحية العربية الأخرى. فلقد تعاملت النخب المؤثرة من جهة، والدولة من جهة ثانية، مع المرجعية الإسلامية باعتبارها المرجعية العليا النهائية المؤطرة للنظر والعمل الأهلي السياسي. ولذلك، ارتبط مصير السلطان الملك بقبول العلماء بيعته، وكان دور العلماء يعزز من حضور الدين في السياسة، فالنخبة الدينية كانت مصدرًا مركزيًا لمنح الشرعية للسلطان وسحبها منه، مما جعل المجال السياسي تاريخيًا منضبطًا بالقواعد المرعية في المجال الديني، وليس العكس.
وفي السياق نفسه، تظهر التجارب التاريخية المغربية أن الإصلاح السياسي يتأطر بالمرجعية الإسلامية، ويشهد نجاحات معتبرة، في حالة التقارب والتشارك بين النخب الوطنية والنظام السياسي بقيادة الملكية. وهذا التقارب يجري تفعيله بشكل دوري، عبر توسيع دائرة الشركاء في الحياة العامة السياسية المغربية. وهذا ما تؤكده عهود السلطان سيدي محمد بن عبد الله، والسلطان سليمان، والحسن الأول، والمولى عبد العزيز، وعبد الحفيظ، والسلطان محمد الخامس، والراحل الملك الحسن الثاني الذي دخل الإسلاميون في فترة حكمه لأول مرة في تاريخ المغرب إلى المؤسسات السياسية والدستورية الرسمية عام 1997، وفازوا بتسعة مقاعد بالبرلمان في الانتخابات التشريعية.
في هذا السياق التاريخي الذي لا يَفْصل بين الديني والسياسي، سارت الحركة الوطنية ومجمل النخبة السياسية المغربية بعد الاستقلال، في مسار سياسي يحمل ويستعمل مفاهيم ورموز المرجعية الدينية في قضايا الشأن العام والحكم. ولقد استمر هذا حتى في زمن الصدام بين الملكية واليسار الاشتراكي في المغرب المعاصر، عندما عجزت مختلف النخب العلمانية عن كسب مشروعية مجتمعية اعتمادًا على طرحها الحداثي، ولجأت إلى تأطيره بالمفاهيم والمرجعية الإسلامية تارة، والتأكيد على عدم تصادم طرحها للحداثة السياسية مع الإسلام وقيمه السياسية تارة أخرى.

سلاسة بلا نزاع
ولعل هذا المسار الذي لعب المجتمع والعلماء والملك دورًا كبيرًا في ترسيخه، جعل المغرب يطوّر مؤسساته الدينية والسياسية في سلاسة بطيئة، دون أن يشهد نزاعات وصدامات عنيفة بين السلطة الحاكمة والتيارات الدينية السياسية الإصلاحية القديمة، بخلاف الصراع الذي وقع مع جزء مهم من النخبة السياسية اليسارية العلمانية في علاقته بالنظام السياسي المغربي الذي يتهمه اليسار العلماني بكونه «راعيًا» للدولة التقليدية الرجعية، معرقلاً لأي إصلاح يُحقق الحداثة السياسية.
قوة الإسلام في المجال السياسي المغربي جعلت منه أساسًا متينًا في بناء دولة الاستقلال، حيث قادت الملكية بشرعيتها الدينية والتاريخية مرحلة جديدة من مشاريع الإصلاح، وتحديث الجهاز الإداري والعسكري، وبناء المؤسسات السياسية المغربية. واستندت الملكية غير مرة في قراراتها السياسية المركزية إلى ما يتمتع به الملك من سلطة، باعتباره أميرًا للمؤمنين وممثلاً ساميًا للأمة المغربية.
ولعل حدث وضع أول دستور لدولة الاستقلال في المغرب عام 1962، يلخص هذه الثنائية المنسجمة. إذ كان العلامة علاّل الفاسي، زعيم حزب الاستقلال ذي المرجعية الإسلامية، وكذلك الدكتور عبد الكريم الخطيب، وهو واحد من أبرز زعماء جيش التحرير ومؤسس حزب العدالة والتنمية المغربي، وراء وضع الفصل الـ19 من دستور 1962 الذي ينص على أن «الملك أمير للمؤمنين، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الملّة والدين، الساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات، وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة».
وقد دفعت مركزية الإسلام في الحقل السياسي المغربي النخبة المنحدرة من الحركة الوطنية، وهي تسعى لتدشين عهد جديد للإصلاح السياسي بالبلاد في أواخر القرن العشرين (1996م)، إلى مطالبة الملكية بفتح أوراش الإصلاح الشامل، معتبرة أن الإصلاحات الدستورية والسياسية تتصدره. وتماشيا مع ما ينص عليه الدستور المغربي من أن المملكة المغربية دولة إسلامية، توافقت تلك النخبة السياسية في مذكرة قدمت للملك على «أن ينص الدستور في تصديره على ألا تتعارض قوانين البلاد مع تعاليم الإسلام. ومن المعلوم أن القوانين المغربية حرصت دائمًا على الاستضاءة بالاجتهادات المتفتحة».

قاعدة مستمرة لليوم
ومن هنا، يتضح أن الأحزاب الوطنية والملكية كرّست، كل من جانبه، قاعدة التداخل بين الديني والسياسي في مغرب اليوم، لذا بقيت مجالات الحياة العامة منسوجة بالخيط الديني الذي يشد أطرافها أفقيا، صاهرًا بذلك مكوّنات المجتمع العربية والأمازيغية، ليجعل من الإسلام السنّي المالكي اختيارًا ممتدًا في الزمان، يخلق خصوصية مغربية مستقلة عن المشرق.
أما عموديًا، فإن هذه الخصوصية جعلت من الملك (أمير المؤمنين) قائدًا وممثلاً أعلى للمؤسسات الدينية الرسمية، دون إلغاء حق المنظمات الدينية غير الرسمية في الدفاع عن الإسلام والقضايا السياسية من منطلق مرجعي إسلامي شعبي.
وعلى خلاف مسار النزاع والصدام مع بعض أطراف اليسار العلماني، حل الخلاف السياسي بين الحركات الإسلامية الحزبية الجديدة والمؤسسة الملكية محل الصراع على السلطة والحكم، الشيء الذي خلق نوعًا من التعايش الطبيعي بين ما يمثله الملك من شرعية دينية وسياسية عليا للدولة، وما تتمتع به الحركات والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية من شرعية شعبية وسياسية واسعة.
هذا بدوره سهّل عملية دمج إسلاميي «العدالة والتنمية» في الحقل السياسي المغربي، من دون المس بثوابت النسق والنظام السياسي المغربي، وضمن سمو المؤسسة الملكية باعتبارها مؤسسة وطنية تجمع بين الديني والسياسي، وفي الوقت نفسه تسمو على الفاعلين السياسيين والدينيين الذين يخضعون للمساءلة القانونية والسياسية الشعبية.
هذا المنحى الثابت نجده في الدستور المغربي لعام 2011 الذي ينص في الفصل 41 منه على أن «الملك، أمير المؤمنين، وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية». وجعل من مؤسسة المجلس العلمي الأعلى التي يرأسها الملك هيئة دينية وطنية مُدسترة، ومكلفة بالشأن الديني، خصوصا ما يتعلق بالفتوى الشرعية، وتنظيم المجالس العلمية الإقليمية. وفي هذا الإطار، نص الفصل المشار إليه نفسه على: «يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه».
كذلك تكرّست المكانة المركزية للإسلام في الحياة السياسية المغربية دستوريًا، عندما اعتبر تصدير الدستور الجديد لعام 2011م أن «الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها»، وهذه إضافة نوعية ومستجدة تعيد للمرجعية الدينية سموها الدستوري الذي على أساسه تعتبر المملكة المغربية دولة إسلامية، وهو ما يوضحه الفصل الثالث من الدستور الذي ينص على أن «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية».
ويتضح من خلال المسار السياسي المعاصر للمغرب أن الإسلام ظل بشكل دائم يلعب دورًا مركزيًا في الفضاء العام. صحيح أن الملكية التنفيذية هي الحاكمة، ولها شرعية دينية، وتتمتع باختصاصات دينية بموجب الدستور، وأن المجال الديني مجال محفوظ للملك، إلا أن بروز الحركات الإسلامية على السطح السياسي في المغرب جعل علاقة الدين والسياسة تحظى بمزيد من الاهتمام، خصوصًا مع ظهور فاعل سياسي قوي شعبيًا، تمثل في حزب العدالة والتنمية.
وعلى الرغم من أن هذا الحزب يسلّم للملك بـ«إمارة المؤمنين»، فإنه ظل ما بين عامي 2011 و2016 متمسكًا ومدافعًا عن المرجعية الإسلامية التي يعتبرها مرجعية الدولة والمجتمع المغربي، ولم يخل خطابه السياسي في زمن الانتخابات من الطابع الديني والأخلاقي القيمي. وهذا التميز يقرّب الحزب من الذهنية الجماعية للناخبين، ثم إن نجاح الحزب في تحقيق بعض الإنجازات المهمة في المجال الاقتصادي والاجتماعي في الولاية السابقة، ومحافظته على نزاهته ومصداقيته لدى الرأي العام، جعل منه أكبر وأقوى حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية يصل لرئاسة الحكومة للمرة الثانية، في سابقة من نوعها في التاريخ السياسي المغربي.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.