تفاصيل انقلاب الغويل على المجلس الرئاسي الليبي

قادة في الشرق ودعوا «اتفاق الصخيرات».. والسراج يتحدى ويتجول في طرابلس

مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج
مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج
TT

تفاصيل انقلاب الغويل على المجلس الرئاسي الليبي

مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج
مقاتلون من مصراتة انتقلوا إلى سرت لمقاتلة داعش وتركوا مواقعهم في طرابلس ما أدى إلى استغلالها من خصوم السراج

حدث كل شيء بشكل مفاجئ. جلس الدكتور عبد الرحمن السويحلي، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية، عدة ساعات ينتظر اتصالا للاطمئنان على رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، فايز السراج، لكنه لم يتصل. يوجد انقلاب في طرابلس. كان ذلك مساء يوم الجمعة الماضي. مرت أوقات عصيبة. ثم بدأت رياح الانقلاب تهدأ رويدا رويدا. وبعدها ظهر السراج وهو يتجول في شوارع العاصمة، رغما عن قوات الانقلابيين التي كانت تقف على الجانب الآخر.
في اليومين التاليين ظل الحديث عن «الانقلاب» مستمرا وسط شائعات عن اختفاء السراج من طرابلس، بينما كان الرجل، ذو القامة الطويلة، يتجول في العاصمة متحديا. زار مقر وزارة الداخلية قرب طريق المطار، وشارك في تخريج دفعة جديدة لضمها إلى جهاز الشرطة. وفي رده على أسئلة «الشرق الأوسط» يقول الدكتور العارف الخوجة، وزير الداخلية، إن حكومة الوفاق تزاول أعمالها، ووزراؤها في مواقعهم. ويعد الخوجة ضمن مجموعة الوزراء في حكومة السراج. ويضيف أن الأمور في طرابلس «بوضعها المعتاد». والحكومة «تعمل من مقراتها وبشكل هادئ ولا يوجد قلق».
كان الهدف من «انقلاب الجمعة الماضي» إعادة حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل، المدعومة من بقايا أعضاء المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق). ووقف الغويل وعدد من أعضاء المؤتمر على المنصة وقال وسط شعور بنشوة العودة إلى ساحة التجاذب السياسي، إنه يمد يده إلى الحكومة المؤقتة المنبثقة عن البرلمان الحالي (مقره في شرق البلاد)، وهي برئاسة عبد الثني، من أجل تشكيل حكومة من الطرفين. وهنا اتضح أن ما حدث في طرابلس كان هدفه إقصاء السراج وحكومته المقترحة من حوار الصخيرات الذي رعته الأمم المتحدة لمدة نحو عامين.
من أهم الشخصيات التي ظهرت من مخرجات هذا الحوار، السراج والسويحلي. وبدأ التحرك ضدهما من فريق متشدد يدعم المؤتمر الوطني وحكومة الغويل. فريق على خصام مع البرلمان الحالي الذي يعقد جلساته في طبرق وعلى خصام مع قائد الجيش الوطني خليفة حفتر. ومع ذلك يقول إبراهيم عميش، رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان، لـ«الشرق الأوسط» إنه يجري في الوقت الحالي فتح مجالات للحوار الجاد مع المؤتمر الوطني وحكومة الغويل. وقد يكون هناك حوار ليبي - ليبي صرف بينهما، سواء يعقد في طرابلس أو أي عاصمة من عواصم الدول المجاورة.
على كل حال يبدو أن عودة الغويل استفزت ميليشيات طرابلسية ومصراتية تناصر مجلس السراج الرئاسي. توجد حالة من التحفز والتربص. لوحظ زيادة في عدد المسلحين وظهور أسلحة ثقيلة في زوايا الطرق وشاحنات تقل مقاتلين في الشوارع، إضافة إلى تحركات في اتجاه طرابلس من جانب ميليشيات يقودها زعماء من مصراتة.
يكشف مصدر أمني ليبي لـ«الشرق الأوسط» عن أن التخطيط لعملية «الانقلاب» بدأت قبل إعلانها يوم الجمعة الماضي بنحو أسبوعين. تحرك تحت جنح الليل ما لا يقل عن 300 مقاتل بمعداتهم من أطراف طرابلس وجرى توجيههم للتمركز قرب وسط العاصمة ومنطقة قصور الضيافة والفندق الذي يتخذه بعض قادة المجلس الرئاسي مقرا للعمل اليومي. هناك يوجد مكتب السويحلي. أما مكتب السراج وعدد من نوابه فموجود في قاعدة بوستة البحرية على شاطئ طرابلس. وفي اليوم التالي تحركت مجاميع مسلحة أخرى في طريق الهضبة.
وبينما كانت مكاتب «رجال الصخيرات» مشغولة بتطورات الحرب ضد تنظيم داعش في سرت، كانت خطة الانقلاب عليهم تمضي في صمت. ساعد على ذلك انشغال ميليشيات موالية للسراج في الجبهة. في تلك الأثناء بدأ التواصل من جماعة الغويل مع قادة لمجاميع متخصصة في حراسة مقار السراج لضمها إلى العملية في ساعة الصفر. ظهر أن الفرصة ستكون مواتية.
بدأ النشاط عبر شوارع رئيسية وضواحٍ وكأن الأمر لا يزيد عن عملية إعادة انتشار لبعض عناصر الميليشيات. في بعض المناطق كان يجري نقل أسلحة ومقاتلين بسيارات مدنية خاصة (صالون) حتى لا تثير الانتباه. عبر الخرائط والرصد جرى التأكد من سلاسة انتقال مركبات المشاركين في «الانقلاب»، وتحديد مواقع الخصوم والمقاومين المحتملين.
حين أعلن الغويل عن عودته على شاشات التلفزيون، بدأ رجال السراج في البحث عن رئيسهم. أين هو الآن؟ هل غادر البلاد؟ هل ما زال في القاعدة البحرية في أبو ستة؟ لقد انقلب الغويل، ابن مدينة مصراتة، وعاد بحكومته للواجهة بعد أن كانت قد اختفت في الظل منذ قدوم السراج إلى طرابلس في مارس (آذار) الماضي. وقال السويحلي، وهو ابن مدينة مصراتة أيضا: «لقد تلقينا طعنة من الظهر»، وفقا لمصدر مقرب منه. وهو يعتقد أن ما قام به الغويل لا يمكن أن يحدث إلا بضوء أخضر من قوى غربية. وساد اعتقاد مماثل بين قادة ميليشيات مصراتية منخرطة في حرب «داعش» في سرت.
أميركا ودول غربية أخرى، إضافة إلى المبعوث الخاص من الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر، نددوا بما قام به الغويل، لكن الواقع الآن هو أن رئيس «حكومة الإنقاذ أثار زوبعة كبيرة»، كما يقول أحد قيادات مجلس السراج. ومع أن الحركة الانقلابية لا يبدو أنها أصابت المجلس الرئاسي ورجاله في مقتل، إلا أن الغويل وعددا من أعضاء المؤتمر الوطني يقومون في الوقت الحالي بغزل خيوط اللعبة السياسية، بعد نقضها. وفتحوا شهية القيادات الموجودة في شرق البلاد، ومعظمها قيادات مناوئة للسراج، لبدء الحوار من الصفر. ويقول عميش: «اتفاق الصخيرات انتهى».
جاء كل شيء بشكل لم يتوقعه كثير من أنصار السراج، مع أن أحد هؤلاء القادة يقول لـ«الشرق الأوسط»: كنا نعلم أنه يوجد تحرك ما.. كنا نتوقع حدوث شيء.. لكن، كما ترى، شوارع طرابلس الآن هادئة والسيد السراج وحكومته يواصلون العمل. ما جرى في الحقيقة «فرقعة إعلامية» وليس انقلابا بالمعنى الحرفي للكلمة. الناس في خارج البلاد يعتقدون أن «الحرس الرئاسي» قوات ضخمة، بينما أغلبهم مجرد مجموعات لشبان تحت التدريب.
لقد بدأ تحرك الموالين للغويل مع مساء الجمعة. كانت دورياته تجوب شوارع المدينة التي يعيش فيها نحو مليوني ليبي في ظروف عصيبة بسبب التدهور الاقتصادي والأمني. تقف مع الغويل، الذي تولى مسؤولية حكومة الإنقاذ منذ 2014 شخصيات تكره البرلمان، وتكره المشير حفتر. لهذا يبدو مستقبل إجراء أي مصالحة جديدة في البلاد أمرا بعيد المنال. إلا أن عميش يقول إنه توجد مشتركات للتوافق، مع إبعاد مسألة الخوض في الأسماء الجدلية عن المفاوضات المتوقعة.. «نحن لا نتحدث مع المؤتمر الوطني عن شخص ولكن عن مؤسسة عسكرية.. والبلاد في أمس الحاجة لهذه المؤسسة».
ومن جانبه يسعى رجال في المجلس الرئاسي لمعرفة ملابسات ما جرى. بدأ التحقيق في الأمر في الوقت الراهن. قبل «الانقلاب» بأيام أغلق رئيس المخابرات في العاصمة، هاتفه، واختفى عن الأنظار. لم يظهر في طرابلس. ربما كان في إجازة. لكن حين أعلنت حكومة الإنقاذ عن نفسها، بدأ كل طرف من أطراف المجلس الرئاسي يبحث في الموضوع. عموما يدرك من تعرضوا للخدعة أن تصرفات من بعض القادة لم تكن طبيعية.
هناك تساؤل آخر يطرح نفسه لدى شخصيات معتبرة في المجلس الرئاسي عما إذا كان أحد كبار المسؤولين المهمين في الحرس الرئاسي الموالي للسراج، قد التقى بمبعوث غربي في دولة مجاورة لليبيا قبل يوم واحد من «الانقلاب». لقد انضم الحرس الرئاسي لحركة الغويل. بيد أنه توجد إجابة مغايرة تقول إن هذا المسؤول غادر يوم الخميس الماضي البلاد بالفعل لكن لعلاج زوجته وإنه لا يوجد ما يؤكد أنه التقى بأي مبعوث غربي. على كل حال يبدو أن جميع التساؤلات مطروحة على طاولة بوستة هنا.
في لحظة معينة يمكن العودة إلى تفاصيل لم يكن في وسعك مراقبتها في خضم الأحداث اليومية الكثيرة. الآن يوجد معنى لرسالة بعث بها من خارج البلاد، قيادي ليبي في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان. أخبر فيها مكتب السويحلي، ظهر يوم الجمعة، أن هناك أمورا غير طبيعية تجري تحت الأرض في طرابلس. كانت إجراءات «الانقلاب» على المجلس الرئاسي تجري في الخفاء على قدم وساق. قاربت على الاكتمال. وقتها كان رد القائمين بشؤون مجلس الدولة أنه ليس هناك شيء وأنه لا أحد يمكنه أن يقوم بهكذا تحرك. حتى لو كان مكتب السويحلي قد أخذ هذا التحذير على محمل الجد، فإن الوقت كان قد فات.
قيادات المجلس الرئاسي وباقي القيادات المعاونة كانوا حتى يوم الجمعة ما زالوا يخوضون في مناقشات جدلية عن الحرب التي يشنونها ضد «داعش»، وما فيها من مشاكل. اتهامات تتطاير في وجوه عدد من الزعماء. كل الطاقات موجهة إلى سرت لا إلى طرابلس. غرفة عمليات «البنيان المرصوص»، وهي تجمّع من كتائب وميليشيات معظمها من مصراتة، تقاتل «داعش» في سرت منذ مايو (أيار) الماضي مشغولة بتقارير تأتي من الجبهة عن تزايد قوة التنظيم المتطرف رغم الضربات الأميركية ورغم كثرة قتلى محاربي مصراتة.
أكثر ما كان يشغل قادة «البنيان المرصوص» تقارير وردت فجر يوم الجمعة.. يوم الانقلاب نفسه. هذه مجرد حلقة في سلسلة تثير غضب المحاربين على الجبهة، لأن التقارير تشير إلى تعرض قواتهم لضربات من القوات الأميركية نفسها، وقول الأميركيين في كل مرة إنها كانت على سبيل الخطأ. في فجر ذلك اليوم أيضا تعرضت مجموعة من مقاتلي «البنيان المرصوص» لهجوم على جبهة «داعش» أسفر عن مقتل 40 وإصابة ما يزيد عن 100 بجروح.
أصبحت خلافات قادة مصراتة تتزايد. تفكير ومناقشات تدور كلها حول تدهور وضع الحرب. الغضب كبير. أخذ بعض القادة يزعق طالبا من السراج الاتصال بالولايات المتحدة لكي يتم وقف تدخلها في الحرب ووقف مساعدتها لـ«البنيان المرصوص»، لأن وجود الطائرات الأميركية في سماء سرت يأتي بنتائج عكسية.
على أرضية المجلس الرئاسي المشوشة، نسّق «الانقلابيون» مع كوادر من «القوة المتحركة» إحدى القوات الرئيسية التي يعتمد عليها مجلس السراج في العاصمة. جاء المساء والكل ينتظر ساعة الصفر. الكل يخشى انكشاف العملية. يقول مصدر مقرب من الغويل: «كنا حريصين على أن كل شيء يسير بسلاسة. كان هناك يأس من جدوى السراج ومجلسه.. لا توجد مرتبات ولا أمان ونزيف الخسائر في سرت لا يتوقف».
في المقابل يشير مصدر في ميليشيات طرابلس إلى خلافات أكثر عمقا تتعلق بمن يملكون السلاح على الأرض في المنطقة الغربية من ليبيا. على سبيل المثال هناك من بين الموالين للغويل، رجل يشغل عضوية المؤتمر الوطني. كان الرجل زميلا لعبد الحكيم بلحاج، الرئيس السابق للمجلس العسكري لطرابلس، وكان زميلا له أيضا في الجماعة الليبية المقاتلة التي تأسست في ثمانينات القرن الماضي في أفغانستان. لهما سنوات من العمل القتالي المشترك في الجبال. الآن يبدو أنهما على خلاف وفقا للمصدر نفسه.
ويقول: منذ دخول السراج إلى طرابلس كرئيس للمجلس الرئاسي، ومعه نواب بعضهم من الإخوان ووزراء بعضهم من الجماعة المقاتلة، بدأت الخلافات تدب بين الرجلين. انحاز بلحاج إلى السراج، وأصبح يميل أكثر إلى التعاون مع جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها الدولي، ويقيم معظم الوقت خارج البلاد.
أما زميله القديم، الذي أشرف على معظم خطة «الانقلاب» الأخير، فكان معارضا لمجلس السراج منذ البداية، وكان يتحين الفرص للخلاص منه. وتمكن في الأسابيع الأخيرة من جمع شتات الجماعة الليبية المقاتلة، واستقطاب قيادات دخلت في خلافات مع بلحاج، وهي قيادات تمتلك قوات تتمركز في طرابلس وخارجها. جرى جمع هذه القوات وتحريكها في مناطق معيتيقة وغوط الشعال والقبة السماوية وميدان الشهداء.
بعد صلاة ظهر الجمعة رجع أهالي العاصمة إلى بيوتهم سريعا كما اعتادوا أن يفعلوا منذ تأزم الموقف في العاصمة في الشهرين الأخيرين. الشوارع هادئة. استمر انتشار قوات «الانقلابيين». جنود قوات الحرس ينتظرون الأوامر للسيطرة على مقار المجلس الرئاسي ومجلس الدولة، سواء التي تحت إمرتهم بالفعل أو تلك الموجودة تحت حراسة قوات أخرى. جرى التنسيق مع غالبية الأطراف.
مسؤول في مجموعة «الانقلابيين» يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه، وقبل أن يتم الإعلان عن عودة الشرعية (أي الانقلاب) تأكدت الأطراف أنه لن تكون هناك أي مقاومة، مشيرا إلى أن الغويل جلس في ثقة وهز ساعته في معصم يده وطلب شرب كوب من العصير. وقال المصدر نفسه: سأل أحد الضباط الغويل: سيدي.. هل تشعر بالتوتر؟ فقال مستنكرا: التوتر.. لا يوجد توتر.. كل شيء يسير وفقا للخطة بالضبط.. مثل هذه الساعة. حتى من كنا نخشى من ترددهم رحبوا بالفكرة. ويريدوننا.
ثم سأله مرة أخرى عن الموقف المتوقع من الدول الغربية، فطلب منه الغويل أن يطمئن، في إشارة إلى أن كل شيء محسوب حسابه. ثم أفرغ الكوب ووضعه على المنضدة كأنه يضع بيدق الحسم في لعبة شطرنج.
وفي الجانب الآخر يبدو أن الرسالة «الإخوانية» العاجلة التي وصلت من خارج البلاد لمكتب السويحلي، لكي يأخذ حذره من تحرك للغويل والمؤتمر الوطني، جرى التعامل معها كالتالي، وفقا لرواية مصدر يعمل مع الرجل الذي يعد حفيدا لأحد زعماء مصراتة التاريخيين: «أي غويل، وأي مؤتمر وطني.. الأمور محسومة. المجتمع الدولي يقف مع المجلس الرئاسي ولا يمكن لأي مغامر أن يخرج ليدمر اتفاقيات رعتها الأمم المتحدة. حربنا في سرت محط اهتمام العالم».
قبل ساعات من إعلان «الانقلاب» كان العضو الليبي في التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، ما زال يبحث عن الدكتور محمد صوان، رئيس حزب العدالة والبناء الإخواني. وأبلغ عددا من رجاله في مكتب الحزب بضرورة التواصل معه لـ«أمر هام». لكن جرى إخطاره بأن هاتف صوان مقفل. يقول المصدر: كانت هناك محاولات حثيثة على ما يبدو من بعض الداعمين الإقليميين لجماعة الإخوان في ليبيا ولمجلس السراج الرئاسي، بأن يأخذوا حذرهم من انقلاب قادم.. «حتى مساعد صوان في الحزب، واسمه منعم، كان هاتفه مغلقا في هذا الوقت الحرج».
برقيات الإخواني الدولي لم تكن تشير إلى علمه بساعة الصفر. مجرد حالة هلع في لحظات أخيرة تدل على أن الوقت أزف ولا بد من التصدي لـ«الانقلاب»، لكن لم يكن هناك من يتلقى هذه التحذيرات. كما يقول المصدر، مضيفا: «باختصار.. في توقيت معين بدا المجلس الرئاسي وحيدا لا يدخل إليه خبر ولا يخرج منه خبر».
وقرب طريق الشط وأثناء مروره بأحد المقرات التابعة للمجلس الرئاسي في حدود الساعة الرابعة عصرا لاحظ مساعد لنائب رئيس المجلس الرئاسي، أحمد معيتيق، عدم وجود قوات الحراسة في مكانها المعتاد. يقول مصدر مطلع على ما جرى إنه تم إبلاغ معيتيق بالأمر فطلب من مساعده الاتصال برئيس قوة الحراسة، لمعرفة سبب اختفاء الحراس، فأخبره أن هاتفه لا يرد، وأنه لا توجد مؤشرات على وجود أي قلق. ويضيف: لكن معيتيق بدأ يشعر بقلق حقيقي حين بدأ يجري، بنفسه، اتصالات برجاله ولا يرد عليه أحد من المخابرات ومن الحرس الرئاسي.
وبحلول الساعة الخامسة والنصف تقريبا كان يبدو أن مكتب السراج قد تلقى أخيرا معلومات بوجود تحرك ضده في طرابلس لا ينبغي التعامل معه إلا بكل جدية. لكن كل ما كان يمكن عمله في تلك اللحظات الأخيرة هي أن يطلب من مساعده، ويدعى مروان، أن يجمع له أوراقه المهمة من مكتبه في قاعدة أبو ستة، ويضعها في مكان آمن. هذا ما حدث بحسب مصدر مقرب من المجلس الرئاسي، مشيرا إلى أنه في هذه الدقائق الصعبة كان السويحلي، هو الآخر، قد أحيط علما بأن «الواقعة قد وقعت»، وأن الإعلان عنها سيكون بعد دقائق و«لا شيء يمكن عمله لوقفها».
أما معيتيق، فيوضح المصدر أنه في تلك الدقائق كان ما زال يحاول التواصل مع المخابرات والحرس الرئاسي أو مع قيادات القوة المتحركة لكن لم يرد عليه أحد إلا بعد أن بدأت قوات المؤتمر الوطني والغويل تفرض سيطرتها على شوارع طرابلس. وجاءته الأخبار تترى وكل منها أسوأ من الآخر. يقول المصدر إن معيتيق، وهو من مصراتة وقريب للسويحلي، بدأ يرد في لهجة غاضبة على رجاله الذين خانوه: «هل هذا هو الطريق الذي اخترتموه.. حسنا. سنرى العاقبة».
بشكل عام كان هناك شعور بالمرارة وشعور بالمؤامرة. كان المجلس الرئاسي يضع يده على الطعنة التي أصابته من الخلف. كما أن الحدث كان شديد الوطأة على قيادات ذات أصول مصراتية، لأن الغويل نفسه يعد من أبناء المدينة. كما أن القوات التي يعتمد عليها السويحلي إما أنها انضمت إلى «الانقلابيين» أو أنها تحارب «داعش» في سرت أو أنها تستعد لشن حرب على الجيش في بنغازي انطلاقا من تمركزاتها في منطقة الجفرة جنوبا.
أما في طرابلس فكانت القوات الموالية للغويل تواصل الهيمنة على مقار للمجلس الرئاسي دون مقاومة تذكر. واقتحمت مكتب السويحلي. بعد الساعة السابعة مساء بتوقيت طرابلس كان كل شيء قد انتهى. وفقا لمصدر عسكري أدى انقلاب الغويل إلى شق صفوف مصراتة ذات القوة العسكرية الكبيرة، وهي في معمعة الحرب على «داعش».
يعتقد بعض القادة العسكريين أن أكثر القوى التي يمكن أن تسهم في وضع نهاية للانقسام في طرابلس بين مجلس السراج وحكومة الغويل هي القوات المعروفة بـ«لواء الصمود» التي بدأت في حشد عناصرها في اتجاه العاصمة، بالإضافة إلى الميليشيات الطرابلسية، مثل «قوات كاره» و«قوات التاجوري». ولا يوجد اتفاق أصلا بين مثل هذه المجاميع المسلحة. وهناك خصوم آخرون لكل هؤلاء، من بينهم خلايا «داعش» النائمة في العاصمة، وقوات من يطلق عليهم «المداخلة» الذين يعملون كجهاز شرطي مستقل، وغيرهم من ميليشيات يمكن أن تنحاز لهذه الكفة أو تلك.
ومع ذلك تجاوز السراج سريعا ما حدث الجمعة. ظهر يوم الاثنين عبر شوارع العاصمة وهو في طريقه إلى مقر وزارة الداخلية، حيث استقبله عدد من قادة الوزارة. وقال في كلمته التي ألقاها على خريجين جدد إن هناك إجراءات قضائية لضبط وإحضار «المارقين» الذين قاموا باقتحام مقرات للدولة. يسعى السراج على ما يبدو، حاليا، لإعادة هيكلة الوزارات سريعا لتلافي تكرار ما حدث.
من جانبه يوضح وزير الداخلية، الدكتور الخوجة، قائلا في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إن «حكومة التوافق الوطني المقترحة تعمل، والأمور طبيعية.. تعمل من مقراتها وبشكل هادئ ولا يوجد قلق». ويضيف: «نحن نضع أمام أعيننا بسط الأمن في طرابلس وتوفير الأمن للمواطنين وهذه من الأولويات.. وكل يوم نتقدم وننجح».



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري