التشكيلي الهندي بوبن كاكار.. توظيف السيرة في اللوحة

«تيت مودرن» في لندن ينظم له معرضًا استعاديا

من أعمال الفنان
من أعمال الفنان
TT

التشكيلي الهندي بوبن كاكار.. توظيف السيرة في اللوحة

من أعمال الفنان
من أعمال الفنان

نظّم الـ«تيت مودرن» بلندن معرضًا استعاديا للفنان التشكيلي الهندي الرائد بُوبِن كاكار Bhupen Khakhar يستمر لغاية السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وقد ضمّ المعرض ستين لوحة فنية مختلفة الأحجام، إضافة إلى مجموعة من الأعمال السيراميكية والرسوم المنفّذة بالألوان المائية المعروضة في فاترينتين تضمّان أيضًا بعض الكتب والمقالات النقدية التي تسلّط الضوء على تجربة كاكار الفنية.
قبل الخوض في تفاصيل هذا المعرض لا بد من الإشارة إلى أنّ كاكار لم يدرس الفن التشكيلي ولم يتخصص فيه، وإنما درس الاقتصاد والعلوم السياسية وتخرّج كمحاسبٍ قانوني، لكنه ما إن التقى بالرسّام والشاعر الكوجراتي غُلام محمد شيخ عام 1958 حتى شجّعه هذا الأخير على الالتحاق بكلية الفنون الجميلة بمدينة بارودا حيث درس النقد التشكيلي وهو في سنّ الثامنة والثلاثين مُعزِّزًا شغفه الفطري بالرسم الذي سيتفجّر في وقت قصير ليرسّخ اسمه كرائدٍ من روّاد المشهد التشكيلي الهندي الذي يحتفي بخصوصيته المحلية.
يحتاج فن الرسم إلى دربة ومران منذ الطفولة وكلّما تأخر الإنسان في اكتساب هذه الخبرات الأولية فسوف يعاني من ضعف في تقنية الخط واللون والمنظورية وربما يتثبّت هذا القصور ليُصبح عِلّة مستديمة لا يمكن التخلّص منها بسهولة. وكاكار يعاني حقيقة من هذا القصور على الرغم من منزلته الفنية الرفيعة وجوائزه الكثيرة التي حصل عليها في الهند وبعض البلدان الأوروبية، فلا غرابة أن يتصدى لهذا المعرض الاستعادي ناقد «الغارديان» الفني جوناثان جونز الذي وصف اللوحات برمتها بـ«المملة» و«غير المُتقنة» و«العتيقة الطراز»، وجاءت الردود أكثر عنفًا حيث وُصِف الناقد بـ«المتبجح الأحمق» واتهموه بالجهل وانتقدوا ذائقته الفنية.
تضمّ الصالة الأولى ثماني لوحات يُهيمن عليها التشخيص، والمناظر الطبيعية، والسرد البصَري الذي يعتمد في الأعمّ الأغلب على قصص من المثيولوجيا الهندية ومن بين هذه اللوحات «النمر والأيّل» التي حمّلها الرسّام أكثر مما تحتمل كأن يكون الجبروت أقوى من الحق أو أن القوي يهاجم الضعيف دائمًا سواء أكان بشرًا أم حيوانًا مفترسًا. أما لوحة «رجل يغادر» فتكشف عن الحلقة الضيقة من أصدقائه المتنوِّرين الذين يحملون أفكارًا مغايرة، كما تُعبِّر هذه اللوحة عن توقه الشديد للسفر إلى خارج الهند ورغبته الشديدة في اكتشاف العالم.
هذه اللوحة وسواها من الأعمال الفنية التي أنجزها في سبعينات القرن الماضي متأثرة بتقنيات الرسام الفرنسي هنري روسو والفنان الهولندي بيتر بروغل. اللوحة الثالثة التي تستحق الوقوف في هذه الصالة هي «إضراب المصنع» التي بناها بناء فنيًا دراميًا متميزًا عندما فصل الرجل، صاحب الوجه الرمادي الذي يمثل الطبقة المتوسطة، عن المُضربين الآخرين، مُصوِّرًا وحدته وعزلته عن المجتمع، فلا هو منتمٍ إلى العمال الفقراء ولا إلى الطبقة العليا التي يلوذ بها فظلّ معلّقًا بين الطرفين. سوف تتكرر ثيمة الوحدة التي يشتغل عليها كثيرًا في أعماله الفنية. ففي الصالة الثانية التي ضمّت تسع لوحات غنيّة في موضوعاتها وتقنياتها التي لم يلتفت إليها، مع الأسف الشديد، الناقد جوناثان جونز، ولم يتأمل ثيماتها جيدًا، فهي مريحة من الناحية البصرية وغير مثقلة بالفيكَرات الزائدة عن الحاجة وهذه اللوحات هي «رجل مع باقة ورد بلاستيكية» حيث يقف الشخص الرئيسي وحيدًا ومعزولاً عمّا يحيط به من أناس منغمسين في شؤونهم الخاصة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر إلى هذا الشخص المتوحد. لا تخرج لوحة «رجل في الحانة» عن إطار العزلة، بل هي تذهب صوب الغربة والاغتراب وقد استوحاها من مدينة باث التي أقام فيها بعض الوقت بدعوة من صديقه الفنان هاوارد هودجكن الذي عرّفه بنتاجات ديفيد هوكني، ووسّع هذا الأخير رؤاه ومداركه فيما يتعلق بالفن الشعبي. أما بقية لوحات هذه الصالة مثل «مُصلِّح الساعات» و«الخيّاط» و«دكان الحلاقة» فهي أنموذج للأعمال الفنية الناجحة التي استوحاها من بيئته الاجتماعية التي يحبِّذها ويراهن على أنشطتها اليومية التي تبثّ الحياة في المجتمع الهندي المتعدد الطبقات.
تشتمل الصالة الثالثة وهي الأكبر مساحة على 22 لوحة لعل أهمها على الإطلاق هي لوحة «لا يمكنك إرضاء الجميع» وهذه الجملة مُقتبسة أصلاً من الكاتب الإغريقي إيسوب وقد رسّخ بواسطتها تقنية السرد البصري. ولو وضعنا «الفيكَر» الرئيسي العاري جانبا فإننا نشاهد تجسيدًا بصريًا لقصة «الأب والابن والحمار» فإذا ركب الأب على ظهر الحمار انتقده الناس، وإذا ركبا معًا سخروا منهما، وحينما حاول الاثنان حمله سقط الحمار إلى أن هتف الأب قائلاً بما معناه «إن إرضاء الناس غاية لا تُدرَك».
لا شك في أن غالبية لوحات هذه الصالة إيروسية وتعكس ما في أعماق الفنان من هواجس بهذا الصدد أضرّت بالمعرض كله ذلك لأن تقنيات هذه اللوحات ضعيفة، وثيماتها لا تنطوي على أي نوع من الإثارة الأمر الذي دفع ببعض النقاد لاستهجانها والكتابة عنها بشكل لاذع.
أفاد كاكار من الملاحم الهندية كثيرًا ووظفها في الكثير من أعماله الفنية وربما تكون لوحة Yayati التي أنجزها الفنان عام 1987 من بين النماذج الأسطورية الناجحة التي وجدت طريقها إلى السطح التصويري كفكرة لكنه لم يوفق بها على الصعيد الشكلي الذي لم ينجُ من المباشرة والتسطيح. فحينما يشيخ الأب بسبب لعنة يتبرع الابن بفحولته لكن الوالد يرفض هذه الهدية بعد أن يكتشف أن المتع جميعها زائلة وأن التشبث بها هو ضرب من الجنون.
تضم الصالة الخامسة والأخيرة ثلاث عشرة لوحة تجسّد صراعه الدائم مع سرطان البروستاتة. وعلى الرغم من أن كاكار خسر المعركة وفارق الحياة فإنه ظل يقاوم المرض بالسخرية تارة، وبالمواقف الجدية تارة أخرى، وكان يروي لنا آلامه بالصور البصرية البليغة التي تلامس شغاف المتلقي وتهزّه من الأعماق.
يوظِّف كاكار سيرته الذاتية في الكثير من أعماله الفنية وقد رأيناه في المراحل الأولى مندفعًا صوب السياسة، والصراع الطبقي، وأفكار المهاتما غاندي التي كان يناصرها، لكنه بالمقابل كان منغمسًا بآرائه وقناعاته الشخصية الجريئة التي لم يتقبّلها المجتمع الهندي المحافظ.
لقد جسّد كاكار غالبية أفكاره الشخصية في أعمال فنية استوحاها من سيرته الذاتية، وحياته الخاصة، والأمراض التي ألمّت به. وقد تعرّض أسلوبه إلى هزّات كبيرة خارجة عن إرادته، فحينما أُصيب بالكاتاراكت في أوائل التسعينات تضببت لوحاته لكنها سرعان ما عادت إلى إشراقاتها اللونية حينما شُفي من مرضه. أما في أثناء إصابته بالسرطان فقد أخذت لوحاته طابعًا مجازيًا، فالعنف الذي نراه في هذا المرض الفتّاك لا يمكن قراءته بعيدًا عن العنف الديني الذي اجتاح كوجرات وذهب ضحيته الكثير من المسلمين والهندوس. وقد تعاطف النقاد تحديدًا مع هذه اللوحات العنيفة والقاسية التي تصوّر صراعه المرير مع المرض وتشبثه بالحياة.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».