كان الدمار شاملا، حتى أنه طمس الإحساس بالزمن. وفي لمحة خاطفة، يمكن للفيديو أن يُظهر مدينة برلين في عام 1945، أو العاصمة غروزني في عام 2000، حيث محا الموت الكامل كل الاختلافات الظاهرة.
ولكن المدينة البادية في الصورة هي حلب السورية، من حي المشهد، أو ما تبقى منه بعد الهجمات الأخيرة من قبل قوات النظام السوري وحلفائه من الروس. كانت الصحون اللاقطة للأقمار الصناعية قد خلعت إثر القصف المروع، وامتزجت بغبار المنازل المدمرة، لتشبه في مجموعها الزهور الذابلة. وتتحرك أشباح الأشخاص عبر الأنقاض المسحوقة بالقنابل، ولكن من الصعب خروجها من أي مكان في الحي.
قال هاري لايم: «هل ستشعر بأي شفقة إن توقفت إحدى هذه النقاط عن الحركة إلى الأبد؟» متسائلا من داخل عجلة فيريس اللندنية الشهيرة في فيلم «الرجل الثالث» الكلاسيكي، الذي تدور قصته حول فيينا ما بعد الحرب. وهذا فيلم فيديو قصير من تصوير طائرة من دون طيار، وهو مصور من نفس المنظور المنفصل للقاذفات القتالية التي ارتكبت هذه الفظائع باسم محاربة التمرد المتطرف. وجاء شريط الفيديو هذا ليوثق الدمار والخراب ويحل شاهدا عليه، ولكنه يحول الناس إلى مجرد نقاط تسير على الأرض، كما قال لايم في الفيلم.
بعد الحرب العالمية الثانية، ساعد الناجون من معسكر الاعتقال النازي «أوشفيتز» في تنظيم عرض لتخليد ذكرى المعسكر، وجاءوا بأكوام من الأحذية والشعر والأطراف الصناعية والحقائب. وكان الهدف من وراء ذلك هو التعبير عن القتل والعذاب الذي عانوه في وقت كان كثير من سكان العالم حولهم لا يدري شيئا عما يجري لهم، أو لا يريد أن يعرف، كم من الناس قتلوا على أيدي النازيين. ورفض الناجون التركيز على القصص الفردية للضحايا. وظنوا أن كل فرد في أوروبا تقريبا قد شهد الموت عن قرب، ولدى كل منهم قصته ليرويها، في حين أن الطبيعة الصناعية لعمليات القتل كانت شيئا مختلفا، وشيئا جديدا، ولا يسبر غوره، وأساسي للتسجيل والتوثيق.
واليوم، نواجه الهجمات عبر الإنترنت، وعلى شاشات التلفاز، وفي الصحف والمجلات بأعداد كبيرة وهائلة ولا معنى لها، ولقي المئات حتفهم إثر انفجار سيارة مفخخة في بغداد، ويذبح الآلاف تلو الآلاف في حلب السورية. وتطمس الإحصاءات بعضها بعضا، حتى في الوقت الذي لا يمكن فيه مجرد إلقاء نظرة عابرة على صورة آلان كردي، الطفل البالغ من العمر عامين على أحد الشواطئ التركية، أو فيديو عمران داكنيش، الطفل الحلبي الصغير المذهول من القصف والدمار، والذي أنقذوه من تحت الأنقاض، وكان جالسا في سيارة الإسعاف، يبكي دما من عينيه الصغيرتين. وبمجرد مطالعة هذه الصور، يكون من المستحيل محوها من الذاكرة. وليست بأكثر من أشباح الملاجئ التي لا حصر لها، وأرقام النازحين المذهلة، وما يتبادر إلى ذهن المرء كلما قرأ خبرا من أخبار الحرب، ذكرى الوجوه المتربة للأشقاء الستة من دون أحذية تحمي أقدامهم، الذين التقطت صورهم بكاميرا هاتفي المحمول أثناء وقوفهم عاجزين خارج الخيمة التي تتلاعب بها الرياح في مخيم الزعتري الحدودي الأردني للاجئين السوريين. وأتساءل حتى الآن: كيف صار حالهم؟.
هناك الآن نحو 65 مليون نازح في مختلف أنحاء العالم، وهو الرقم الذي يعادل سكان المملكة المتحدة أو فرنسا. ويقضي اللاجئون ما لا يقل عن 17 عاما في معسكرات اللاجئين المختلفة. وكان أطفال ذلك المخيم الأردني قد فروا بأرواحهم من الأسلحة والصواريخ والقصف الذي لا يهدأ ولا يرحم.
وأسأل نفسي عما يمكن أن تعنيه كلمة «منزل» بالنسبة لهم.
وأولئك الأوفر حظا، فإنها تعني السلامة والأسرة. وتذكرني مشاهد الفيديو الوارد من حلب بالحملة العسكرية الروسية الشرسة السابقة في مدينة غروزني الشيشانية، والتي كانت في يوم من الأيام مجتمعا عامرا بالمنازل، والمتاجر والشوارع المزدحمة الصاخبة. والآن، من الصعوبة بمكان النظر إليها، حيث كانت تلك المنازل المهدمة المتداعية، حتى وقت قريب، ملاذات آمنة لأشخاص كانوا يعيشون فيها برفقة عائلاتهم وأطفالهم وذكرياتهم. ومع الأصوات المرتفعة وهمسات الحب والحسرة، ومع الموسيقى، والصلوات، والأصدقاء، وروائح الأطعمة المطهوة على المواقد، وأحلام الحياة الجميلة التي تلاشت.
كان هذا حيا من الأحياء، بعبارة أخرى موجزة. والحي هو أكثر من كونه مجرد مجموعة متنوعة من المباني والشوارع. إنه يعني الحياة المشتركة والمتأصلة في ذلك المكان، والتي تمر عليها الأجيال تلو الأجيال. ومنذ وقت ليس بالبعيد وفي تلك المدينة القديمة، حلب، ذهبت إلى منزل رجل كبير كان يعيش في الشارع الذي يحمل اسم عائلته.
وسألته: «كم من الوقت مضى وعائلتك تسكن هنا؟».
فأجابني: «أتعني في الشارع أم في حلب؟».
وقبل أن أتمكن من الإجابة، سارع مبادرا وقال: «إن كنت تقصد في الشارع، فمنذ 800 سنة، وإن كنت تقصد في حلب، فمنذ 1200 سنة».
تحتضن المجتمعات الأمل في الغد. وطمس هذا الأمل هو غاية القتلة من السفاحين والطغاة.
وهذا ما كان يعرضه فيديو الطائرة الصغيرة من علٍ.
* خدمة: «نيويورك تايمز»
برلين 1945.. غروزني 2000.. وحلب 2016.. الوجه الآخر للدمار
شريط فيديو ملتقط من طائرة «درون» يوثق فظائع قصف النظام السوري للأبنية السكنية
برلين 1945.. غروزني 2000.. وحلب 2016.. الوجه الآخر للدمار
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة