تدني مستوى الخطاب السياسي في حملات الرئاسة الأميركية

الانزلاق بدأ قبل قرنين لكن 2016 عام الفضائح بامتياز

تدني مستوى الخطاب السياسي في حملات الرئاسة الأميركية
TT

تدني مستوى الخطاب السياسي في حملات الرئاسة الأميركية

تدني مستوى الخطاب السياسي في حملات الرئاسة الأميركية

خلال حملة الرئاسية الأميركية عام 1804 نشأ جدل حول ما إذا كان الرئيس توماس جيفرسون أنجب أطفالا من امرأة سوداء كانت تعمل لديه. بعدها، توالت الفضائح الجنسية مع الرؤساء غروفر كليفلاند وورن هاردينغ وجون كينيدي.
وفي عام 1987 التقطت صور للمرشح الديمقراطي غاري هارت مع شابة على متن يخت «مونكي بيزنس»، وباتت الحملة الرئاسية محط تركيز صحف الفضائح.
لكن عام 2016 شهد أفعالا غير مسبوقة. فقبل بضع دقائق على المناظرة الرئاسية الثانية الأحد، دعا ترامب إلى مؤتمر صحافي عاجل مع ثلاث نساء اتهمن بيل كلينتون بالاعتداء عليهن جنسيا، ورابعة أكدت أن هيلاري ساعدت زوجها على الإفلات من العقاب عندما كانت محامية شابة.
الأميركيون ليسوا غرباء عن الفضائح الجنسية والنقاش السياسي ذي المستوى المتدني أحيانا، لكن الحملة الرئاسية الحالية تشهد للمرة الأولى انزلاق مستوى الخطاب السياسي إلى الحضيض مع كم كبير من الفظاظة بشكل علني.
ويجمع كثير من الخبراء على أن هذه الحملة الرئاسية لا تشبه أي حملة قبلها، فقد شهدت اتهامات عنصرية ومهينة للنساء ومعادية للأجانب وأعمال عنف جسدي، بالإضافة إلى بروز نظريات عدة بوجود مؤامرة ومواقف جديرة بحكم ديكتاتوري.
وخلال مناظرة متلفزة للحزب الجمهوري لمح المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى أنه قادر على قتل شخص في الشارع دون أن يخسر أي صوت. لكن مستوى البذاءة ارتفع مجددا بعد نشر تسجيل فيديو الجمعة يعود إلى عام 2005 يقول فيه ترامب: «حين تكون نجما، يدعنك تفعلها. يمكنك القيام بأي شيء»، في إشارة إلى تحرشه بالنساء. ولم يكن يعلم أن الميكروفون مفتوح.
ويقول المؤرخ آلان ليتشمان الأستاذ في الجامعة الأميركية في واشنطن أن ترامب هو المحرض الرئيسي على هذا المستوى المتدني. ويضيف أنه «مرشح بلغ مستوى تاريخيا من السلبية». ويوضح تعليقا على الفيديو: «لم أر شيئا كهذا من قبل».
ويتابع أن المستوى «لم ينحدر إلى الحضيض» خلال الحملتين السابقتين، مع أن التهجم العنصري على الرئيس باراك أوباما كان أكثر خساسة.
يعتبر ترامب ومنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون المرشحين الأقل شعبية في التاريخ الحديث للولايات المتحدة. ومن المآخذ على كلينتون استخدامها ملقما خاصا لبريدها الإلكتروني عندما كانت وزيرة للخارجية، وتعرض القنصلية الأميركية في بنغازي الليبية عام 2012 لاعتداء حين كانت وزيرة للخارجية ومقتل السفير، وموقفها المتسامح إزاء مغامرات زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
وفي تطور غير مسبوق، أعلن الرئيس الجمهوري لمجلس النواب الأميركي بول رايان أنه لن يدافع عن ترامب و«لن يشارك» في الحملة لدعمه، خشية ألا يخسر فقط الحملة الرئاسية بل أيضا السيطرة على الكونغرس. ويكتب الصحافي في صحيفة «واشنطن بوست» ريتشارد كوهن «باتت لدينا مناعة ضد كل هذا.. الكذب، التعريف المتقلب للجنس والبذاءة.. وزوال الحدود بين ما هو خاص وما هو عام».
ويعتبر الأستاذ في كلية الإعلام في جامعة كارولينا الشمالية فيريل غيلوري أن المعطيات تغيرت لأن النقاش السياسي بات يتم أيضا على الإنترنت.
فالهجمات والهجمات المضادة تتم الآن في الوقت الحقيقي ويشاهدها مئات وحتى ملايين الناس.
ويتابع غيلوري أنه لم يعد هناك أي مراعاة للقوانين الضمنية المعتمدة في النقاش السياسي، في إشارة إلى تهديد ترامب لكلينتون بأنه سيزجها في السجن في حال انتخابه رئيسا.
وفي تجمع انتخابي في فبراير (شباط)، لم يتردد ترامب في تهديد متظاهر أزعجه بأنه «سيحطم وجهه». وقبلها تحدث عن الدورة الشهرية لمقدمة تلفزيونية، وشن هجوما على ملكة جمال سابقة للكون مشبها إياها بشخصية الخنزيرة «مس بيغي» في مسرح الدمى، بسبب اكتسابها وزنا.
وردا على سؤال عما إذا كانت الحملات الرئاسية المقبلة ستكون بهذا المستوى من الانحطاط، يقول ليتشمان إن الاقتراع الرئاسي في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) سيكون حاسما. ويختم «إذا خسر ترامب بفارق كبير على الأرجح أن هذا النمط لن يتكرر.. لكن إذا فاز أو خسر بفارق ضئيل فإنه سيكون وضع نموذجا جديدا للسياسة الأميركية».
ومن جانب آخر، قال الأمير زيد بن رعد الحسين مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان أمس الأربعاء أنه إذا انتخب المرشح الجمهوري دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة فسيكون ذلك «خطرا من وجهة النظر الدولية».
وأضاف في إفادة صحافية، أوردت الوكالة الفرنسية مقتطفات منها «إذا انتخب دونالد ترامب على أساس ما قاله بالفعل - وما لم يتغير ذلك - فإنني أعتقد بما لا يدع مجالا للشك أنه سيكون خطرا من وجهة النظر الدولية».
وكان ترامب قد قال إنه سيعيد على الفور استخدام أسلوب «التعذيب بالغرق» في استجواب من يشتبه في أنهم متشددون إسلاميون إذا انتخب رئيسا.
ووقع الرئيس الأميركي باراك أوباما وهو ديمقراطي قرارا تنفيذيا بعد تولي منصبه في يناير (كانون الثاني) 2009 يحظر استخدام أساليب الاستجواب القائمة على التعذيب. ومثل هذه القرارات التنفيذية يمكن لمن سيخلف أوباما أن يتراجع عنها.
وقال الأمير زيد إنه لا يفضل التدخل في الحملات السياسية، لكن عندما تشير تصريحات مرشح إلى احتمال استخدام التعذيب المحظور بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقعت عليها واشنطن أو إلى فقدان جماعات معرضة للخطر لحقوق أساسية فإن عليه أن يرفع صوته.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟