طه عبد الرحمن: شرف الإنسانية في الإبقاء على ألبستها المعنوية

باتت معالم مشروع المفكر طه عبد الرحمن، تتضح شيئا فشيئا، خاصة بعد صدور كتابيه النقديين لمنظومة التفكير الغربية، هذه المنظومة التي تجمع في لفظة واحدة هي الحداثة، باعتبارها مفهوما يجمع مجمل نسق التصورات الذي أنجز في الغرب خلال الخمسة قرون المنصرمة. فكان عنوان الكتاب الأول «بؤس الدهرانية»، الصادر سنة 2014، والثاني «شرود ما بعد الدهرانية»، الصادر سنة 2016. ويقصد طه عبد الرحمن بلفظة الدهرانية، صفة ينعت بها نمط التفكير الحداثي، الذي يرى أنه قد بلغ مع رموزه الفكرية (روسو، كانط، دوركايم، لوك فيري) مستوى من المروق. إذ كان سعي هؤلاء حثيثا للخروج من الدين ومحاولة حشره في زوايا ضيقة. هذا المروق أدى من وجهة نظر طه عبد الرحمن إلى الشرود، أي الخروج من الأخلاق مع رموز أخرى، وهم: نيتشه، باطاي، الماركيز دو ساد، فرويد، ولاكان. وينعت طه عبد الرحمن هؤلاء الشاردين، بما بعد الدهرانيين. إذن، يقسم طه الحداثيين إلى صنفين: دهرانيون تملصوا من الدين، وما بعد دهرانيين تملصوا من الأخلاق جملة وتفصيلا.
يعبر الدهرانيون المارقون، الخارجون عن الدين المنزل، بحسب طه عبد الرحمن، عن بؤس في التصور، لأنهم بالغوا وتمادوا في إسناد الألوهية إلى الإنسان، وجعلوه مركزا، منه الأمر والقرار، ومنه الشاهد والحكم، من غير «استحياء ولا أدنى ارتياب»، بتعبير عبد الرحمن نفسه. يقول عبد الرحمن عن لفظة البؤس المختارة في العنوان، إنها مستخدمة حتى عند الدهرانيين أنفسهم في كتبهم، فنسمع عن «بؤس التاريخانية»، و«بؤس الفلسفة»، و«بؤس العالم».
ويؤكد طه عبد الرحمن، على تلازم كتاب «البؤس» وكتاب «الشرود»، لأن الأول، يناقش خروج الإنسان من الدين، وما ترتب عن ذلك من ضياع، رغم مجهودات الدهرانيين في وضع أخلاق دنيوية، أي أخلاق أرضية (مثلا أخلاق الواجب التي بلورها الفيلسوف الألماني كانط)، والتي اعتبروها قادرة على تعويض الدين، ومن ثم طرده من الشأن العام وجعله في المتحف. هذه الأخلاق اللائكية المصطنعة، يرى طه عبد الرحمن، أنها لا تفي مطلقا بالغرض الروحي، الذي لا ينفصل عنده عن الأخلاق أبدا.
أما الكتاب الثاني، فيعالج خروج الإنسان من الأخلاق، وما يتبع ذلك من أخطار. وهو ما سيصنع لنا ما بعد الدهرانيين الأشد وطأة من الدهرانيين، حيث إن بؤسهم مضاعف.
إن منطلق طه عبد الرحمن واضح، وهو أنه لا يمكن فصل الأخلاق عن الدين أبدا، إذ يقول: «الخروج عن الدين يفضي، حتما، إلى الخروج عن الأخلاق نفسها». وهذا بالضبط، مكمن الخلاف بين أطروحته والأطروحة الحداثية، الداعية إلى إمكانية أن يكون المرء أخلاقيا، من دون الحاجة إلى الدين المنزل. بل أكثر من ذلك، نجد أن التفكير الحداثي قام بأكبر عملية تفكيك وعزل للدين عن كل قطاعات الحياة. وهو ما يراه طه عبد الرحمن وبالا وضياعا للبشرية، وإسقاطا لها في المروق المؤدي إلى الشرود. ولعل الحجة الرئيسية التي يقدمها طه عبد الرحمن، لعدم إمكانية استقلال الأخلاق عن الدين، هي أن الإنسان لا يمكن أن يكون كما تدعي الحداثة، (هنا نتذكر أطروحة الفيلسوف كانط دائما)، هو المشرع وهو الحكم والشاهد على نفسه. بل يحتاج ضرورة، إلى كائن متعال عنه، تعطى له صلاحيات الشاهدية. كائن لا يمكن أن يكون إلا الله وحده بوحيه المنزل.
من تعرية الإنسان إلى كسائه
يسير طه عبد الرحمن عكس تيار الحداثة تماما. فما عليك إلى أن تقوم بجرد مبادئ الحداثة ومرتكزاتها. ثم قم بعد ذلك، بالبحث عن أضدادها. فأنت تكون قد عثرت، آنذاك، على طه عبد الرحمن. فالفصل والعزل الذي قامت به الحداثة للدين عن كل قطاعات الحياة، وأهمها قطاع الأخلاق، يريد طه عبد الرحمن أن يجعله وصلا ودمجا. فمشروعه الأساسي، هو رد اللحمة المفقودة والعودة إلى الأصل الأول للأخلاق. فالنواهي والقيم والجوانب المعنوية، درس تعلمه الإنسان منذ البداية مع الدين.
وبالعودة إلى المنظومة الحداثية، ينبغي أن نتذكر أنها تقوم على أساس منهجي، هو التحليل والتفكيك والكشف، وفضح المخفي، وإماطة اللثام عن الخفي، وذلك قصد بلوغ الجذور التي يتقوم بها الإنسان. فالحداثة تكسير وهدم ومعاول موجهة لكل الطبقات التي تكسو الإنسان وتغطيه، والمتمثلة طبعا، في الجوانب الميتافيزيقية، والقيم، والأبعاد الروحية، التي ما هي إلا زيف وكذب وخداع وجب التخلص منه. وبعد طول تقشير للكساء المغطي للإنسان، ماذا كانت النتيجة يا ترى؟ الإنسان مجرد حيوان. فهو كائن منغمس في الطبيعة ومتجذر فيها. وهنا نتذكر صرخات داروين ونيتشه وفرويد وغيرهم، ممن كان سعيهم حثيثا لإبراز أن الإنسان كائن غريزي ليس أكثر. وهذا طبعا، ضرب لكبريائه وكرامته في الصميم. إذ هو لا شيء إلا كونه حلقة متطورة من بقية الكائنات الأخرى. وهذا ما تقبله الحداثة بصدر رحب، على الرغم مما به من إهانة وجرح. لكن طه عبد الرحمن، يرفضه جملة وتفصيلا.
إن هذه الألبسة التي تغطي الإنسان، والتي سعت الحداثة إلى كشفها، يرى فيها طه عبد الرحمن ضمانا للإنسانية، التي لن تتحقق إلا بالحفاظ عليها. فهي لا ينبغي أن تكشف، بل يجب أن تظل كسترة.
إن الحداثة، وهي تعمل معاولها لهدم القشور المعنوية التي تغطي سوءة الإنسان، ترى أن في الأمر بحث عن الحقيقة. فهذه الألبسة هي أغلفة يمكن أن تستغل، بسهولة، من أجل الخداع والتدليس، وخدمة مصالح جهات على حساب جهات أخرى. إنها كالمساحيق التي يموه بها الإنسان أخاه الإنسان، الأمر الذي يستدعي عدم السكوت والعمل بجهد للتعرية والكشف، بل الهدم إن تطلب الأمر ذلك. وهنا نتذكر مرة أخرى مطرقة الفيلسوف نيتشه.
لقد قامت الحداثة بعمل جبار لكي يعيش الإنسان، من دون زيف أو تضليل، في كل القطاعات، بدءا من الطبيعة، التي تخدعنا كل يوم لأنها تبرز وجها غير حقيقي. فالشمس والأرض نشاهدهما بطريقة يكذبها العلم، فالأولى تبدو متحركة والثانية ثابتة. فإن صدقت حواسك والمعطى كما هو جاهز، فأنت لا محالة ساذج. فالأمر يسير بشكل عكسي تماما عن كل الاستنتاجات العفوية والتلقائية التي نحصل عليها. وقس على ذلك كل المنجزات العلمية. فهي تصنع صناعة بعد الكشف وإماطة اللثام عن خفيها. فالطبيعة هي أيضا مكسوة بألبسة، يرى العالم أنه لا بد من إزالتها بحثا عن الحقيقة. والأمر نفسه يقال أيضا، عن السياسة والاقتصاد والأخلاق. فهي أيضا، قضايا مغلفة بألبسة تحتاج العمل والجهد قصد كشفها، والربح الدائم كما تدعي الحداثة، هو العيش بأقل التضليل والزيف الممكنين.
يرى طه عبد الرحمن في كل هذا المنجز الحداثي العملاق، بمنهجه الكاشف، دمارا وزيغا عن جادة الصواب. إنه تشويه ومسخ للإنسانية الحقة، التي لن تتحقق إلا بالحفاظ على الألبسة والأغطية الساترة. ففيها ضمان حقيقي لسلامته، وصون له من المروق والشرود، ومن ثم الشقاء والضياع. بل صون حتى للطبيعة التي تمت استباحتها، في تملك شنيع يهدد الوجود ومستقبل الأجيال اللاحقة. وهو ما بلوره طه في كتاب سابق له، بعنوان «الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري»، حيث دافع عن أولوية النظرة الملكوتية للعالم، المرتبطة عنده بالآيات على حساب النظر الملكي المرتكز على الظاهر من الطبيعة. ولنقل إن طه عبد الرحمن، يعطي الأسبقية «للمعنى»، والمقصود بذلك، الحكمة التي وجب العمل بها. فإذا ما أخدنا «ظاهرة سقوط المطر» مثالا، فهي تصبح آية، إذا ما جرى النظر إليها من جهة ما تختزنه من معان: كمعنى الحياة، أو البعث، أو الرحمة، أو النعمة، مصداقا لقوله تعالى، في سورة الأعراف 185: «أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء». بكلمة أخرى، هناك قراءتان للعالم: قراءة الأشياء وقراءة الآيات. وإن شئنا تماشيا مع موضوع مقالنا، نقول إن عزل العلم للنظرة الملكوتية وإبعادها، كان كشفا للباس الطبيعة وتعريتها، ما كان سببا في تدمير الطبيعة وهتكها.
نخلص إلى أن الألبسة المعنوية والروحية التي تغطي سواء الطبيعة أو الإنسان، والتي تراها منظومة التفكير الحداثية زيفا ومساحيق مضللة وجب التجرد منها، هي بالنسبة لطه عبد الرحمن، شرف للإنسان، وسمو به إلى مستوى الإنسانية الحقة، التي ينبغي أن تحافظ على فطريتها ما أمكن. فما العمل إذن؟ هل نجرد الإنسان ألبسته طمعا في الحقيقة؟ أم نتركها تغطيه سترا لسوءته؟