نظرة إلى مدارج الأصوليين

كيف يفاضل وينتقل المتشدّدون بين التنظيمات الإسلاموية؟

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
TT

نظرة إلى مدارج الأصوليين

بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح
بعض النساء في تنظيم داعش شاثناء تدربهن على السلاح

مسافة كبيرة بين الدين والتديّن، هي المسافة بين السماوي المتعالي (الدين) وبين التأويل والاختيار الاجتهادي البشري والتاريخي الذي هو «التديّن». وبينما يكون مصدر الدين هو الله وأنبياؤه، يبقى نمط التدين وسلوكه اختيارًا فرديًا أو جماعيًا، يسمُه ويصبغ عليه «المتديِّن» السمة الغالبة عليه سماحة ومحبة وإيمانًا بالاختلاف والتعدد، أو تشددًا وتطرفًا تتأجج كراهية للآخرين، وإيمانا مطلقا محتكرا للحق والحقيقة معا.
لكن المسافة الفاصلة تضيق قليلا بين «المتشدد المتطرف» الفرد هنا، وبين المنتظم المستلب في جماعة أو تنظيم أصولي - أو راديكالي - تتطابق قناعاته معه، أو يقتنع بها، وينحي فيها الفرد ذاته جانبا لقبوله بالبيعة أولا، وثانيا ما يترتب عليها من السمع والطاعة للأمير والتنظيم، الذي يبقى شرط انتظامه وترقيه فيه.. وحسب درجة هذا الالتزام بالسمع والطاعة، فتكون درجة واحتمالات تصعيده الذي يشترط نفي الفردية والاستقلالية تماما.
حسب صرامة التنظيم الأصولي وأطروحاته الرئيسية، تكون درجة تسليم الشخص المتطرف أو المتشدد أو «الأصولي» نفسه وحريته وفرديته بل وحياته له، وهو ما يتعلق بأهداف التنظيم الكبرى، بين الدعوة أو الدولة، وبين تصحيح الإيمان والتوحيد ومناهج تلقي الدين والفقه نفسه، أم استعادة التاريخ والانقلاب عليه وإعادة مجد الأمة السالف في تصور هذه الجماعات.
سنحاول فيما يلي تتبع مدارج الأصوليين، كيف يختار جماعته وكيف ينتقل بين الجماعات، فانتظامه الأصولي قد يتغير من جماعة إلى جماعة أخرى، وبعد التزامه مع إحداها قد ينتقل لغيرها، أكثر منها تشددا أو أكثر اعتدالا حسب توجهاته وحسبما يلاحظه هو أثناء تجربته هو ويميل إليه. بل قد يتحرّر كليًا من الأصولية أو قد يطلق كل أنماط وأنساق التدين متحللا من كل معيار ومرجعية قبلية، انتقاما لا شعوريا أو شعوريا من تجربته السابقة، ولكن هذا هو النادر، ويبقى الانتقال بين الأصوليات وتنظيماتها هو الغالب في مدارج الأصوليين.

البدايات بين «التبليغ» و«الإخوان»
أولاً، غالبًا ما تكون البدايات الأصولية، في القرى والمدن، عبر جماعات دعوية، تركز على الدعوة والهداية أو تعليم الناس أمر دينهم حسب نسقها وتصوراتها الدينية. وتأتي في مقدمة هذه الجماعات «الدعوة والتبليغ» التي بدأ نشاطها عربيًا عام 1950 وأسست في الهند سنة 1916 م، والتي لا تعلن استهدافها الدولة ولا تؤمن بالصدام معها، بل تعمل على تديين أو هداية الناس حسب تعبيراتهم، فتملأ أبنيتهم المعنوية والروحية بخطاب متأجج روحيا نحو فكرة الدعوة وهداية الناس وإصلاح المجتمع، وأن ماضيهم وبعدهم عن المساجد هو الأصل لكل البلايا التي يمر بها المسلمون.
وكانت جماعة «التبليغ والدعوة» البداية والمرحلة الأولى لعدد من قيادات الجماعات الأصولية، مثل أسامة بن لادن زعيم «القاعدة» وعبود الزمر وعبد الحكيم عابدين من القيادات الراديكالية التاريخية المصرية، بل وحتى راشد الغنوشي زعيم «حركة النهضة» في تونس، وكذلك كثير من المقاتلين الأجانب والغربيين حيث تنشط هذه الجماعة الدعوية وتتحرك بحرية في كثير من البلاد الغربية مثل بول ووكر و«مفجر الحذاء» بل وآدم غادان المتحدث باسم «القاعدة» الآن.
وتعمل «التبليغ» على غير المجهزين آيديولوجيًا في الغالب، وتجهزهم بعاطفة مؤجّجة من الرغبة في العمل وتغيير العالم، عبر الخروج معها وفق مدد محدّدة، من ثلاثة أيام في الشهر إلى أربعين يوما في العام وأربعة أشهر في العمر. وهي تساوي بين الخروج الدعوي معها وبين «الجهاد» في سبيل الله، ولذا ينتقدون بأنهم «قاديانية الجهاد» أي يلغون «الجهاد» مثل القاديانية.
والسائد أن المنتمي لجماعة «التبليغ»، إن اندمج مع المجتمع وأسئلته السياسية والوطنية والإقليمية، لن يجد في جماعته إجابة. إذ إن من مبادئها تجنب الحديث عما تسميه «أمراض الأمة» مما يجعل المنتمي الفارغ من الإجابة على أسئلة وانتقادات الآخرين أيضًا يغادرها.. ربما إلى «الإسلام السياسي الصندوقي»، أو للجماعات الراديكالية والأكثر صلابة منها وفعلا، أو يغادرها للاتجاه المتشدد الذي يركز قطاع منها على بدعيتها وجهل عناصرها، طالبا للعلم معه.
وهكذا تبقى جماعة «التبليغ والدعوة» المحطة الأولى والتمهيدية لكثير من الأصوليين، ومرحلة يبدأ معها صعود مدارج التطور الأصولي، وهي تأتي بالعنصر لكنها تشحنه عاطفيا وتفرغه فكريا. حيث إنها جماعة بلا أدبيات جدلية قوية، ومتهمة من جوانب متعددة فقهيا وعقديا وتاريخيا، ولها أصول صوفية ديوبندية وجشتية معروفة، يجهلها كثرة من أفرادها العرب ويعرفها خصومهم من التنظيمات الأخرى. ولكن البدايات الأصولية في المدارس والجامعات والمؤسسات والنقابات كانت نحو الإسلام السياسي، الذي سعى لإيجاد بديل للدولة في كل شيء، بدءا من أنشطة الرياضة والترفيه للعمل الخدمي والاجتماعي حتى البرلمان والحكومة. وهو ما يجذب الطفل والمراهق بدرجة ما وتتم قولبته وتجنيده أو نظمه خطوة خطوة عبر المعسكرات والنشاطات والحفلات والجوائز، ومعها بعض الكتيبات الصغيرة التي تستنفر عاطفته ضد الأنظمة والدول، أو تثير وتنحي ولاءه نحو الجماعة عبر كتيبات عن تاريخ مظلوميتها وطموحاتها وانتشارها.
ويتميز الخطاب «الإخواني» بميزات خاصة، مع أنه يركّز على المتدين الجاهز بالأساس، ولا تعنيه هداية غير المتدينين بالأساس. إنه خطاب عقلانوي يستخدم العقل والنقل والشعار وتراثا من المظلومية التاريخية يروجه حسب تصوره، ويستطيع أن يجذب به المتدين، ويبدو ملتحما بالواقع ممتلكا حلولا كلية له فيلتحم بالسياسي الوطني والإقليمي والدولي، ويستثمر جيدا في التاريخ. كما أنه يُشعر المنتمي إليه بالبديل، بل يضعه في شبه «الغيتو» الذي يتصور المنتمي الجديد إليه أنه يستكفي به عن المجتمع ككل، ويشعر به جماعة اجتماعية قوية تحل محل البنى التقليدية والعشائرية الاجتماعية، فيبرز عبرها كرمز اجتماعي ومرشح انتخابي. ومن ثم يدخل في جدل مع الديني في المسجد ومع الحزبي في الشارع، ما يشعر العضو الأصولي الملتزم والمنتظم، ويظل الأمر كذلك وغالبا ما تكون الانشقاقات أو الخروج عن التنظيم الإخواني مغادرة كلية للإسلام السياسي وانقلابا على طرحه. وفي هذا نذكر خروجات شخصيات كثيرة عن التنظيم «الإخواني» نتيجة التطور الفكري شأن أحمد حسن الباقوري ومحمد الغزالي وأبو شقة و«الإخوان الجدد»، أو رفضا للجماعة الإخوانية واختلافا تنظيميا معها كخلافات الصقور والحمائم، أو تطورا فكريا فرديا أو فرعيا يتجاوزها شأن انشقاق الراحل حسن الترابي وجماعته عنها.
ونادرا ما يكون التحول لجماعة راديكالية أخرى كالجماعات الراديكالية العنيفة أو ما شابه، مثل تحوّل عبد الله عزام أو أسامة بن لادن في فترة تالية، أو مؤسس «جيش المجاهدين العراقي» أبو عبد الله المنصور وتلميذه أبو بكر البغدادي، أمير داعش فيما بعد، أو قبلهم شكري مصطفى وجماعة «التكفير والهجرة» التي خرجت من باطن «الإخوان»، أو «التبليغ والدعوة» الأقل عنفا وتسييسا، وهو ما حدث مرة واحدة مع إبراهيم عزت أحد قياداتها في مصر وخطيب مسجد أنس بن مالك المشهور في الثمانينات، الذي كان مؤمنا بأولوية الدعوة على السياسة والأمة على السلطة حينها، ومن مسجده هذا كانت البذور الأصولية الأولى لكثير من قيادات الجهاد والجماعة الإسلامية، الذين استمروا يتخذون التبليغ ستارا حينها رغم تحولهم عن إطاره الفضفاض.
بل إننا نرى أن المتحولين من الفكر «الإخواني» للفكر والتنظيمات العنفية والراديكالية كانوا في الغالب مهمشين داخل التنظيم «الإخواني»، واختلطت عليهم معارف ومدارك تنتقد توجهاته في التركيز على السلطة وعدم الاهتمام بالعلوم الشرعية، والمواءمة والتقية والمداراة وما شابه من سلوكيات الميكافيلية. وكان توجههم رهينا بلحظات وسياقات محددة كالجهاد الأفغاني أواخر السبعينات أو الصراع العربي الفلسطيني والأزمة السورية وما شابه من سياقات.
في المقابل، تنشط الدعوات المتشددة التي تزعم السير على خطى السلف الصالح عبر شخصيات واتجاهات مختلفة، في مناطق محددة، وتركز على التعليم الديني. وغالبا ما يكون تركيزها على تعليم وتدريس القرآن والحديث وبعض كتب التوحيد وعلومه لطلبتها. وهي لا تدعوهم لتنظيم ويستمر بعضهم في الالتزام بالسنة، شكلا واعتقادا، وتبديع ما يتعلم تبديعه، إلا أنها ليست تنظيما، ومن يستمر في الترقي فيها قد يظل بعيدا عن الجماعات الأخرى إلا في لحظات معينة يمكن أن يصيبه داء التسييس ودعاوى الإسلام السياسي كما حدث مع دعاة كثيرين بعد ثورة 2011 في مصر وفي فترة حكم الإخوان بين يونيو (حزيران) 2012 ويونيو 2013 حيث خرج بعضهم عن الاتجاه المتشدد متماهيا تماما مع الطرح الإخواني، مثل الداعية محمد عبد المقصود من القاهرة وسعيد عبد العظيم في الإسكندرية، والتيار الذي عرف بـ«حزب الوطن» ومال بتشدده الديني نحو التشدد السياسي ثم القتالي فيما بعد، قبل تلاشي أخباره. ولكن يظل الاتجاه المتشدد الغالب ضد التكفير وضد الخروج، ومؤمنا بفكرة الدولة ودرء الفتنة - ولو بالتغلب - التاريخية. ولكن لكونه فضفاضًا، وليس منظما بشكل صارم شأن التنظيم «الإخواني»، قد ينزلق بعض المنتمين إليه هنا أو هناك لفكرة التغيير العنيف أو الخروج المسلح منتظما مع الجماعات الراديكالية ولكنه في هذا الحالة ينفصل عن إطار تعليم التوحيد وعلوم الشرع الغالبة عليه.

من السياسة إلى العنف
ثانيًا، غالبًا ينطلق التدرج والانتقال إلى الأصوليات العنيفة من أصل الإيمان بقضية الإسلام السياسي في الحاكمية أو استعادة دولة الخلافة وإقامتها والسبيل نحو ذلك، ورفض تجاهل بعض التيارات لها مثل التبليغ، أو ما يرونه من مواءمة ومراوغة «إخوانية» عبر تحقيقها عبر الطرق الشرعية. ويكون التحول نحو الراديكالية القتالية إن لم يكن مباشرا عبر الدعوة والتجنيد الفردي للعنصر الأصولي في تنظيم آخر عبر ثلاث مقولات رئيسة:
1 - توظيف مقولات الولاء والبراء والقول بتوحيد الحاكمية.
2 - التركيز على سؤال ما العمل وتكفير الأنظمة والمجتمعات والدعوة للخروج عليها.
3 - إعادة أيقنة القتال والعنف كسبيل وحيد لتغيير الأنظمة وخصوصا تجاه الأنظمة التي توصف في أدبياته بالمرتدة.
ويمتلك الراديكاليون في سبيل البقاء على ذلك، رغم اختلافهم، تراثا ضخما من تشويه كل آخريهم سواء من الجماعات الأصولية الأخرى أو المؤسسات والشخصيات الدينية الأخرى، وتستلب الجماعة كلية من إمكانية استرداد فرديته وبالتالي سماحيته تجاه أي آخر.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟