خطط الإخوان المسلمين لاختراق الأحزاب المصرية

مصادر لـ {الشرق الأوسط}: نحذر من تكرار تجربة 2005 في برلمان 2014

ملصقات من الحملة الانتخابية لمجلس الشعب المصري 2010 (أ.ف.ب)
ملصقات من الحملة الانتخابية لمجلس الشعب المصري 2010 (أ.ف.ب)
TT

خطط الإخوان المسلمين لاختراق الأحزاب المصرية

ملصقات من الحملة الانتخابية لمجلس الشعب المصري 2010 (أ.ف.ب)
ملصقات من الحملة الانتخابية لمجلس الشعب المصري 2010 (أ.ف.ب)

كشفت مصادر لـ«الشرق الأوسط» عن وجود محاولات حثيثة من قبل جماعة الإخوان لاختراق بعض الأحزاب المصرية وشرائها بالمال والإنفاق عليها ببذخ مقابل ضمان تحقيق خطة الوجود في الحياة السياسية والمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة. بل وأكد محللون لـ«الشرق الأوسط» أن الإخوان أو المتأخونين ــ على حد وصفهم - سيحتلون في البرلمان المصري المقبل ما يقرب من 20 في المائة من مقاعده. وذهب بعضهم إلى أن برلمان 2014 سيكون نسخة من برلمان 2005 الذي احتل فيه الإخوان 88 مقعدا؛ حيث سيزج بأسماء غير معروفة والإنفاق عليها ببذخ كواجهة للتستر وراءها.
وحذر مراقبون من خطورة تأثير المال السياسي على المشهد الانتخابي المصري، مشيرين إلى أن أحزابا تنتمي لليسار الجديد والليبرالي القديم هي الأكثر عرضة لهذه الاختراقات.

منذ فض اعتصامات رابعة والنهضة وسقوط نظام الإخوان بعزل الرئيس السابق مرسي في يوليو (تموز) من العام الماضي لم تهدأ محاولات الإخوان في فرض وجودهم على المشهد السياسي المصري ومقاومة حصارهم سياسيا وأمنيا، خاصة بعد اعتبارهم جماعة محظورة، ليدخل الإخوان مرحلة جديدة من العمل الخفي لاختراق بعض الأحزاب والتأثير على قراراتها من خلال أشخاص غير معروفين أو من خلال توجيه مباشر بالمال وهو ما تعرضت له بعض الأحزاب الكبيرة والصغيرة على حد سواء.
ففي حزب المؤتمر الذي أسسه عمرو موسى مرشح الرئاسة السابق، جرى اكتشاف محاولات اختراق إخوانية بهدف الوجود والتأثير على الحزب، وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» اعترف حسام الدين علي المتحدث الإعلامي باسم حزب المؤتمر بتعرض الحزب لمحاولات اختراق. وقال: «لقد اكتشفنا عملية الاختراق من نحو 200 عضو في محافظة الشرقية بدلتا مصر ورفضنا ضمهم بعد أن عرفنا ذلك من اجتماعات تسربت لنا. كما أن لدينا معلومات بأن الإخوان سيقدمون بعض المرشحين من الشخصيات غير المعروفة والأغنياء جدا ليكونوا على رؤوس قوائم بعض الأحزاب المدنية وذلك في مقابل التبرع بالأموال لدعم حملات بعض الأعضاء والشباب في هذه الأحزاب يعني بجانب كل مرشح في الانتخابات من هؤلاء يجري الإنفاق على خمسة مرشحين آخرين وهي أسماء لأحزاب معروفة لكنني لا أستطيع ذكرها في هذا المجال إنما أستطيع وصفهم بأنهم من اليسار الجديد والليبرالي القديم».
وأضاف حسام الدين علي مؤكدا أنه لو نفذ الموضوع بهذا الشكل تكون هناك خيانة كبيرة. وقال: «أنا أحذر هذه الأحزاب من الاستمرار في المتاجرة بالمقعد لمصالح حزبية على حساب الوطن. وإن كنت لا أتوقع سوى تأثير محدود ونسبة محدودة جدا لوصول الموالين للإخوان للبرلمان».
وردا على اختراق الإخوان لأحزاب اليسار، قال الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»: «بالفعل كانت هناك محاولات إخوانية لاختراق الأحزاب المصرية عبر تاريخهم وقد كشفت وثائق الكونغرس الأميركي وتقارير ما يسمى اللجنة الفرعية الخامسة (sub committee 5) وتقارير (سي آي إيه) أن حسن البنا أرسل أشخاصا ليقوموا بأعمال استطلاع واستكشاف للأحزاب المعادية لأميركا والموالية للاتحاد السوفياتي للتعرف على ما يحدث. وقديما لعب الإخوان دورا كبيرا على حزب مصر الفتاة فحولوه للحزب الوطني الإسلامي ثم عاد حزب مصر الفتاة مرة أخرى قبل أن يصبح اسمه الحزب الاشتراكي». وكشف السعيد عن محاولات الإخوان لاختراق حزب الوفد عدة مرات، منها فترة حكم مصطفى النحاس خلال القرن الماضي لدرجة أن مصطفى النحاس أنشأ جريدة «صوت الأمة» خصيصا لمحاربة حسن البنا الذي كان يرد عليه بمعلومات عن أشخاص من داخل حزب الوفد نفسه! بينما كانت «صوت الأمة» الوفدية تكشف استقالات الأعضاء من الجماعة ويقولون إنها تهوي وأطلقوا على حسن البنا وقتها اسم «حسن راسبوتين». وحديثا في عام 1984 نجح الإخوان في اختراق حزب الوفد مرة ثانية.
والأغرب من ذلك أن الإخوان نجحوا في اختراق هيئة التحرير المعبرة عن ثورة يوليو 1952 والاتحاد القومي الاشتراكي في عهد جمال عبد الناصر.
وأضاف السعيد أن «الإخوان تحالفوا مع حزب العمل في عهد القيادي إبراهيم شكري وسيطروا عليه تقريبا، وهو ما أدى إلى خروج عدد كبير من الحزب منهم ناجي الشهابي وممدوح قناوي عندما شعروا بإصبع الإخوان يلعب بقوة على حزب العمل والنتيجة الآن أن حزب العمل مع رئيسه مجدي حسين أصبح من قيادات ما يسمى تحالف دعم الشرعية الموالي للإخوان».
وأكد رفعت السعيد أن محاولات الإخوان في الاختراق تجاوزت الأحزاب ووصلت إلى الحركات الشبابية. وقال: «إن الإخوان اخترقوا حركة 6 أبريل وبعض الشباب المتطرفين ممن يطلقون على أنفسهم الاشتراكيين الثوريين وهم ليسوا ثوريين ولا اشتراكيين. ولا زالت محاولات الاختراق مستمرة للأحزاب المصرية. كما سيظهر نواب إخوان أو متأخونون في البرلمان من خلال خلايا نائمة ومرتزقة للأموال التي ستدفع لهم دون خوف أو رادع في ظل عدم وجود عقوبة دستورية خاصة بهذا الأمر. وأتوقع أن يظهر الإخوان في الانتخابات من خلال الخلايا النائمة والمتأخونين ويساعد على ذلك التمويل الأجنبي من عدة أماكن منها طهران وقطر وأميركا وتركيا والاتحاد الأوروبي».
وعن تجربته الخاصة مع اختراقات الإخوان كأحد شهود العيان على واقعة اختراق شهيرة لحزب العمل أكد ممدوح قناوي رئيس الحزب الدستوري الحر لـ«الشرق الأوسط» أن «الإخوان كانت لهم محاولات متكررة وإن كان حزبي الحالي لم يتعرض لها إلا أن لي تجربة سلبية معهم عندما كنت في حزب العمل حيث اتخذت موقفا صارما من محاولات اختراقهم للحزب وسيطرتهم عليه وهو موقف كلفني ثمنا باهظا وكنت أول من دق جرس الإنذار ضد محاولات الإخوان للاستيلاء على حزب العمل وقلت وقتها في مؤتمر عالمي إنهم يحاولون السيطرة على البلاد والعباد ففصلت من الحزب بعد أن كنت نائب رئيس الحزب ومفكره وفقدت مقعدي بمجلس الشعب بسبب رفضي خوض الانتخابات على قوائم التحالف الإسلامي مع حزب العمل ومع ذلك فأنا أعتز بموقفي رغم خسارتي. وضاع حزب العمل بين سنابك الإخوان. ورغم ذلك فعندما وجدت الإخوان ينغمسون في السياسة وقفت بجانبهم على أمل فتح صفحة جديدة وذلك في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة لكنهم للأسف لم يعملوا بإخلاص».
وعن الوضع الحالي بعد سقوط مرسي قال قناوي لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد للإخوان أي حراك وليتهم يحاولون الاتجاه للعمل السياسي خاصة أن الأموال تنهال عليهم بلا حصر ولكنهم للأسف لم يفعلوا واتجهوا لتسخير هذه الأموال للقتل والتخريب.. لذلك فالإخوان ميتون، وكذلك الأحزاب المصرية ميتة. أقول ذلك وأنا رئيس حزب وهناك حالة فراغ سياسي هائلة لدرجة أنني أفكر في اعتزال السياسة لشعوري بعدم جدوى الاستمرار. وهو الفراغ الذي جعل الجيش يتصدى للأمر يوم 30 يونيو (حزيران). ومن يعمل الآن طبقة ضعيفة جدا من أصحاب المال الذين قد يحاولون فرض واقع في البرلمان وغالبا سيكونون من أتباع الحزب الوطني المنحل الذي يسعى بكل جهده للعودة تحت ستار أسماء متعددة».
الكاتب الصحافي وحيد رأفت رصد تاريخ الإخوان في عمليات اختراق الأحزاب منذ بدايتها، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن حسن البنا غرس في أتباعه أنهم في مهمة دينية وإن أخذت شكلا سياسيا، وترشح قبل ثورة 23 يوليو للبرلمان مرتين ولم ينجح لوجود الوفد كحزب شعبي وأحزاب الأقلية المدعومة من الملك والإنجليز، فحاول اختراق الحزب الشيوعي، وجمعية مصر الفتاة عن طريق الخلايا النائمة.. وكان حسن البنا وجماعته يدعمون علي ماهر والملك فاروق لضرب شعبية حزب الوفد. وكثيرا ما هاجم مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد حسن البنا، والمدهش أن حسن البنا كتب رسالة إلى الملك فاروق والنحاس باشا بعد معاهدة 1936 يقول فيها إن أولى خطوات الإصلاح القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة وجهة واحدة، بل إنه هاجم زعماء أحزاب الوفد والأحرار والشعب والاتحاد، كما هاجمت مجلة «النذير» الأسبوعية الإخوانية التي صدرت عام 1938 بشراسة الحزبية وطالبت بإلغاء الأحزاب. وبعد ثورة يوليو تحالفوا مع الضباط الأحرار في البداية وحاولوا اختراق الثورة لولا عنف عبد الناصر في مواجهتهم وإيداعهم السجون بعد محاولة اغتياله في المنشية عندما فشلوا في السيطرة على الحكم.. وفي عهد السادات كان الإخوان في تناقض بين العلني والسري في سلوك الجماعة فهم تنظيم محظور قانونا مسموح به عرفا طبقا لما قاله السادات لعمر التلمساني.. وخلال حكم مبارك تحالفوا مع الوفد أيام رئاسة فؤاد سراج الدين للحزب، وكان تحالفهم في انتخابات الثمانينات عندما كان القانون المصري يمنع ترشيح المستقلين آنذاك، وكانت الانتخابات تجري عبر «القائمة الحزبية»، وحينما عدل القانون في عام 1987، كانت الفرصة ذهبية بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين وسرعان ما استغل الأعضاء قانون «الائتلاف بين الأحزاب» وانضموا لحزب الوفد رغم اختلافهم الآيديولوجي، واحتلوا مقاعد في مجلس الشعب، وعندما اختلفوا مع الوفد بسبب صراع الإخواني صلاح أبو إسماعيل مع الوفدي ممتاز نصار على رئاسة زعامة المعارضة وهجوم أبو إسماعيل على الوفد في أثناء زيارته لإخوان السودان انفصل الإخوان عن الوفد واتجهوا للسيطرة على حزب العمل الذي كان يرأسه إبراهيم شكري.
وقال وحيد رأفت: «أذكر أن عادل حسين الصحافي اليساري المتأسلم ومعه الصحافي الإخواني محمد عبد القدوس ومجموعة من صحافيي تيار الإخوان، عقدوا جلسة للتصويت بين محرري جريدة (الشعب) - الناطقة باسم حزب العمل - على تحويل الجريدة إلى جريدة إخوانية أو جريدة اشتراكية، وقد حضر الجلسة حامد زيدان رئيس تحرير الجريدة ومؤسسها والمعروف بانتمائه الاشتراكي ومعه إبراهيم شكري رئيس الحزب، وفوجئ الصحافيون الاشتراكيون أن التصويت جاء لصالح صحافيي الإخوان وأصبح الصحافيون الاشتراكيون أقلية في الجريدة، فقدم حامد زيدان استقالته من رئاسة التحرير ومعه زملاؤه الاشتراكيون وحاول إبراهيم شكري إثناءهم عنها، لكن عادل حسين تولى رئاسة التحرير بالتصويت أيضا، ولم يستطع حامد زيدان كتابة حرف بعد ذلك في الجريدة التي أسسها، لأنها تحولت إلى صوت للإخوان، فكانت صوتا للتنظيم الإخواني في السودان وناصرت صدام حسين بعد غزوه للكويت عندما ناصره الإخوان، وكتب فيها الهضيبي مرشد الإخوان رسالته الأسبوعية».
وأضاف رأفت أن الإخوان اخترقوا أيضا حزب الأحرار بالسيطرة على جريدة «آفاق عربية» لصالح الجماعة، حيث أخذت الصحيفة في متابعة أخبار الإخوان والحديث عن قضاياهم ومشكلاتهم، حتى جرت مصادرتها ومنعها، ثم حدثت مشكلات كثيرة لحزب الأحرار، وتصارع أعضاؤه على رئاسته، ووجدت الجماعة ضالتها في «مجلة الزهور» لصاحبها الإخواني صلاح عبد المقصود الذي أصبح فيما بعد وزيرا للإعلام في عام حكم مرسي!
وكانوا يصطدمون مع الحزب الوطني في العلن وينسقون مع قياداته في السر فلم يرشحوا أحدا منهم في الدوائر المرشح فيها كمال الشاذلي أو أحمد عز أو فتحي سرور! بل كانوا في مكتب وزير الري في حكومة نظيف من خلال هشام قنديل الذي ظل يعمل لسنوات مديرا لمكتب الوزير محمود أبو زيد، وفوجئ الجميع أنه خلية نائمة.
وما حدث قبل أحداث 25 يناير (كانون الثاني) واختراقهم الأحزاب ورفضهم تشكيل حزب علني يعبر عنهم، كان وراءه الصراع بين الظاهر والباطن الإخواني ورفضهم حل الجماعة والاكتفاء بالحزب السياسي، خوفا من حل الحزب فيما بعد، فيكون حلهم الجماعة بأيديهم وحل الحزب بأيدي غيرهم خطيئة لا تغتفر!! وبعد الثورة وخلال حكم الإخوان كان حزب الوسط من أكثر الأحزاب المصرية تأثرا بالاختراق الإخواني فذاب في جماعة الإخوان وذاب معهم أبو العلا ماضي وعصام سلطان. وقد أكد وحيد رأفت أن «الجماعة سوف تستخدم قياداتها الشبابية غير المعروفة إعلاميا، لخوض الانتخابات على أن يجري دعمهم سرا كما فعلوا مع جماعة 6 أبريل عندما دخلها مصطفى النجار وكان من شباب الإخوان لاختراقها!!».
والمتوقع منهم خلال الفترة المقبلة بعد حل حزب الحرية والعدالة قضائيا، تكرار محاولات التسلل إلى الأحزاب من أجل السيطرة على الانتخابات البرلمانية والمحليات، مثل حزب غد (أيمن نور) الذي يستميت في الدفاع عنهم وهرب خارج مصر بعد سقوطهم وثورة الشعب عليهم، وأيضا من الأحزاب المرشحة لاختراق الإخوان حزب مصر القوية الذي يسميه الشارع السياسي حزب «الإخوان بشرطة» لصاحبه أبو الفتوح وحزب الوسط، وحزب الدستور، وكان البرادعي مؤسسه متعاطفا مع معتصمي رابعة واستقال من منصبه بعد فض الاعتصام، وسبق أن صرح بأن «من حق الإخوان إنشاء حزب سياسي» وهو ما دعا ألفا من شباب الإخوان للانضمام فعليا لحزب الدستور، فتقدم العشرات من أعضاء الحزب للاحتجاج على إصرار رئيس الحزب على ضم الإخوان.
وردا على دعاوى اختراق الإخوان لحزب الدستور، أكد خالد داود المتحدث الإعلامي للحزب لـ«الشرق الأوسط» أن هذا الأمر بعيد تماما عن الحقيقة وأن حزب الدستور له خط واضح وفكر مختلف تماما عن نهج الإخوان من البداية، وأن الممارسة العملية على أرض الواقع «كفيلة بدرء أي محاولة لاختراقنا من جانب الإخوان، وكان ذلك واضحا منذ قيام الدكتور محمد البرادعي بتأسيس الحزب وهو نفسه الذي ساهم في تشكيل الجماعة الوطنية لجبهة الإنقاذ والتي تبنت مواقف صارمة أثناء حكم مرسي وكانت على خلاف شديد مع الإخوان». وقال داود إن الحزب شارك في الدعوة لإسقاط الرئيس محمد مرسي وهو ما يجعل استحالة وجود أي علاقة أو حتى تنسيق في المواقف الحالية من بعض القضايا وأي موقف يتبناه حزب الدستور سواء بالدعوة إلى تأييد مرشح مدني أو بالدفاع عن حقوق الإنسان إنما يأتي في إطار دفاعنا عن سيادة القانون واحترام الحريات السياسية وهو لا يعني تنسيقا ناتجا عن اختراق الإخوان».
من جانب آخر، كشف أحمد بان المتخصص في الجماعات الإسلامية وأحد القيادات الإخوانية المنشقة لـ«الشرق الأوسط» أن خيرت الشاطر هو مهندس الاختراقات في العصر الحديث؛ حيث كان يرى أن جماعة الإخوان لا بد وأن تكون لها أذرع في كل الساحات وبين كل اللاعبين السياسيين في مصر. وقال إنه كان حريصا من هذا المنطلق على اختراق الأحزاب السياسية والقوى السياسية والحركات الاجتماعية لكي يمتلك أدوات تمكن الإخوان من السيطرة على المشهد السياسي في مصر وهو يقوم بذلك متأثرا بتكوينه السياسي الذي بدأه بعضوية التنظيم الطليعي اليساري حيث كان معلمه عبد الغفار شكر فاكتسب خلال ذلك مهارات العمل السياسي السري الذي يتسم به اليسار المصري بجانب مهارة العمل السري لجماعة الإخوان ومن ثم مارس الأسلوبين معا ضد القوى السياسية المختلفة ونجح في اختراق جماعة 6 أبريل وخلق جناحا إسلاميا داخلها ليستغله كإحدى أدوات التثوير في الشارع المصري بتحريك عناصر داخلها. وقديما كانت محاولة السيطرة على حزب العمل في الثمانينات من القرن الماضي من أخطر محاولات الاختراق وهي المحاولة التي قام بها الإخوان بعد عودتهم للحياة السياسية والتي دفعت مجموعة من حزب العمل للانشقاق عنه فظهرت جبهات منشقة مثل جبهة أحمد مجاهد وإبراهيم شكري.
وشرح بان كيفية حدوث الاختراق بطرق عديدة أشهرها السيطرة بالمال. وقال: «إن هناك أحزابا مصرية جرى شراؤها بالمال للتأثير على قراراتها. وكانت هناك محاولة منهم للسيطرة على الحزب الديمقراطي الذي يترأسه الدكتور محمد أبو الغار لكنها كانت محاولة فاشلة. وكذلك كانت هناك محاولة لاختراق حزب مصر القوية الذي أسسه عبد المنعم أبو الفتوح، فجماعة الإخوان أرادت أن تخترق حزبه الجديد فدفعت ببعض العناصر الإخوانية للتماهي داخل المجموعة التي التفت حول أبو الفتوح وكونت الحزب. وقد شكا لي عدد من قيادات الحزب من تحدي العناصر الإخوانية وعملهم على الحيلولة دون اتخاذ الحزب مواقف قوية ضد الإخوان وأظن أن المعركة الداخلية لحزب مصر القوية قبل أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة كانت محاولة تخليص الحزب من الإخوان ولكن بعد أحداث رابعة وقع عدد كبير من هذه العناصر في الحرج الأخلاقي لإعلان هويتها لتتبدل البروفايلات على (فيسبوك) بعد ذلك وتتحول إلى شعار رابعة، إلا أن البعض كان حريصا على ألا يبرز هذه الهوية فخرجت مجموعة أخرى من الحزب على آثار هذا الموقف وبقيت العناصر المكلفة من قبل خيرت الشاطر بالبقاء حسب الحاجة وتماهت مع الخطاب الإخواني وبدا الحزب في درجة من درجات التندر على مواقفه السياسية حتى إنهم صاروا يتندرون عليه ويصفون الطقس عندما يكون خليطا بين الحر والبرد بأنه (أبوالفتوح) نتيجة الخلطة السرية لحزبه وحالة العبء على قرار وإرادة حزب مصر القوية».
وأضاف بان أن حزب الوسط أيضا من الأحزاب التي اخترقها الإخوان بالكامل. وقال: «كنت رصدت خلال لقاء مصغر مع أبو العلا ماضي وعصام سلطان في نقاش حول قضية اقتصادية في حضور محمد محسوب الذي كان وزيرا ينتقد أداء الحكومة وكان ينوي الاستقالة وينتقد الإخوان أيضا ولكن يبدو أن سيف التمويل هو الذي أثر فكان المفتاح السحري الذي استخدمه الشاطر للسيطرة على حزب الوسط لذلك نجد رموزه يمثلون الآن شكلا من أشكال الدعاية للتحريض ضد الدولة».
وعن تأثير ذلك على الاستحقاقات السياسية المقبلة قال بان: «إنني أتصور أن امتناع أبو الفتوح عن ترشيح نفسه له علاقة بترتيبات مع جماعة الإخوان. وأتوقع أن يستطيع الإخوان اختراق مجلس الشعب ويستولوا على 20 في المائة من المقاعد وربما يلعب المال السياسي دوره الأكبر في هذه الانتخابات فنجد أنفسنا أمام برلمان أشبه ببرلمان 2005 الذي حظي فيه الإخوان بـ88 مقعدا من المقاعد».
من ناحيته، قال الدكتور جمال زهران أستاذ العلوم السياسية والنائب البرلماني السابق لـ«الشرق الأوسط»: «أنا أفرق بين اختراق جماعة الإخوان للأحزاب السياسية بشكل مباشر عن طريق ممثلين لها أو أنصار يتكلمون باسمها وبين الاختراق غير المباشر عن طريق التحالف لفرض أجندة. وللأسف الشديد هناك عدد من الأحزاب المصرية التي تساند أجندة الإخوان ممن يرون ضرورة استمرار وجود الإخوان على الساحة السياسية ولا يعتبرونها جماعة إرهابية ويقولون إن العنف الذي يمارسه بعض أعضائها هو عنف شخصي». وأكد زهران أن هناك حالة غزل بين تلك الكيانات السياسية والأحزاب وجماعة الإخوان على خلفية أجندة أميركية ويعتبر هذا الأسلوب من الاختراق الإخواني هو الأكثر شيوعا من الاختراق المباشر.
وأضاف أن «هناك على الساحة السياسية المصرية أحزابا لها علاقة بالخارج فتتلقى التمويل الخارجي والمساعدات أو من خلال الأشخاص الكبار في تلك الأحزاب المرتبطين بمصادر تمويل أجنبي عن طريق جماعات المجتمع المدني.. ولو وضعنا معيارا لهذا الاختراق لوجدنا أن هناك تشابها في الأجندة من حيث رفض تدخل الجيش في السياسة فيما يسمونه (يسقط حكم العسكر) والدعوة لتزكية مرشح مدني، رغم أن أي عسكري من حقه الترشح طالما خلع بدلته العسكرية. وحين نتكلم على هذا النحو نجد أن هناك عددا من الأحزاب قد اخترقت بهذه الأجندة منها حزب الدستور مع العلم أن كل الأحزاب المصرية ليس لها نقاء فكري وغير قادرة على حسم الخيارات وأغلبها يتاجر في الثورة وفي مقدمتها حزب الدستور وهو ما يعكس التواصل عن طريق الجماعة أو الممولين من خارج مصر بما فيها الدول والأجهزة المخابراتية».
وأشار زهران إلى حزب مصر الديمقراطي الذي يرأسه الدكتور محمد أبو الغار.. قائلا إنه: «على الرغم من كونه رجلا محترما فإن حزبه يتعرض لمحاولات اختراق. والمال السياسي يسيطر على الأمور ويلعب دورا خطيرا منذ 11 فبراير (شباط) وحتى الآن بما في ذلك أموال السلفيين والإخوان».
كما أشار إلى حزب مصر الحرية الذي يرأسه الدكتور عمرو حمزاوي وإلى أنه ينتهج نفس الأجندة، مضيفا أنه «حزب ليس له هيكل..» وأضاف: «نجد أن هناك ترابطا بين مواقف هذه الأحزاب والتصريحات الأميركية. كما أن حزب الوفد كانت له جمعيات ممولة من الخارج، وقد فتح النائب عبد العليم داود هذا الملف وفصل من الحزب لهذا الأمر وكذلك كل الأحزاب السلفية والإخوان ممولة من دول خارجية وإقليمية.. ويؤسفني القول إنه يتردد أيضا أن أجندة حمدين صباحي أيضا تحمل غزلا للإخوان خاصة مع عدم اعتبارهم إرهابيين وأنا أطالب بمزيد من الشفافية في تمويل حملته وتمويل كل الأحزاب المصرية لأننا دخلنا في دوامة تلقي بظلالها على العملية السياسية في مصر».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.