أرسطو.. الفيلسوف الذي أبدع في صياغة الإشكاليات العلمية

محاولة الخروج من قبضته كلفت البشرية عشرين قرنًا

أرسطو.. الفيلسوف الذي أبدع في صياغة الإشكاليات العلمية
TT

أرسطو.. الفيلسوف الذي أبدع في صياغة الإشكاليات العلمية

أرسطو.. الفيلسوف الذي أبدع في صياغة الإشكاليات العلمية

قد يتساءل المرء: لماذا العودة إلى أرسطو وهو فيلسوف القرن الرابع قبل الميلاد؟ الجواب بسيط. فالرجل وضع إشكالات شغلت بال المفكرين طوال القرون الوسطى، ووضع للعلماء تفسيرات للظواهر، كان بها عيوب ونواقص حركتهم، وجعلتهم يبذلون الجهد قصد حلها. ولنتذكر أنه في الزمن الحديث، خصوصًا في القرن السابع عشر، جرت مهاجمة أرسطو والعمل على هدم نسقه بالحجة والدليل، إلى درجة هزيمته، ليحل محله النسق العلمي الذي لا نزال نعيش على صداه حتى الآن. ولكي نفهم الأمر جيدًا، فسنعمل على إعطاء نموذج من الإشكالات العلمية التي طرحها أرسطو على العقول، والتي كلفت عشرين قرنًا من الجهد لأجل تجاوزها، وأقصد مشكلة الحركة في المكان وهي مشكلة فيزيائية بالأساس. فلنوضح ذلك.
** الحركة المكانية عند أرسطو
يقسم أرسطو الحركة المكانية إلى قسمين: حركة طبيعية وحركة قسرية:
* الحركة الطبيعية: حركة الميل الطبيعي.
يتصور أرسطو العالم بأنه كرة محدودة. فالكون كروي لأن الكرة هي أكمل الأشياء، ومحدود لأن له مركز هو الأرض. كما أنه يجعل من القمر فاصلا لهذا الكون إلى مرتبتين: سفلية حيث التغير والفناء، وعلوية حيث الكمال والثبات، أو بعبارة أخرى، فالعالم معه مكون من قسمين: عالم ما تحت القمر وعالم ما فوق القمر: أي عالمنا وعالم النجوم والكواكب.
الأول أرضي يتركب من عناصر أربعة مختلفة متراتبة وحركاتها مستقيمة (أسفل - أعلى)، بحسب الثقل والخفة، وتسمى الأسطقسات (التراب، الماء، الهواء، النار)، وهي الأساس الذي تتولد منه باقي الأشياء. إنه عالم التغير والتوالد والتحلل. باختصار، هو عالم الكون والفساد.
أما الثاني، فسماوي، ويتكون من مادة الأثير، أو العنصر الخامس، التي ما هي بالثقيلة ولا بالخفيفة، ولها حركة دائرية أزلية. إنه عالم غير قابل للتوالد أو الهدم، فلا مجال فيه إلا للكمال والثبات.
إذن الحركة الطبيعية الرائجة في هذا الكون، إما أن تكون كاملة بسيطة وخالدة، وهي الحركة الدائرية السائدة في عالم ما فوق القمر، أو تكون حركة مستقيمة من أعلى إلى أسفل، أو من أسفل إلى أعلى بحسب ناموس الخفة والثقل، في عالم ما تحت القمر.
وإذا ما ركزنا على العالم السفلي، عالم ما تحت فلك القمر، أي عالمنا الأرضي، سنجد أن كل جسم هو، حسب أرسطو، ذو ميل طبيعي للعودة إلى أصله، وذلك بحسب غلبة أي عنصر عليه. فالعناصر الأربعة (النار، الهواء، الماء، التراب)، توجد بنسب متفاوتة في الأجسام. فالجسم الذي يهيمن عليه التراب مثلا، سيصل طبيعيا إلى الأسفل. أما الجسم الغالب على تركيبه الماء، سوف يغطي بشكل طبيعي الأجسام الغنية بالتراب. وكذلك بالنسبة للأجسام التي تهيمن على تركيبها النار، ستبحث عن ارتفاعات أعلى. بينما تحتل الأشياء التي يغلب عليها الهواء، مكانا تحت النار. إذن عندما يسقط الحجر، فهو يسقط بشكل مستقيم وعمودي نحو الأرض، لأن الغالب في الحجر هو التراب، والتراب يشتاق إلى أصله، كما يشتاق المهاجر إلى وطنه. سنقول في هذه الحالة إن الحجر له ميول طبيعية نحو السقوط وليس الصعود.
* الحركة القسرية
إنها الحركة الاضطرارية أو الحركة المفروضة. إنها حركة اصطناعية تفرضها قوة تتحرك ضد الطبيعة، بفعل العنف والقسر، كأن يتحرك التراب إلى أعلى مثلا. فالأصل في الجسم السكون في عالمه الطبيعي، ما لم يباغته محرك ينقله عن أصله. فقذف حجر حسب أرسطو، يشكل لنا حركة اصطناعية، فيها لَيّ وتحويل وعنف تجاه الطبيعة. والأمر نفسه يقال عن سهم منطلق. فهو لا يتجه نحو الأرض مباشرة وبشكل عمودي. وهذا هو ما ينبغي أن يكون. بل هو يتحرك، بداية، في مسار أفقي، ثم بعد ذلك وبشكل تدريجي، ينحدر ليعود إلى الأرض. بعبارة أخرى، فالسهم لا يسقط مباشرة إلى الأسفل عندما ينطلق من حبل القوس، فهو يدفع إلى الحركة عنوة، ويجبر على الطيران في اتجاه مختلف عن حركته الطبيعية، أي السقوط المستقيم. سنقول حسب أرسطو، إن السهم يخضع لفرض وقسر من طرف محرك يضطره إلى سلوك حركة لا تعبر عن ميوله الطبيعية. إنها حركة محرفة، وهي التي ستأخذ حيزا كبيرا من النقاش، إلى حدود القرن السابع عشر، لأنها تتضمن مفارقة سنعمل على شرحها الآن.
* مشكلة الحركة القسرية عند أرسطو
ينطلق أرسطو من مبدأ هو أن «المحرك يكون مع المتحرك». ورد ذلك عنده، في الفصل الثاني من المقال السابع من مؤلفه، «السماع الطبيعي». يؤكد أرسطو انطلاقا من هذا المبدأ، أن المحرك يجب أن يكون متصلا وملتقيا مع ما يحركه مباشرة دونما توسط. بعبارة أخرى عندما تتم الحركة كيفما كانت، لا بد من حضور المحرك والمتحرك جنبا إلى جنب، إذ ليس بينهما فراغ أو توسط أو تأثير عن بعد. فهما متصلان ومترابطان، وبقاء هذا الاتصال شرط عند أرسطو لاستمرار الحركة، إلى درجة أن توقف المتحرك رهين بتوقف المحرك. هذا المبدأ الفيزيقي في الفلسفة الأرسطية (ضرورة اتصال المحرك بالمتحرك)، سيخلق استفزازا ومتاعب نظرية، تبدو واضحة في أحد أنواع الحركات، وهي الحركة القسرية، أي حركة القذيفة أو حركة النقلة في المكان. فالمشاهدة العينية تحكم بأن المقذوف يواصل حركته، وهو منفصل تماما عن القاذف المحرك. فالحجر حينما يلقى به لا يكف عن الحركة بمجرد مفارقته ليد القاذف. هذا الأمر يعد محرجا جدا، ما دام أرسطو يضع كمبدأ عام للحركة: أن الاتصال واجب بين المحرك والمتحرك. فكيف الخروج من هذا المأزق؟ وكيف سيتمكن أرسطو من سد الثغرة وضمان الأمان النظري لمبدئه؟
لكي يرأب أرسطو هذا الصدع المنافي لمبدأ اتصال المحرك بالمتحرك، لجأ إلى نظرية تسمى بنظرية الوسط. ومضمون هذه النظرية، هو أن القاذف حين يقذف الشيء، فإنه يعير الوسط الذي يحيط بالشيء المقذوف قوة دفع تحمل هذا المقذوف على مواصلة حركته. وهذا الوسط هو الهواء. بعبارة أوضح، يكون التماس والاتصال مضمونا بين المحرك والمتحرك بواسطة الهواء، فهو الرابط الذي يقوم مقام القاذف. كما حاول أرسطو حل المفارقة، باقتراح نظرية أخرى تسمى نظرية التعاقب، ومضمونها هو أن الجسم المقذوف (سهم أو حجر)، يحدث وهو يتحرك فراغا في الهواء. وما دامت الطبيعة تخشى الفراغ عند أرسطو، فالهواء يسارع لملء المكان الفارغ، وهو ما يترتب عليه دفع المقذوف نحو الأمام، إلى حين عودته إلى أصله.
باختصار نقول إن أرسطو، ولكي يخرج من مأزقه النظري عول على الهواء، باعتباره ضمانة للاتصال بين المحرك والمتحرك من جهة، ومن جهة أخرى أعطى للهواء قوة دفع للجسم.
إن الاقتراح الذي قدمه أرسطو (نظرية الوسط والتعاقب) لتقويم الاعوجاج البادي في فلسفته الطبيعية (الفيزياء)، فيما يتعلق بنوع من الحركة هي حركة القذيفة، ليبدو غريبًا، وبه تعسف في التفسير. بل يبدو أنه حتى أرسطو غير مقتنع به، لأن الحس السليم يقول إن الهواء لا يدفع الجسم بل يقاومه. ولا شك أن أرسطو على وعي بهذه المقاومة، ولكنه لم يقر بها وفضل التضحية بها في سبيل نسقه النظري.
إن مسألة عدم الإقرار بمقاومة الهواء ستغلق نسق أرسطو، وستمنع من فتحه، وستشل إمكانيات الاجتهاد عند البعض. فمثلا، نجد أن تنزيه ابن رشد لأرسطو وثقته المفرطة فيه، كانا بمثابة العائق والكابح لفاعلية العقل وديناميته. فهو أيده في اقتراحه على الرغم مما فيه من إحراج. إن رفض مقاومة الهواء لن يسمح بتصور عدم وجودها، مما سيعوق ظهور «مبدأ القصور الذاتي» حتى حدود القرن السابع عشر مع غاليليو، الذي انبنت عليه الفيزياء الحديثة. لكن لا يجب أن ننكر أنه ظهر عبر التاريخ، في الآن نفسه، من حاول فتح النسق الفيزيائي الأرسطي وتجاوز هفوته، أمثال الفيلسوف السكندري يوحنا النحوي، الذي عاش في القرن السادس الميلادي، وابن سينا، وأبو بكر البغدادي، وابن باجة، ومدرسة باريس التي نشطت خلال القرن الرابع عشر، وطورت نظرية الاندفاع التي مهدت لكل الفيزياء الحديثة. وهذا موضوع آخر يحتاج إلى مقال خاص.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.