مثقفون مصريون: هناك غياب تام للسياسات الثقافية في الوطن العربي

يرون أن ضعف اهتمام السلطات وتراجع مناخ الحرية أبرز أسباب انحسار التفاعل الثقافي

من جلسات مؤتمر  الرواية العربية السادس بالقاهرة - زين العابدين فؤاد - محمد الحمامصي - محمد البعلي - محمد عفيفي
من جلسات مؤتمر الرواية العربية السادس بالقاهرة - زين العابدين فؤاد - محمد الحمامصي - محمد البعلي - محمد عفيفي
TT

مثقفون مصريون: هناك غياب تام للسياسات الثقافية في الوطن العربي

من جلسات مؤتمر  الرواية العربية السادس بالقاهرة - زين العابدين فؤاد - محمد الحمامصي - محمد البعلي - محمد عفيفي
من جلسات مؤتمر الرواية العربية السادس بالقاهرة - زين العابدين فؤاد - محمد الحمامصي - محمد البعلي - محمد عفيفي

هل هناك تفاعل ثقافي حقيقي بين المبدعين العرب؟ ولماذا لا يشعر المثقف العربي بجدوى مشاركته في المؤتمرات والمهرجانات الثقافية الكبرى؟ فكثيرا ما نشاهد أن أغلب جلسات المؤتمرات خاوية من المشاركين الذي ينفضون للتجمع في حلقات صغيرة، يتبادلون إصداراتهم وأرقام الهواتف على أمل بالتواصل فيما بعد المؤتمر. كما أن السمة الغالبة في أكثر المؤتمرات العربية هي أن قوائم المدعوين تتكرر كل عام، وتكاد تخلو من الكتاب من الأجيال الجديدة، رغم أن قسما منهم أثبتوا حضورهم في الساحة الثقافية. والمفارقة أن الفعاليات الثقافية المستقلة تحقق نجاحا لافتا على المستوى الجماهيري ومستوى المثقفين أنفسهم. حاولنا هنا تناول أبعاد القضية، والعوامل التي تقف وراء انحسار التفاعل الثقافي في العالم العربي، هنا آراء عدد من المثقفين المصريين المنخرطين في العمل الثقافي الحكومي والمستقل، بعد أن نشرنا آراء كتاب ومثقفين من لبنان والمغرب والكويت:
الشاعر والمترجم زين العابدين فؤاد، ينظم عددا من الفعاليات الثقافية بشكل مستقل، أهمها كانت تجربة مهرجان شهري باسم «الفن ميدان»، استعاد فور الحديث عن التفاعل الثقافي أمسيات معرض القاهرة للكتاب والزخم الذي كان يحيطها، ومدى التفاعل معها على مستوى المثقفين والجماهير، قائلا «الفعاليات الثقافية الجادة بالتأكيد تحفز التفاعل الثقافي، فقد كان يأتي لنا في معرض القاهرة للكتاب، مثلا، سميح القاسم، ومحمود درويش، وكان الجمهور ينتظرهم، فمن المهم للمثقف أن يلتقي بجمهوره».
ويرى فؤاد، أن التفاعل والجسور الثقافية موجودة، بل صارت أكثر سهولة من ذي قبل، قائلا «الإنترنت ساهمت في التواصل بين المثقفين وبعضهم بعضا من مختلف أنحاء العالم، وقد أقمنا عددا من الفعاليات عبر الإنترنت وحملات التضامن مع المعتقلين، ومنهم ابنة الشاعر رفعت سلام (يارا)، وكتبنا ديوانا جماعيا مع أكثر من 200 شاعر من مختلف الدول حول العالم».
وعن تجربته في «الفن ميدان» يقول «هي تجربة مميزة تؤكد أن الجمهور والمثقفين العرب يتفاعلون إيجابيا مع الفعاليات الثقافية، فقد كنا ندعو فنانين عربا من سوريا ولبنان وفلسطين، وكان التفاعل الجماهيري معهم رائعا، وانتشر المهرجان في 16 محافظة، وكان يعقد في كل تلك المحافظات في اليوم نفسه ».
ويعتبر فؤاد أن المؤتمرات الكبرى لا تكون مجدية في أغلبها، قائلا «المشاركة تكون فاعلة إذا كان عدد الحضور محدودا، فإذا شاركت بورقة ستؤثر في المشاركين ويتفاعلون معها». وذهب إلى أن بعض مؤتمرات الدولة تدعو المثقفين ليس للنقاش حول قضية ملحة مثل التطرف الفكري، بل نشعر بأنهم جاءوا للالتقاط الصور ليس إلا.. للأسف، هناك غياب تام للسياسات الثقافية في الوطن العربي كافة»
وعن عزوف المثقفين عن المشاركات في بعض الأحيان، يقول فؤاد «أنا أفضل أن أبذل جهدا في الشارع ومع الناس؛ لأنني على يقين بأن الأثر سيأتي على المدى التراكمي» ويضيف «لن ينتعش التفاعل الثقافي في ظل غياب مناخ الحرية؛ لأنه إذا وجد المثقف مساحة للعمل ستنجح مبادرات كثيرة، وتتمكن من إنعاش الفنون والأدب والشعر والمجالات كافة».
أما الكاتب والشاعر محمد الحمامصي، فيرى أن أهمية المهرجانات والمعارض تكمن في تفاعل الأفكار وتبادلها ما بين المشاركين. أما فيما يتعلق بفعالياتها على مستوى الدول والعلاقات الثقافية، فإنها لا تؤسس لجسور ثقافية لأنها مفصولة عن المجتمعات العربية، وليس لها تأثير في عملية اتخاذ القرار السياسي. ويرى أن أسباب عزوف بعض المثقفين عن المشاركة في المؤتمرات أو الحضور إليها وعدم المشاركة بفاعلية تكمن في أن «السلطة لا تستفيد من أي توصيات أو نتائج تتمخض عنها تلك المؤتمرات أو مشاركات الباحثين، تماما كما هو الحال في تعامل الدول العربية مع رسائل وأبحاث الماجستير والدكتوراه». ويقو: «إحساس المثقف بعدم جدوى مشاركاته وتراجع دور اتحادات الكتاب يجعله ينزوي ويهرب للعلاقات الشخصية، في ظل اكتفاء مؤسسات الخدمات الثقافية بالبحث عن الأموال والمنفعة المادية دون أدنى تقدير للمثقف العربي». ويتساءل «ما جدوى المهرجانات السينمائية في العالم العربي، هل ارتقت بصناعة السينما أم أن الانهيار لا يزال يطيح بتلك الصناعة، خصوصا في مصر؟ ولماذا لا تزال ذائقة الجمهور تنحدر رغم وجود مهرجانات لها سمة «الدولية»؟
الكاتب والناشر محمد البعلي، صاحب دار صفصافة للنشر، تحدث إلينا من واقع خبرته بصفته مثقفا مستقلا شارك في تنظيم «مهرجان القاهرة الأدبي»، ونجح في استضافة الأديب التركي أورهان باموك، قائلا «الفعاليات الثقافية بكل مستوياتها لا تشهد التفاعل الثقافي المطلوب على المستوى الفردي أو المجتمعي، وإنما يمكن أن تكون منصة أو قاعدة للتفاعل فيما بعد، حيث تعتبر فرصا للتعارف وتكوين العلاقات بين الأدباء والمثقفين وبعضهم». وحول إذا ما كانت الأسباب تتعلق بأن المؤتمرات التي تشرف عيها الدولة غير مجدية، من وجهة نظر قسم من المثقفين، يقول «لا شك أن العمل الثقافي المستقل يعطي مرونة، فقد قمنا باستضافة كاتب تركي رغم أن العلاقات السياسية بين مصر وتركيا لم تكن على ما يرام، وهو ما لا يمكن أن تقوم به مؤسسات الدولة الثقافية». ويرى البعلي أن غياب الدعاية هو سبب مباشر في تراجع التفاعل الثقافي قائلا «من المهم وجود منسق إعلامي يقوم بالترويج للحدث، ويكون وسيطا بين المنظمين والجمهور».
بينما يرفض المؤرخ دكتور محمد عفيفي، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للثقافة، وصف الثقافة بأنها «نخبوية»، معتبرا أن وجود مؤتمرات متخصصة مثل «مؤتمر الرواية» الذي يعقد كل عامين ويجمع كتابا ومثقفين لا يعني أن المؤتمر يجب ألا يحضره أناس لهم اهتمامات أخرى.، وهو يرى أن التفاعل الثقافي يحدث ولكن بشكل غير مباشر وعبر مراحل تبدأ بالمؤتمرات وتنتهي بالمنتج الثقافي، سواء أكانت كتب أو مقالات. وحول رأيه في الانتقادات التي توجه للمؤتمرات المتخصصة، يقول «لقاءات المثقفين والأدباء العرب متقطعة، وتوقفت في فترة ثورات الربيع العربي، ويجد الأدباء في المؤتمرات فرصة للقاء والنقاش والسجال، وهو ما ينعكس بالتالي على كتاباتهم وإبداعاتهم التي تصل للناس أو العامة في شكل منتج ثقافي».
ويضيف «في عالمنا العربي يشعر المثقف بغربة شديدة وعدم وجود آلية لتنفيذ وتطبيق التوصيات التي تخرج بها المؤتمرات، إضافة إلى عدم وجود أجندة أعمال لتنفيذ التوصيات يؤدي إلى إصابة المثقف بالإحباط الشديد».
ويشير إلى تجربته الشخصية كونه مؤرخا بالقول «للأسف لقاءات المؤرخين المصريين والعرب تكاد تكون معدومة داخل بلادنا، لكن تتوطد علاقاتنا في المؤتمرات في الخارج فيحدث التعاون وتبادل الخبرات والآراء».



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.