معرض «السرياليون المصريون».. لوحات تعبّر عن مآسي الإنسانية

يضم أكثر من 150 لوحة ومنحوتة توثق تاريخ السريالية المصرية

جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج
جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج
TT

معرض «السرياليون المصريون».. لوحات تعبّر عن مآسي الإنسانية

جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج
جانب من المعرض ({الشرق الأوسط}) - لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج

يحتضن قصر الفنون بدار الأوبرا المصرية معرضا فنيا فريدا تحت عنوان: «حين يصبح الفن حرية: السرياليون المصريون (1938 - 1965)». يحمل المعرض إرثا فنيا مميزا يعكس بدايات وإرهاصات الحداثة في الفن المصري المعاصر ومدى تفاعله مع الفن الغربي المعاصر. ينظم المعرض مؤسسة الشارقة للفنون بالتعاون مع قطاع الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة المصرية. افتتح المعرض، أول من أمس، حلمي النمنم وزير الثقافة المصري، بحضور الشيخة حور القاسمى، رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون. كما حضر عدد من الكتاب والمخرجين السينمائيين والمهتمين بالحركة التشكيلية، منهم: الكاتب منير عامر، والمخرج خيري بشارة، والمخرج خالد يوسف، والفنان التشكيلي محمد عبلة.
يضم المعرض ما يزيد على 150 لوحة ومنحوتة وكمًّا من الوثائق والصور الفوتوغرافية التي تعكس روافد واتجاهات المدرسة السريالية المصرية. قام بالإعداد لهذا المعرض الناقد والأكاديمي السوداني د. صلاح حسن، الأستاذ بجامعة كورنيل، والنحات المصري إيهاب اللبان، بالتنسيق مع عدة جهات ومتاحف وعدد من الهواة الذين يقتنون أعمالا لكبار رواد السريالية في مصر.
انطلق المعرض في القاهرة ويستمر حتى 28 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ومن ثم سيجوب مواقع أخرى سيتم الإعلان عنها، قبل أن يختتم جولته في المباني الفنية لمؤسسة الشارقة للفنون في عام 2018.
يسلط هذا المعرض الضوء على الحركة التشكيلية المصرية في القرن الماضي من منتصف الأربعينات وحتى أوائل الستينات وظهور الجماعات الفنية، مثل: «جماعة الفن والحرية» التي ضمت جورج حنين، ورمسيس يونان، وفؤاد كامل، وأنور كامل، وكامل التلمساني.. وغيرهم، وجماعة «الفن المعاصر» التي ضمت عبد الهادي الجزار، وكمال يوسف، وحامد ندا، وماهر رائف، وسالم الحبشي (مجلي)، وسمير رافع، وإبراهيم مسعودة.. وغيرهم ممن درسوا تحت وصاية الأستاذ الملهم حسين يوسف أمين.
وفي كلمتها عن المعرض، قالت الشيخة حور القاسمي: «يبرز المعرض الجماليات الأسلوبية للفنانين المصريين، ويُعَد توقيت معرض (حين يصبح الفن حرية: السرياليون المصريون – 1938/ 1965) ملائمًا، حيث يتزامن مع الاهتمام المتزايد بآداب السرياليين المصريين، وكتاباتهم، وأعمالهم الفنية وسياساتهم. وفي ظل تصاعد المدارس الفنية الجديدة التي سلطت الضوء على الطبيعة العالمية للسريالية كحركة فنية، يصبح هذا المشروع أكثر إلحاحًا، حيث يركز على أهمية وعمق الإرث الذي خلَّفه السرياليون المصريون على الحداثة المصرية».
يستكشف المعرض تاريخ وتطور السرياليين المصريين، وعلاقتهم القوية بنظرائهم الغربيين، خصوصا السرياليين الفرنسيين، ومساهماتهم بمبدأ الأممية، ومناهضة الفاشية، والاحتجاج العالمي ضد الحروب، وضد الاستعمار في القرن العشرين.
في أحد أرجاء المعرض، وقف مجموعة من شباب التشكيليين الفرنسيين يناقشون الرموز التي تتضمنها لوحات عبد الهادي الجزار وصور فان ليو ويعقدون المقارنات مع أعمال الفنان الفرنسي إيفي تانجي، وفيكتور برونو، ومارسيل دو شامب، بينما ذهبت مجموعة من السينمائيين المصريين لتفقد الخطابات والوثائق الخاصة بكامل التلمساني.
لا شك أن المعرض يثير شهية الباحثين والنقاد المتخصصين لمزيد من البحث حول تاريخ وإرث المذهب السريالي، خصوصا المصري، حيث اعتنق عد كبير من الفنانين والمفكرين هذا المذهب الغني وترجمه كل منهم وفقا لثقافته وشخصيته، وذلك في مجتمع متعدد الجنسيات والثقافات، حين كانت مصر كوزموبوليتانية.
الفنان إيهاب اللبان، الدينامو المحرك للمعرض، ظل يجوب أدوار قصر الفنون وممراته متابعا ردود فعل زوار المعرض، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «هذا المعرض جاء نتاج مؤتمر عالمي عقد في الجامعة الأميركية بالقاهرة نهاية العام الماضي، ويأتي المعرض بعد عامين من التنسيق والإعداد مع مؤسسة الشارقة للفنون، وسوف يخرج في نهاية المعرض كتيب شامل عن المعرض وعن الحركة السريالية المصرية». ويؤكد أن «هدفنا هو التعريف بالفن السريالي المصري، والتوثيق لأعمال رواد هذه الحركة المهمة التي لم تأخذ حقها في الدراسة والبحث، إلى جانب إنعاش سوق الفن المصري والترويج له عربيا وأوروبيا». وقال: «يضم وثائق تعرض لأول مرة تكشف قيمة هؤلاء الفنانين فكريا وفنيا»، مضيفا: «سوف يرى الجمهور معرضا مغايرا عن هؤلاء الفنانين».
تجولت في أرجاء المعرض الغني الذي يحتاج لأكثر من زيارة، لكن بصفة عامة تجمع اللوحات والصور الفوتوغرافية، مجموعة سمات مشتركة بين مبدعيها، وهي: تركيزها على الرموز ذات المضامين الفكرية، أو تلك المستوحاة من الطبيعة، وقوة بناء اللوحات وكثرة تفاصيلها، التي تجعل المشاهد لها يغوص في كل مكون للوحة ويهيم بين التشكيلات اللونية وكأنها تدفعه للغوص في كوامن اللحظة اللاشعورية التي استحضرها الفنان.
في حضرة اللوحات ستحلق في عالم الميتافيزيقا وعالم من الأفكار والتوجهات وستشعر بسحر الخيال. سوف تستشعر ضربات الفرشاة التي تعكس خواطر الفنانين العابرة وأحاسيسهم وحركتهم العضلية التلقائية وتشرد بذهنك متسائلا: كيف استطاع هؤلاء الفنانون التعبير عن تلك المشاعر والهواجس الإنسانية التي تتخطى الأزمنة والعصور فنشعر بأنها وليدة إنتاج عصرنا هذا، بل إنها تتحدث عن الأحداث التي تمر بنا، لا سيما في عالم يعيش يوميا على أخبار القتال والتفجيرات والاغتيالات؟
أما عن تنسيق لوحات المعرض، فقد تم بعناية تامة تعكس هدف القائمين عليه بالمقاربة ما بين السريالية المصرية ونظيرتها الأوروبية. كما ضم فاترينات لعرض الوثائق والخطابات ونسخ من مجلة «التطور» أول مجلة اشتراكية عربية التي صدر أول أعدادها عام 1940، ومنشورات جماعة «فن وحرية» التي تكشف رغبة الجماعة في تغيير المجتمع المصري.
تدور الموضوعات التي تعالجها لوحات المعرض حول: التحرر وتحرير المرأة، والتمرد على التقاليد الاجتماعية والدينية، وتقديس الحرية الإنسانية، والطفولة وأحلامها، وما وراء الطبيعة، والقصص الأسطورية، ومشاعر الكبت والحرمان.
تستوقفك لوحة «نذير العاصفة»، إحدى لوحات رمسيس يونان، وهي من مقتنيات المتحف المصري للفن الحديث، بشخوصها الهلامية التي تشبه شخوصا ضبابيين وسط الدخان. ومن مقتنيات متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، تأخذ لوحة «الطفل الأحمر» للفنان أريستيد بابا جورج العقل ببساطتها وقدرتها القوية على التعبير عن عذابات الطفولة، وقد شعرت بمدى تقاربها مع صورة الطفل السوري عمران، فكلاهما يحمل تساؤلات وهواجس عن المستقبل مع ذهول وشرود. كما تعبر لوحة الفنان محمد القباني «الإنسان والإصرار» التي رسمها عام 1971 عن هول مأساة الهجرة غير الشرعية في وقتنا الحالي أو معاناة اللاجئين الهاربين من جحيم الحروب عبر البحار.. إنها براعة الفنان في التعبير عن قضايا الإنسانية. أما منحوتة «نظرة» للفنان عبد الهادي الوشاحي، فعلى الفور سوف تلحظ فيها تأثره بالنحات ألبرتو جياكوميتي، واستخدم فيها خامة البوليستر بانسيابية وفخامة النحب الإغريقي.
تحدثت إلى صاحب فكرة معرض ومؤتمر «السرياليون المصريون» د. صلاح حسن، بروفسور كرسي أستاذية غولدوين سميث، ومدير معهد دراسة الحداثات المقارنة، بجامعة كورنيل، الذي قال: «لم يكن هذا المعرض ليخرج للنور لولا اهتمام مؤسسة الشارقة للفنون ودورها في تعميق سرديات تاريخ الفنون الحديثة، وإلقاء الضوء على أهم التجارب الإبداعية في العالم العربي. وبكل تأكيد السريالية المصرية، إحدى أهم المدارس الفنية التي اصطبغت بصبغة عالمية، وهي حركة حداثية ما زالت مؤثرة، لذا أطلقنا على بعض اللوحات: (ما بعد السريالية)، لأن بعض الفنانين واصلوا التيار السريالي».
وأضاف: «السريالية انبثقت عن الحركة الدادية، ولكن لا يمكن فصلها عن الحركات السياسية في ذاك الوقت من القرن الماضي، وهي متأثرة بشدة بالشيوعية والتروتسكية».
وحول الشعور الذي يتملك مشاهد اللوحات من أنها شديدة المعاصرة للوقت الحالي وقد تشابهت مع اللوحات التي تستعين بالتقنيات التكنولوجية الحديثة، قال: «التيار السريالي هو تيار واحد ومؤثر، لكنه انتهى، لكن الخلق والإبداع مستمر، لكن العالم العربي حاليا في مرحلة معقدة وأشياء خطيرة من الممكن أن تنبثق عنها حركات فنية مهمة، خصوصا أن هناك كثيرا من الفنانين مهتمين بقضايا الحرب والسلام». وأضاف: «وظيفة الفن دائما هي تجاوز الواقع والحلم بالمستقبل والتأثيرات، الحالية ستتمخض عنها حركة فنية، لكن لا يمكن التنبؤ بالمستقبل».
وأشار حسن إلى أن المعرض مهمته التعريف بكل رواد السريالية، لذا «سوف نضيف للمعرض مزيدا من المقتنيات واللوحات في الجولات المقبلة».
في أحد أركان المعرض، ستجد مجموعة من صور «البورتريه» هي مجموعة الفنان والمصور ليو بويادجيان الشهير باسم فان ليو (1920 - 2002)، وكان يدير استوديو بالقاهرة، تلك الصور التي التقطها بحرفية مبهرة لشخصية آنجيلو دي ريتز التي التقطت في ميزون دي ارتيستس.. تبرز الصور تأثره بالفنان فان غوخ، الذي اختار أن يضع مقطعا من اسمه مع اسمه الأصلي تعبيرا عن ولعه الشديد به، وهو ما انعكس بصريا على صوره الفوتوغرافية. استخدم ليو تقنية التصوير عبر الألواح الزجاجية لإنتاج صور ضبابية، وتوظيف التأثيرات الضوئية لإحداث ظلال متباينة، كظل الطائرة الذي يظهر في أحد البورتريهات الشخصية له تعبيرا عن الحرب العالمية الثانية، بينما تعبر صورته الشخصية مع تمثال نصفي لماري أنطوانيت عن غياب الأنثى في حياته أو ربما وجودها غير المكتمل. تتضمن المعروضات الخاصة بفان ليو أيضا تقنيات غريبة، مثل استخدام الصور السلبية أو النيجاتيف، بتعريضها لضوء الشمس وما يحدثه ذلك من تأثير يشبه تقنية الغرافيك الحالية. ويثير هذا الجزء من المعرض الشغف لمعرفة المزيد عن علاقة ليو بالحركة السريالية المصرية وعلاقته بالفنان جاك أوفاديا عضو «جماعة الفن والحرية» الذي قال في أحد مقالاته إن ليو لم يؤمن قط بالسريالية!
وفي أحد ممرات قصر الفنون، تأسرك لوحات الفنانة المصرية إنجي أفلاطون التي تتلمذت على يد الفنان كامل التلمساني، وتبهرك براعتها في ترويضها عناصر الطبيعة بأشكال وأجساد إنسانية تتعذب وتتألم في طريقها للتحرر والانطلاق من براثن سطوة ما، وتبدو في لوحاتها نزعات التمرد والثورة على الواقع، فقد كانت تسعى مع «جماعة الفن والحرية» للتحرر على المستوى الفني من القيود والقواعد الأكاديمية في الرسم والمنقولة من الخارج، وربما قد يساعد المتلقي أن يقرأ سيرة إنجي أفلاطون ومذكراتها حتى يمكنه تلقي أحاسيس حية جسدتها أفلاطون مع كل ضربة فرشاة.
في بهو قصر الفنون وبين لوحات لجماعة الفن والحرية، تحدث الفنان التشكيلي محمد عبلة لـ«الشرق الأوسط» عقب جولة في المعرض متحدثا عن انطباعاته الأولية، قائلا: «المعرض من أهم المعارض التشكيلية، فهو يقدم فرصة كبيرة جدا لنا لكي نرى كل هذه الأعمال متجاورة، تلك التي كنا نراها في الكتب فقط، وأن ندرسها عن كثب، ونتعرف على أثر تلك الحركة الفنية على الفنانين من روادها». وبشغف شديد يقول: «لقد كان من الرائع أن نرى هذا الكم من الوثائق والخطابات والمراسلات بين الفنانين المصريين ونظرائهم الغربيين، وقد أبهرتني لوحات الفنان عبد الهادي الجزار الكبيرة جدا، وأيضا (الاستكتشات) الخاصة به، وهذا المعرض يحتاج لزيارات متأنية لدراسة تلك اللوحات وقراءتها جيدا».
ويعترض عبلة على بعض اللوحات التي ضمها المعرض تحت عنوان: «ما بعد السريالية» قائلا: «أعتبره إقحاما في غير محله، وعلى تيار السريالية، لأن السريالية بصفتها مدرسة فنية انتهت، ولا يصح مع وجود أعمال وفنانين حداثيين بعدها أن ينتسبوا إليها، لأنها كانت فكرا وتيارا فنيا له أبعاده وخصوصيته المرتبطة بحقبة زمنية هي زمن الحروب العالمية والشيوعية»، ويضيف: «كما لفتني وجود أعمال للفنان أحمد مصطفى تنتمي لفترة السبعينات التي أراها لا تنتمي لتيار السريالية، لذا أقول إن المعرض له أهمية وله ثقل، لكنه يحتاج لقراءة متأنية».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».