يوناس هانس وإعادة تعريف مفهوم المسؤولية

ضرورة زرع فكرة الخوف من المستقبل

يوناس هانس وإعادة تعريف مفهوم المسؤولية
TT

يوناس هانس وإعادة تعريف مفهوم المسؤولية

يوناس هانس وإعادة تعريف مفهوم المسؤولية

انتهى الوعي الإنساني المعاصر، جراء التطور التكنولوجي وهيمنة التصور الآلي للعالم وبروز الاختلالات البيولوجية والإيكولوجية، إلى أزمة خطيرة ومتعددة الأبعاد، دفعت إلى جر العلم نحو المساءلة المعيارية التي لطالما طردها من قبل. فالوجود أصبح كله في خطر، الأمر الذي دفع إلى ضرورة إقامة تصورات جديدة للأخلاق تتناسب والمتغيرات التقنو-علمية الراهنة المؤثرة على أجيال الحاضر والمستقبل. وهو ما حاول الفيلسوف يوناس هانس (1903 - 1933)، أن يقوم به انطلاقا من مفهوم المسؤولية، الذي أعطاه أبعادا جديدة، وضخه بدلالات وشحنات تجيب عن الإشكالات التي فرضتها التطبيقات التقنية على الإنسان، والتي لم يعهدها من قبل. فكيف ذلك؟
* المسؤولية: من الضرر إلى الخطر
يمكن أن نحدد جوانب المسؤولية عبر التاريخ في ثلاثة مستويات:
- المسؤولية القانونية: حيث يتحمل المرء المسؤولية المدنية والجنائية عن كل أخطائه، وكل الخسائر والأضرار التي أحدثها للآخر، سواء أحدث ذلك بالصدفة أو جراء سلوك أحمق وطائش، أو عن جهل بما ينبغي فعله، أو العدول عنه. وبالطبع، فإن الأمر يتوجب عليه عقاب يتحمله الفرد، كما هو مسطر داخل المجتمع الذي ينتمي إليه «سجن – قصاص – نفي - إعدام.. وغير ذلك».
- المسؤولية الدينية: هي نوع من إضفاء الطابع الروحي على المسؤولية، بحيث يصبح الخطأ حراما يعاقب الله عليه. بمعنى أن المسؤولية تأخذ طابعا أخرويا، تتجاوز القضاء الدنيوي، ويتحمل كل فرد وزر ما قدمت يداه أمام العدالة الربانية المؤجلة.
- المسؤولية الأخلاقية: وهي مسؤولية ذاتية، حيث يعاقب الفرد نفسه بنفسه، انطلاقا من شعور عميق بوخز الضمير. فالمرء حينما يؤتي واجبات أخلاقية ويضحي برغباته لصالح الغير، فهو ينال إحساس الكمال والنبل. أما حينما يؤتي سلوكا خسيسا وخبيثا، فالمسؤولية تكون بصرخة ضمير في جوفه كعقاب له، فتقض مضجعه.
إذن يعيش المرء بإمكانية أن يكون مؤطرا بثلاث مسؤوليات وهي: القانونية أو الدينية أو الأخلاقية. بمعنى أن المسؤولية ارتبطت بضرر يصيب الآخر، وجب تحمل وزره بأثر رجعي كعقاب قد يأخذ وجها قانونيا قضائيا، أو دينيا، أخرويا، أو أخلاقيا، على شاكلة وخز ضمير. لكن ماذا عن متغيرات العصر التقنو-علمية؟ فهل تكفي هذه الأنواع الثلاثة من المسؤوليات؟ فمن سيتحمل مثلا، مسؤولية ثقب الأوزون، أو الاحتباس الحراري، أو بعض الأمراض المستعصية الناجمة من النظام الغذائي الصناعي الطاغي، أو انتشار الإشعاعات وجميع صنوف الانبعاث الملوثة؟ فهل يقيد الأمر ضد مجهول؟ من نعاقب؟ هذا هو المأزق المعاصر الذي استوجب نظرة جديدة لمفهوم المسؤولية وإعادة تعريفها، بحيث سننتقل من مجال الضرر إلى مجال الخطر المهدد للكل، حيث توجد مجموعة من الأضرار لا مذنب فيها، وهي مترتبة عن التصنيع والتقنية المفرطة، إلى درجة أن أصبح الحديث سهلا عن مسؤولية من دون خطأ، وهنا نذكر بمأساة الدم الملوث، حينما ظهر وباء «السيدا» في الثمانينات من القرن العشرين، ولم يكن بعد من المعروف جيدا طرق انتقاله والعدوى به. فكان ينقل الدم الملوث من دون علم، فأصيب كثير. وبالطريقة نفسها: من يتحمل مسؤولية مرض جنون البقر؟
إن هذه الأضرار التي هي من دون مذنب، ويغيب عنها الخطأ الذي يجب أن يتحمل مسؤوليته فرد محدد، التي سرعت بظهور شركات التأمين، حيث سيتم تعويض المسؤول بالمؤمن (بكسر الميم) الذي يعوض عن الخسائر ويعطي التعويض عن الضياع.
إذن، لقد ظهرت مجموعة من الأضرار، أو لنقل مجموعة من الأخطار التي لم تكن من قبل، وهي نتاج التطور العلمي والتقني، وتستدعي تدخلا أخلاقيا سريعا، وبآفاق غير مسبوقة، وبمقاربات غير مطروقة. وهذا ما شغل بال الفيلسوف يوناس هانس.
* استباق الكارثة
إن المنهج العلمي الناشئ في القرن السابع عشر، والمؤسس على خلفية نظرية قوامها النظرة الآلية للعالم، مكن العلماء من تحقيق نتائج مبهرة لا تخطئها العين. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن القرن الثامن عشر، وهو قرن الأنوار، كان متفائلا جدا بمآلات العلم، وأنه السبيل الأوحد لتحقيق سعادة الإنسان، ما عدا حالات خاصة شككت في الأمر، ومنها الفيلسوف روسو. لكن بدءا من القرن التاسع عشر، بدأت المخاوف تظهر على السطح. وما رواية «فرانكنشتاين» سنة 1816 لماري شيلي، إلا شاهدا على ذلك. وللتذكير، فقد جرى إخراجها سينمائيا. فهي رواية تحكي قصة طبيب يدعى فرانكنشتاين، تجرأ على صناعة إنسان، فتمكن من جمع الأعضاء من هنا ومن هناك، ثم ضخها بشحنات كهربائية، فتشكل لديه مسخ لا هو بالإنسان ولا هو بالوحش، عاد بالويلات على الطبيب نفسه. لقد كانت هذه الرواية، تجسد لكل من قرأها، انقلاب السحر على الساحر، انقلاب العلم على صاحبه. فالرواية تعني مباشرة، أن العلم بعد نجاحه وطموحه اللامحدود، أصبح مخيفا ومرعبا، بل مهددا للبشرية ومستقبلها.
إن المخاوف من العلم ستتكرر باستمرار، خصوصا بعد الثورة الجينية، واجتياح الطبيعة حد الاستباحة والاستنزاف. الأمر الذي جعل الفلاسفة يتحركون نحو إنشاء نظريات أخلاقية ملائمة لهذا الغرور والصلف العلمي المهدد للجميع. ولعل من أبرزهم، كما قلنا، الفيلسوف يوناس هانس، وهو أحد تلاميذ الفيلسوف الشهير هايدغر، وهو من الذين سيفكرون في حكمة تعمل على كبح المارد العلمي، وتشكيل نظرية في الأخلاق الإيكولوجية، تتلاءم وتكنولوجيا العصر. فالأخلاق الحداثية، خصوصا في بعدها الكانطي، لم تعد مسعفة من وجهة نظره. فوجد هانس مراده في مفهوم المسؤولية، باعتبارها بوصلة صالحة لتوجيه البشرية. وهو لم يقصد بالمسؤولية تحمل تبعات الأفعال الماضية المقترفة، بل يقصد المسؤولية تجاه المستقبل، مستقبل هذه الأرض التي تأوي الجميع والتي يجب أن نتركها صالحة للأجيال المقبلة.
فإذا كان المنظور الحداثي يرى العالم عبارة عن آلة صماء وقاصرة، ومفرغة من كل حياة أو روح، ومن ثم نزع كل قداسة عنها، فإن يوناس هانس يدعو إلى إعادة تنشيط الفرضية القديمة للكون، وهي فرضية الغائية. فالطبيعة ليست موضوعا للمعرفة وكفى، بل هي أيضا كائن حي وجب الاعتناء به. فهي تدخل في إطار أخلاق المسؤولية. فهانس يرى أنه في زماننا هذا لم يعد من واجبنا الفعل في اتجاه خير الإنسان وحسب، إنما علينا التفكير أيضا، في خير الأشياء الخارجة عنا، لأن وجودنا مرهون بها ودونها نصير إلى العدم. وتقليدا منه للفيلسوف كانط، الذي اطلع عليه في سن مبكرة، سيعمل على صياغة أمر أخلاقي واجب على الإنسان الانصياع له، وهو كالتالي: «افعل بحيث تكون نتائج فعلك متلائمة مع استمرارية حياة بشرية أصيلة على الأرض». ولمزيد من دعم نظريته في المسؤولية، اقترح عملا في حقيقته ينتمي إلى «البيداغوجيا»، يمكن تسميته «استباق الكارثة»، بمعنى أنه علينا نحن البشر، زرع فكرة الخوف من المستقبل ولو تربويا، أي خلق نوع من الاستنفار في حالاته القصوى إنذارا بالخطر المحدق بحضارة التقنية.
نخلص إلى أنه إذا كانت المسؤولية دائما متعلقة بالماضي، بمعنى أنه عندما أقوم بجريمة، فأنا أدفع الثمن عنها الآن، لتكون التبعات بأثر رجعي، فإن يوناس هانس غير الأمر، وجعل تحمل المسؤولية ينحو نحو المستقبل لمجابهة خطر محتمل. فأخلاقه هي أخلاق الحماية والوقاية المنشغلة بمصير الإنسانية، التي يغلب عليها طابع تضحية الأجيال الحاضرة لأجل أجيال المستقبل. إنها تشبه الأخلاق الأبوية، فهي عبارة عن مسؤولية مطلقة وأصيلة ودون اتفاق مسبق، وتتميز بالشمولية، لأنها تلبي كل ضروريات الطفل ماديا ومعنويا.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.