«ألف داحس وليلة غبراء» مرثية براءة في زمن القذافي

الفيتوري.. حطّابا في غابات ليبيا ومتاهاتها

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«ألف داحس وليلة غبراء» مرثية براءة في زمن القذافي

غلاف الرواية
غلاف الرواية

«حلمت أن أبي مات.. في ساحة السجن، بعد سنوات عشر قضيتها فيه، عند لحظة إطلاق سراحي أخبرني أخي أن أبي قد مات». بهذه المرثية الصامتة الموجعة، يبدأ أحمد الفيتوري روايته «ألف داحس وليلة غبراء»، لكن هذا الحلم للبطل السجين ظل بمثابة صرخة تترنح أصداؤها في أجواء الرواية، مقلّبة وقائعها ومفارقاتها تارة بين الموت كحقيقة مباغتة في قبضة واقع يشبه المجهول، وتارة أخرى بين الحرية كفعل هش في قبضة حلم مخاتل دائما.
عشر سنوات قضاها بطل الرواية، الكاتب نفسه في السجن محكوما عليه بالبراءة، في قسم يحمل المعنى نفسه «قسم المحكوم عليهم بالبراءة»، وفي لحظة تلمسه شمس الحرية يصطدم بموت تاريخه الشخصي، متجسدا في رحيل والده حلقة الوصل الدفيء الحنون بين فواصل حياته، وعقدها الزمنية المتشابكة، تحت سقف وطن تحول إلى غابة من الخوف والتربص.
تتكون الرواية من ثلاث روايات صغيرة، هي بمثابة ثلاث كتل نصية تربط بينها رمزية الغابة (غابة الأشجار الميتة - غابة القضبان الحية – غابة الرءوس المقطوعة)، بينما يظل خيط درامي شفيف، في حالة شد وجذب طيلة صفحات الرواية المائتين والخمسين، يتكثف في العيش تحت ظل براءة مغتالة، صارت تهمة من لا تهمة له.
يفتح موت الأب الرواية على تخوم الماضي والحاضر معا، وعبر فصولها الثلاثة تتكشف أقنعة فترة حكم القذافي لليبيا والتي امتدت لأربعين عاما، تحولت فيها البلاد إلى ما يشيه المتاهة واللغز تحت شعارات سياسية واجتماعية قشرية مخادعة هي في جوهرها غطاء لقمعية النظام ومحاولة تأبيده في السلطة. ومن أبرز الأقنعة التي تكشف عنها الرواية في طوايا فصولها، المكان الذي أخفي فيه الزعيم الشيعي المعروف موسى الصدر، والذي اختفى في أثناء زيارة رسمية له إلى ليبيا، وكذلك المعارض الليبي منصور الكيخيا الذي اختطف في القاهرة بعد أن حضر من أميركا للمشاركة في مؤتمر عن حقوق الإنسان بصفته كحقوقي.
كما تكشف الرواية عن تفاصيل حروب القذافي في الداخل والخارج لتصفية خصومه، وتتناول خرافة حكاية حصان مدينة بنغازي الجامح الذي أرق القذافي في وكر حكمه الحصين بباب العزيزية بالعاصمة طرابلس، وعششت الحكاية الهلامية في مخيلته ككابوس ورمز ارتبط بمدينة ظلت شوكة في حلقه، فتم تهميشها، حتى انفجرت منها ثورة 17 فبراير 2011 التي أطاحت بحكمه، ولقي مصرعه في غبارها على يد «الثوار».
تسيطر ثلاثة مفاتيح رئيسية على فضاء الرواية هي: المخبز، المعتقل، اللجان الثورية، ويشكل كل مفتاح كتلة نصية، ينوع من خلالها الفيتوري مساقط السرد وأزمنته ومناخاته ومقوماته فنيا ولغويا، موليا شغفا خاصا بروح البيئة وبداهتها وحكمتها التي اكتسبها عبر تراكم الخبرات في عباءة التاريخ والزمن. تعكس لغة الرواية كل هذا في بساطة سردية سلسة، فيما يبدو زمنها مفتوحا على البدايات والنهايات، متواكبا مع عمر البطل نفسه، ولحظة مخاض وضعت المجتمع على عتبة تحول فاصلة نحو المستقبل مع بداية ظهور النفط في البلاد.
تشكل بنغازي لحم الرواية وذاكرتها، فهي مسقط رأس الكاتب (البطل)، وهي صرة الحكايات، تبدأ منها وتفترق، ثم تعود إليها، وكأنها نقطة ميزان الصراع ومصفاته ومجمرته في الوقت نفسه. إنها المدينة التي جعلها الكاتب نفسه بمثابة أسطورة خاصة في كتابه المهم «سيرة بنغازي»، وعرف ترابها خطى الشهداء وأقدام المحاربين العظماء.
في شوارع بنغازي وحاراتها وبحرها وغاباتها ومقابرها وصراعات أهلها البسطاء مع الحياة، ولقمة العيش تدور أحداث الرواية الأولى «غابة الأشجار الميتة»، ويتصدر المشهد «المخبز» وصورة الأب «الرايس» الخباز، صاحبه: «فارع القامة، وببشرته النبيذية وطوله كما جن النار يقف عند الفرن، مصارع متوثب، حتى لا تأخذه غفلة فيحصد جنون النار ما زرع».. الأب الذي تشرب مهنة الخبيز من معلمه الإيطالي، يعرف حكمة النار، ويعرف أيضا أن «الخباز الجيد عليه أن يتعلم الطبخ، فكل ما علاقة له بالبطن يحتاج لبعضه». إنه لاعب النار، يعرف كيف يهدهدها، حين تنضج أرغفة الخبز كما يحب ويشتهي، وقته موزع ما بين المخبز والنار وامرأتين رهن طاعته وحزمة من الأطفال الصغار. لكنه مع ذلك ممتلئ شهوانية بالحياة، يعرف كيف يستحلبها ويلهو بها إلى أقصى درجات النزق واللذة؛ يصفه الكاتب السارد في عبارة موجزة قائلا: «جعل من النار زوجة طيعة ومن الليل النادل».
يعكس المخبز صورة مصغرة لحياة المدينة، ففيه تتضافر مجموعة من الحرف تكمل بعضها بعضا، بداية من جالب وقود الفرن، من غابة الحطب الناشف، والعجان والخباز والكريك (آلة تسحب بها أرغفة الخبز من الفرن بعد أن تستوي)، ثم موزع الخبز، كما أن ما يحدث في المخبز سر، من العيب أن يطلع عليه أحد خارجه.
في هذا الجو ينبسط السرد أفقيا في فضاء المشهد، من خلال عين طفلة، هي عين البطل في خطواتها الأولى الغضة على عتبة المدرسة والحياة، لكن بعد موت الكريك، ومقتل الحصايني، صاحب أسطبل الخيول، حيث وجد مربوطا على ظهر حصانه في السوق، وفي رقبته علق السكين الذي ذبح به، كما قطع قضيب الحصان ودس في فم القتيل. لم يعثر البوليس على الجاني، لكن سرعان ما تناثر المشهد في لطشات سردية لاهثة، وتحولت حكاية الحصان بخيطها البوليسي إلى خرافة تتسع وتتنوع مشاهدها كل يوم على ألسنة الناس، فمنهم من شاهده بالليل يركض في الشوارع والساحات مجتاحا كل شيء، ومنهم من شاهده يضرب أسطح البيوت بحوافره الحادة، محاولا التخلص من فارس يمتطيه، ممسكا سوطا ذهبيا في يده، ومنهم من شاهده عند الشاطئ يصارع أمواج البحر.
يحاول الراوي الطفل مساعدة «الرايس» والده، ويتقن مهنة الكريك، لكن أحوال المخبز تسوء، بعد أن شح وقود الحطب، وتحول الكثير من المخابز إلى الاعتماد على الغاز، على نمط المخابز الآلية الإيطالية، وشيوع البطالة بين الشباب اللاهث للعمل بحقول معسكرات النفط.
في المعتقل الذي تدور حوله الرواية الثانية «غابة القضبان الحية»، يضعنا الراوي السجين على ذمة البراءة أمام واقع عبثي، يصعب تفكيكه، والوصول لأهدافه وغاياته، حيث تطالعنا كائنات مهمشة لمجموعة ضخمة من البشر تتسع كل يوم، تقبع ككتلة صماء بين جدران وقضبان حديدية صلدة، سجناء سياسيين، خدعتهم إغراءات الحياة وشعارات كاذبة لنظام فاسد، ليكتشفوا أنهم لم يعيشوا سوى الموت، خارج وداخل السجن.. ومع ذلك يتشبثون بإرادة الحياة والأمل في لحظة حرية.
ينعكس هذا الأمل على مناخ السجن، والذي يتحول إلى كتاب مفتوح، يخط كل سجين فيه صفحته الخاصة، كما ينعكس على حركة السرد في الرواية، فيأخذ سمتا توثيقيا، للأشياء على عبلها وفطرتها كما تحدث في السجن، وينسج الكاتب الراوي من خلال ضمير الأنا الساردة شبكة متعددة الثقوب، يطل منها على ذاته الضامرة الذابلة، وعلى الذوات الأخرى للسجناء، ململما قصصهم وحكاياتهم، كأغنية حزينة، أصبحت مجهولة النسب والهوية، وسط شلال من الزيف والكذب والخنوع يضرب الوطن في مقتل.
في السجن لا أحد يجاهر بالحقيقة، فهي مهتزة ومشوشة دائما، لا يعرفها، ولا يمتلكها، وعليه أن يستلهمها من نظريات الديكتاتور الحاكم. لكن في المسافة بين قسم البراءة بالسجن الجماعي حينا وحينا آخر في الزنزانة الانفرادية، يتناثر ظل هذه الحقيقة داميا موجعا، وبحسرة قاتلة يتأمل البطل فواجع تلك الحقيقة في ملامح وجوه وحيوات كثيرة تتشابك مع حياته ومصيره، مثل الجندي الألماني والمهندس الإيطالي وأمير جماعة التحرير الإسلامي ودي دمبا زعيم حركة تحرير أفريقية ورجال مخابرات لعبوا أدوارا مهمة لتنفيذ مخططات النظام ثم أصبحوا أوراقا محروقة في نظره، وجنود وعمال وكتاب وشعراء وصحافيين وبشر عاديين، من مصر وتونس وفلسطين وجنسيات أخرى.
وفي ظل كوابيس ثلاثة سجون تنقل بينها ينقسم الراوي على ذاته، فيتوهم أنه سرق روايته من راو آخر، يحمل اسمه نفسه كان رفيقه بالسجن، بل يخترع شخصية يسميها «كاتب الرواية» يستعين بها أحيانا كظله الهارب.. تكسر هذه الحيلة السردية من أحادية السرد وتنوع مساربه، ليعيد البطل استنطاق واستحضار الحكايات والأشياء كما تتراءى على مرآته وفي نفسه كذكريات سجين سياسي.. يشير الكاتب السارد إلى هذه الحيلة في بداية الرواية قائلا: «ليس مثل أن تزج في الزنازين وأنت بريء مثل أن تكون السجين الذي لم يتهم بأي جرم في الأساس».
وفي ذات السجن التقى الراوي من جعله يكتب رواية «غابة الأشجار الميتة» لكن إلى الساعة لم يعترف لأحد حتى لنفسه بأنه لم يكتبها بل سرقها، كثيرا ما يخيل إليه أنه كاتب الرواية، وليس كما يجوس في نفسه أنه سارقها.
في الجزء الثالث «غابة الرؤوس المقطوعة» تصل الرواية إلى ذروة أقنعة القذافي العبثية، فبعد خروج البطل الراوي من السجن ومكابدته العيش في حي ومدينة يرزحان تحت العنف والرعب ومطاردات اللجان الثورية، يخطف في ظروف غامضة وينقل إلى مكان مجهول لا يعلمه أحد، بل يقام له سرادق عزاء بعد اليأس من محاولات العثور عليه. لكنه يجد نفسه في جنة بلا أبواب ولا نوافذ، ويقدم له يوميا ثلاث وجبات منتظمة من ألذ وأشهى الطعام، بالغرفة مكتبة بها أحدث المؤلفات من روايات وكتب وأفلام سينمائية وشرائط موسيقى. حين طلب استخدام دورة المياه ليقضي حاجته ينفتح له باب، مطلا على حديقة غناء بها دورة مياه فخيمة.. «كنت أقضي الوقت كله كما في حكايات من ألف ليلة وليلة، ففي الصباح أفيق مبكرا لأمارس الرياضة وأتمشى في حديقة الدار، ثم أستحم وأدخل للإفطار وبعده أقرأ ما تيسر من كتب».
بعد استمالته النادل العجوز المكلف بخدمته، يكتشف أنه في وكر القذافي بباب العزيزية.. وشيئا فشيئا تنفك خيوط المكان، حيث يعرف أن جاره «الشبح الأسود» هو الإمام الشيعي موسى الصدر بعباءته المعروفة، وأن المناضل الحقوقي المعارض المختفي منصور الكيخيا يقبع بالوكر ويعاني من مرض السكري، وصحته في حالة خطرة.. وهو المرض نفسه الذي أصاب البطل في السجن، كما يشاهد القذافي وأذنابه ومدير مخابراته وحفلات اللهو والعربدة والسحر والشعوذة التي يعج بها الوكر ليلا.
تنشد خيوط السرد ببطء وثقل في منولوجات داخلية موجعة، وكأن الذات تطفو في منطقة من انعدام الجاذبية، يتساوى فيها الوعي واللاوعي، ويصبحان شيئا مبهما معلقا في سقف العدم. لكن بعد فترة يؤخذ الراوي في مكان آخر ويجلس على كرسي وثير، معصوب العينين، ثم تأتي لحظة إطلاق سراحه على يد القذافي.. يصف الراوي الكاتب هذا المشهد في آخر الرواية على هذا النحو: «لقد طلبته لساعات فيحجز هذا الوقت كله، وستقول لي إنك تخاف أن تذكرني. اذهب عني.. لا حول الله. وامتدت يده لتنزع غطاء عيني لم أر شيئا، ضوء الشمس كما غطاء بديل.. لقد استعنت بالسحرة الأفارقة وضاربات الودع، رميت النرد فحط على اسمك.. ما أربكني وكادت قواي تخور: قل ما الحصان الذي في بنغازي؟».
وهكذا تضعنا هذه الرواية الخصبة أمام حالة من حالات العود الأبدي، ليس بمفهوم نيتشه الفلسفي، وإنما بعبثية القذافي، التي لم تزل أقنعته تكبل الواقع الليبي في بحثه عن نقط ضوء لمستقبل يصنع حياة مستقرة.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.