الجاسر والعثيمين يُحلّقان في تاريخ تأسيس السعودية

عن بعثة فيلبي الأولى إلى نجد 1917

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

الجاسر والعثيمين يُحلّقان في تاريخ تأسيس السعودية

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

مع اقتراب يومها الوطني الرابع والثمانين الميلادي (السادس والثمانين الهجري) في الثالث والعشرين من هذا الشهر، وضمن شغفٍ بتتبّع تاريخ السعودية وملحمة تأسيسها وتوحيدها، وقفت على بحث من تسع عشرة مقالة متسلسلة معمّقة، نشرها عام 1997 العلامة حمد الجاسر (المتوفى عام 2000) وضمّنها قراءته لدراسة الدكتور عبد الله العثيمين (المتوفّى هذا العام) لتقرير «بعثة إلى نجد» لفيلبي (المتوفى عام 1960) وكان فيلبي كتب التقرير عام 1918 وترجمه العثيمين عام 1997.
وقد حلّقت القامتان العلميّتان (المترجم العثيمين، والمعلّق الجاسر) - عن علم وتخصّص - في سبر أغوار تاريخ الحقبة المبكّرة لتأسيس السعودية عند تناول ذلك التقرير الذي وثّق فيه فيلبي رحلته الأولى إلى الجزيرة العربية (عامي 1917 و1918) ولقاءه الأول بالسلطان عبد العزيز آل سعود (قبل أن يحمل لقب الملك) فجاء التقرير - الذي بلغت صفحاته قرابة المائتين، مطبوعًا في مطابع الحكومة ببغداد في العام نفسه (1918) - رواية تسجيليّة دوّنت مجريات الأحداث السياسية في الجزيرة تلك الفترة.
اعتنى الدكتور العثيمين بترجمة التقرير، والتعليق عليه، والتقديم له بلمحة تاريخية من 60 صفحة، ونشرت التقرير والتقديم والتعليق مكتبة العبيكان بالرياض عام 1997 في كتاب واحد بعنوان «بعثة إلى نجد»، وفي العام نفسه، تناول الشيخ الجاسر تقرير فيلبي ومقدمة العثيمين وتعليقاته، في قراءة مطوّلة بلغت 150 صفحة، في سلسلة متتالية من 19 مقالة نشرها في صحيفة «الرياض» اليومية كما سلف، ويُعدّ الكتاب وتلك المقالات على الرغم من مضي نحو عشرين عامًا على نشرهما، من أوفى ما كُتب في السعودية عن فيلبي، حيث ساعدت معرفة الجاسر الشخصية بفيلبي - في أثناء إقامة الأخير بالسعودية واجتماعهما مرارًا - على أن يلم الجاسر بتراثه، ويكتب هو والدكتور العثيمين بالتفصيل عن مؤلفاته، وقد اتفقا على أن فيلبي كان أكثر الغربيّين في القرن الماضي اهتماما بالجزيرة العربية، بحثًا ودرسًا ونشْرًا، خصوصًا في المجالات التاريخية والجغرافية.
يستعيد الجاسر بالتفصيل في مدخل مقالاته، جهود الدكتور العثيمين في ترجمة تقرير فيلبي، والإضافات التي زادها، والتعليقات التي أدخلها عليه، ثم يدلي بمعلوماته الشخصية الإضافية عن مصير وثائق فيلبي في السعودية، وتعرُّض بعضها للاندثار، والبعض الآخر للبيع، واستقرار جزء منها (عبر «أرامكو») في مكتبة «سانت أنتوني» في جامعة أكسفورد البريطانية.
يعرض تقرير فيلبي - المشار إليه لبدايات الاتصالات بين بريطانيا والدولة السعودية الناشئة، فيشير إلى زيارتين قديمتين لم تحققا غرضهما قام بهما العقيد الرحّالة سادلر، في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، والعقيد الرحّالة لويس بيلي بعدها بنحو نصف قرن، ثم يشير إلى أن بريطانيا أهملت وسط الجزيرة العربية (إمارة نجد) رغم أهميته حتى عام 1911 عندما بعثت الكابتن شكسبير الذي دوّن مذكّرات حول اتصالاته، وقتل عام 1915 في معركة جراب الشهيرة - بين ابن سعود وابن رشيد - وسط نجد، وقد أثنى فيلبي كثيرًا على كفاءة شكسبير، وأضاف د. العثيمين أن شكسبير كان التقى السلطان عبد العزيز في الكويت عام 1910، والتقط صورة معه والشيخ مبارك، معتقدًا أنها أول صورة فوتوغرافية للإمام عبد العزيز.
إن أهمية تقرير فيلبي - موضوع هذا المقال - تكمن في كونه أسّس لبدء العلاقات الرسمية بين بريطانيا والسلطان عبد العزيز، مع صعود نجمه بُعيد انضمام إقليمي الأحساء والقطيف إلى إمارة نجد، وفي اعترافها به حاكمًا، وقد كتبه فيلبي في أعقاب معركة جراب كما عرض للخلاف السعودي - الهاشمي ومحاولته الوساطة فيه، وإلى النزاع البريطاني - التركي على مشيخات الخليج، كما تطرّق لترتيبات الجوار في المثلث السعودي - الكويتي - العراقي، وتحرّكات القبائل (خصوصًا العوازم والعجمان ومُرّة) في تلك الأنحاء، ونزعة ملك الحجاز (الشريف حسين)، إلى زعامة العالم العربي وحلمه في الخلافة الإسلامية، مما يمكن الرجوع بشأنها إلى كتاب الدكتور العثيمين ومقالات الشيخ الجاسر، وقد تزامنت إقامة فيلبي في هذه البعثة مع التحضير للاستيلاء على حائل، ومع بدء المناوشات مع الأشراف في المدن الحدودية الحجازية النجدية (الخرمة وتربة)، في ضوء اعتراف الإنجليز بالسلطان عبد العزيز حاكمًا على نجد، وقد أقام فيلبي في هذه الرحلة بضعة أشهر في الجزيرة العربية (بين عامي 1917 و1918) استثمر بعضها في التجوال والبحث الجغرافي والأثري، في أول ملامسة له لهذه الجوانب العلمية الصرفة التي شكّلت جزءًا معتبرًا من مؤلفاته القيّمة فيما بعد.
قام فيلبي بتلك البعثة خلفًا للراحل الكابتن شكسبير، ومنتدبًا من السير بيرسي كوكس المعتمد السياسي لبريطانيا في الخليج، وشاركه فيها اثنان من المسؤولين الإنجليز في العراق ومصر، وقد لخّص أهداف البعثة في نقاط، منها «تنقية الأجواء بين السعوديين والأشراف في الحجاز، والبحث في مستقبل العلاقات السعودية البريطانية، وتعيين وكيل لهم في نجد، وإصدار عملة نحاسية سعودية بطلب من ابن سعود»، ومن الواضح من لهجة هذا التقرير الأول أن فيلبي قد صاغه بميول إنجليزية، قبل أن يتشرّب الإعجاب بعبد العزيز، وبقدراته القيادية، وهو الإعجاب الذي اتّسمت به كتابات فيلبي اللاحقة، وأغراه للإقامة في مكة المكرمة والرياض فيما بعد، وللزواج من روزي العبد العزيز (سعودية من أصول بلوشية) وإنجاب ابنيهما فارس وخالد في العقود الأخيرة من حياته.
يشعر قارئ التقرير كما سلف، ببداية تحوّل ميول فيلبي نحو شخصية السلطان عبد العزيز واقتناعه بتوجّهاته السياسية، كما يكشف التقرير التعهّدات التي كان فيلبي يقدّمها له باسم حكومته، ويصف تذبذب مواقف بريطانيا تجاه تلك الالتزامات، محافظةً منها على موازين القوى في المنطقة، ودفع الأمور تجاه ما يُفضي إلى هدف إضعاف العثمانيين، ومع أن تقرير فيلبي قد تضمّن معلومات مهمة عن سير الأحداث السياسية في تلك الفترة من تأسيس السعودية، وعن بداية نشوء العلاقات بين لندن والرياض، فقد استفاد الدكتور العثيمين من معرفته الأكاديمية العميقة بالدعوة السلفية وبظهور حركة الإخوان النجديين (الوهابية كما سمّاها فيلبي)، لتوضيح بعض جوانب التقرير عن نشوئها، ولتفنيد مجمل المعلومات التي تضمّنها تقريره الذي كتبه في أول زيارة له إلى نجد، وقد يكون تقرير فيلبي هذا أقدم مصدر عن تصاعد حركة «الإخوان» في بادية نجد في تلك السنوات، وعن بروزها قوةً مساندةً لنظرائهم من الحضر، حيث شكّلوا جميعًا نواة الجيش الدائم، وهو ما يجعل تحليل فيلبي والجاسر والعثيمين في موضوع «الإخوان» مفيدًا للباحثين في هذا الشأن، وقد أضفى كل من الجاسر والعثيمين - من معرفتهما بجغرافيا الجزيرة العربية وبتاريخها - تصحيحات لبعض المفردات الواردة في تقرير البعثة البريطانية - ذي الطبيعة السياسية والعسكرية - إلى إمارة نجد نواة الدولة السعودية في عهدها الثالث، وقد وردت في التقرير إشارات متكررة للأمير تركي النجل الأكبر للسلطان عبد العزيز، الذي ساند والده في تحركاته، ثم ولّاه إمارة إقليم القصيم وتوفّي بحمّى «سنة الرحمة» عام 1918 عن 19 عامًا، وألحق فيلبي بتقريره نص معاهدة القطيف الأولية التي عقدت بين ابن سعود وبريطانيا بواسطة السير بيرسي كوكس في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1915، التي حلّت محلها معاهدة جدة 1926 ويعمل مركز حمد الجاسر الثقافي بالرياض حاليًا على إعادة نشر مقالات الجاسر التسعة عشر (المشار إليها هنا) في كتاب يضمّ أبحاثه الكثيرة المنشورة صحافيا في تاريخ الملك عبد العزيز.
من الناحية التأليفية، كان ذلك التقرير أول الأعمال التوثيقية والعلمية الرصينة التي قاربت العشرين لفيلبي، والمعروف أنه بعض مؤلفاته لا تزال مخطوطة، وقد كُتبت عن سيرته مئات المقالات وثلاثة كتب على الأقل (لخيري حمّاد 1961، وإليزابيث مونرو 1973، وصبري فالح الحمدي 2013).
وختم الشيخ حمد الجاسر قراءته لكتاب الدكتور العثيمين (بعثة إلى نجد لفيلبي) بالقول: «والواقع أن الكتاب يوضح جوانب كثيرة ذات صلة عميقة بتاريخ العرب في جزيرتهم، في ذلك العهد، كما يكشف أمثلة من ألاعيب السياسة التي تقوم بها الدول للسيطرة على العالم، والكتاب يُعدّ مصدرًا أساسيًا في تاريخ السعودية وسيرة موحَّدها».



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.