قمة «عدم الانحياز».. مغزى ضائع وحضور دولي خافت

فنزويلا تحتضنها وسط أزمة اقتصادية خانقة ومعارضة شعبية

طفلان فنزويليان يبيعان سمك السردين في فيلا روزا القريبة من بورلامار أول من أمس (رويترز)
طفلان فنزويليان يبيعان سمك السردين في فيلا روزا القريبة من بورلامار أول من أمس (رويترز)
TT

قمة «عدم الانحياز».. مغزى ضائع وحضور دولي خافت

طفلان فنزويليان يبيعان سمك السردين في فيلا روزا القريبة من بورلامار أول من أمس (رويترز)
طفلان فنزويليان يبيعان سمك السردين في فيلا روزا القريبة من بورلامار أول من أمس (رويترز)

افتتحت القمة السابعة عشرة لحركة عدم الانحياز، أمس، في فنزويلا، التي تسعى إلى كسر عزلتها الدولية وتشهد أزمة سياسية واقتصادية عميقة.
ويأتي هذا الاجتماع الذي يستمر حتى اليوم في جزيرة مارجريتا، بينما يتعرض الرئيس نيكولاس مادورو لضغوط شعبية، إذ تسعى المعارضة اليمينية، التي تشكل أغلبية في البرلمان، إلى تنظيم استفتاء لإقالته قبل نهاية العام وتعول على تراجع شعبيته.
ومن 120 بلدا تشكل حركة عدم الانحياز التي تأسست قبل خمسين عاما في أوج الحرب الباردة، لم تذكر كراكاس عدد الدول المشاركة في المؤتمر. وتتسلم فنزويلا الرئاسة من إيران لثلاث سنوات.
وقال مادورو، الذي يتهم المعارضة بتدبير انقلاب بدعم من واشنطن: «سأغتنم فرصة هذه القمة التاريخية ورئاسة الحركة للاستمرار في التنديد بهذا اليمين الموالي للإمبريالية الراضخ لمصالح الإمبراطورية»، في إشارة إلى الولايات المتحدة.
من جانبه، وصل الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى مارجريتا لحضور الاجتماع، وسط توقعات مشاركة ضعيفة بشكل قياسي لهذه المجموعة التي تعود إلى فترة الحرب الباردة.
وتأمل فنزويلا في الحصول على دعم لحملتها من الدول المنتجة للنفط من أجل تحسين أسعار النفط.
وقال وزير النفط لواوجيو ديل بينو، أول من أمس، إن «إيران وفنزويلا والإكوادور ستكون حاضرة. سنستخدم هذا الاجتماع لمواصلة بناء هذا التوافق الذي أطلقه الرئيس نيكولاس مادورو»، من أجل أسعار أكثر عدالة للنفط.
وقبل مغادرته من كيتو، صدق الرئيس الإكوادوري، رافائيل كوريا، على مباحثات منتجي النفط المزمعة، قائلا إن مندوبين من بلاده وإيران والجزائر ونيجيريا وفنزويلا سيجرون مباحثات. وقال للصحافيين إن «أسعار النفط تواصل الهبوط.. وهذا يضرنا جميعا»، مضيفا: «لذلك سوف نجري محادثات في مارجريتا باجتماعات ثنائية ومتعددة الأطراف بين أعضاء أوبك وغير الأعضاء في أوبك، والذين هم منتجون ومصدرون مهمون».
لكن هذا الأسبوع أثبت أن فنزويلا تزداد عزلة على الساحة الدولية، بما في ذلك في منطقتها. فقد سحبت الأرجنتين والبرازيل والباراغواي والأوروغواي الدول المؤسسة للسوق المشتركة لأميركا الجنوبية من كراكاس الرئاسة الدورية لهذا التكتل. وأخذت هذه الدول على فنزويلا عدم تصديقها منذ انضمامها إلى «ميركوسور» في 2012 سوى على عدد محدود من القواعد القانونية للسوق. وسيكون عليها القيام بذلك قبل الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) تحت طائلة تعليق العضوية.
وردّت فنزويلا بغضب، وقالت إنها ترفض هذا القرار وتحتفظ برئاسة السوق، ما عقّد الوضع في هذه الكتلة الإقليمية التي تأسست في 1991، وتأتي قمة عدم الانحياز وسط توتر داخلي شديد في هذا البلد النفطي الذي تراجع اقتصاده مع انخفاض أسعار النفط الخام، وبات يشهد أسوأ تضخم في العالم، يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ 720 في المائة ونقصا بنسبة ثمانين في المائة من المواد الغذائية والأدوية.
بهذا الصدد، قال المحلل ميلاغروس بيتانكور: «ما هدف مادورو؟ أن يجعل الآخرين يعتقدون ألا شيء يحدث هنا». وأضاف أنه «لا يريد مزيدا من الخسارة في شرعيته الدولية بعد أن خسرها على المستوى الوطني منذ أمد بعيد». وتابع: «لكن البلاد ليست في ظرف يسمح بتنظيم هذه القمة. وستقلل من أهميتها مشكلة انعدام الأمن ونقص المؤن».
من جانبه، اعتبر كنيث راميريز، من جامعة فنزويلا المركزية، أنه من خلال استقبال القمة «ما تسعى إليه فعليا (الحكومة) هو صورة (المشاركين) الباهظة الكلفة، سعيا للتغطية على الأزمة الداخلية الخطرة وعزلة فنزويلا دوليا».
وتتهم المعارضة الحكومة بإنفاق الملايين في هذا الحدث الذي لا يهدف سوى إلى «إعطاء صورة جيدة»، و«تزييف» الوضع. وقال المرشح السابق للانتخابات الرئاسية إنريكي كابريليس: «إنهم ينظمون حفلا يستهين بالفنزويليين الجوعى».
من جهته، اعتبر رئيس البرلمان، هنري راموس آلوب، أن قمة حركة عدم الانحياز هي «اجتماع مستبدين».
وكانت الجزيرة السياحية التي ستحتضن القمة شهدت في الأسابيع الأخيرة بعض التوتر، وتم توقيف 30 متظاهرا إثر مظاهرات ضد زيارة الرئيس مادورو.
وأفرج لاحقا عن الموقوفين، باستثناء الصحافي بروليو جاتار (فنزويلي - تشيلي)، ما أثر على العلاقات بين فنزويلا وتشيلي. ونشرت السلطات أكثر من 14 ألف شرطي وعسكري لتأمين قمة عدم الانحياز.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟