إبيكتيتوس: العبد الأعرج فيلسوفًا رواقيًا مثاليًا

علمنا كيف نغير ذواتنا حينما تكون الظروف خارج السيطرة

إبيكتيتوس
إبيكتيتوس
TT

إبيكتيتوس: العبد الأعرج فيلسوفًا رواقيًا مثاليًا

إبيكتيتوس
إبيكتيتوس

يروى أن الفيلسوف إبيكتيتوس، كان عبدا لشخص يدعى «إبافروديت». وذات يوم قرر سيده أن يلهو به بطريقة غريبة، وهي ليّ ساقه بآلة للتعذيب. فقال له إبيكتيتوس: «إنك ستكسر رجلي». لكن سيده لم يأبه لذلك، وتمادى في ليّها، وإبيكتيتوس يتحمل صابرا ولا يبدي جزعا، حتى كسرت ساقه. ولم يقل بعدها، سوى: «ألم أقل لك يا سيدي إنك ستكسر ساقي؟».
بالطبع، هذا الحادث سيجعل إبيكتيتوس يعيش بقية حياته، يعاني من ضعف الجسم وعرج الساق، لكنه يظهر لنا أيضا، وجها من فلسفته المنتمية إلى المدرسة الرواقية، التي تدعو إلى ضرورة الثبات عند الشدائد، والخضوع لتصرفات القدر، والصبر على المدلهمات، والسيطرة على الانفعالات العنيفة.. فمن هو إبيكتيتوس؟ وما أبرز ملامح مواقفه الرواقية؟
لمعالجة هذا الأمر، سنعتمد بالأساس، على كتاب إبيكتيتوس «المختصر»، الذي ترجمه إلى العربية وشرحه وعلق عليه، الدكتور عادل مصطفى، وأصدرته دار «رؤية» سنة 2015.

من هو إبيكتيتوس؟

يعد إبيكتيتوس من أهم فلاسفة الرواقية المتأخرين. وهو لم يكتب، شأنه شأن الفيلسوف سقراط. ويعود الفضل في كتابة سيرته وتوثيق أخباره وكتبه، لتلميذه فلافيوس آريانوس، الذي قام بمثل ما قام به أفلاطون مع أستاذه سقراط.
ولد إبيكتيتوس عام 50م، في مدينة تدعى هيرابوليس، في آسيا الصغرى (تركيا حاليا)، لوالد غير معروف، وأم جارية تعلم منها اليونانية. وقد ولد إبيكتيتوس عبدا، ولم تتح له فرصة التعلم. وحتى كلمة «إبيكتيتوس» مجرد لقب وليست اسمه الحقيقي، وتعني حرفيا باليونانية: «الشخص المقتنى» أو «العبد». وقد صار إبيكتيتوس، ينتقل من سيد إلى سيد، ومن مدينة إلى أخرى، إلى أن أصبح عبدا لرجل يدعى إبافروديت. وهو سكرتير الإمبراطور نيرون، وربما كان سيدا سيئًا. ويكفي أنه كسر له رجله لهوا، إلا أنه على الرغم من ذلك، قد قام بعمل جليل يشكره التاريخ عليه. فهو حالما اكتشف موهبة عبده، منحه مباشرة تعليما حرا. وقد كان التعليم آنذاك امتيازا. بل أرسله ليستمع إلى محاضرات الفيلسوف الرواقي البارز، آنذاك، موسونيوس روفس. وبعد الدراسة بسنوات، أصبح إبيكتيتوس فيلسوفا. وقد كان محظوظا، لأن لقبه فيلسوفا سيتزامن مع حصوله على حريته من سيده شديد الصرامة، قانونيا، وباعتراف «البريتور»، وهو القاضي الكبير عند الرومان. فأصبح مواطنا يعيش في روما في بيت صغير شبه متهدم ودون باب، ولا يوجد فيه سوى مائدة وحصير ومصباح من الحديد. وقد سرق منه المصباح الحديدي ليغيره بمصباح من الطين. عموما، كانت الوحدة والبساطة سمتي حياته. ويحكى أنه ذات يوم وجد طفلا متروكا بلا مأوى، فقرر أن يعوله مستخدما امرأة فقيرة للعناية به.
عندما تولى الإمبراطور دوميتيان الحكم، أصدر أمرا بطرد الفلاسفة من إيطاليا. وهجر إبيكتيتوس نحو سنة 91م روما، ليستقر في مدينة نيقوبوليس ببلاد اليونان، وفتح بها مدرسة، أصبحت تستقبل الطلاب أفواجا. وكان كثير منهم من علية القوم، أي من الشبيبة الأرستقراطية الرومانية. وكانوا يحرصون على الاستماع إلى دروس الفيلسوف العبد الأعرج. فحصل إبيكتيتوس على المجد والشهرة، من دون أن يسعى إلى ذلك، حتى قيل إن الناس كانت تقصده للشفاعة والوساطة.
ينتمي إبيكتيتوس إلى قمم الرواقيين أمثال المؤسس زينون، (355/ 263ق.م، وخريسيبوس (280/ 206ق.م)، والفيلسوف الشاعر الروماني سينيكا (4/ 65ق.م) والإمبراطور ماركوس أوريليوس (121/ 180م). إلا أن ميزة إبيكتيتوس، كانت في تطبيقه الصارم لتعاليم الرواقية. فحياته كانت صورة صادقة لفلسفته. كان يطبق ما كان ينادي به، فعاش حياة البسطاء مع القليل من الرزق، خيرا وصبورا، متحملا للنائبات. وكان عكسه مثلا، الفيلسوف سينيكا، الذي لم يلتزم برواقيته في سلوكه، فهو على الرغم من احتقاره المال، جمع ثروة هائلة، كما تورط في بعض المؤامرات وجرائم القصر الإمبراطوري.
ترك لنا إبيكتيتوس مؤلفين؛ هما: «الأحاديث» و«المختصر»، وهو لم يدون شيئا كما أشرنا. والفضل في بقاء كنوزه، يعود إلى تلميذه آريانوس الذي سجل خطب إبيكتيتوس باللغة اليونانية، التي كانت لغة الكلام والكتابة في ذلك الوقت. فكتاب «الأحاديث» هو، في الحقيقة، 8 كتب، لم يبق منها سوى 4 كتب، تضم 95 فصلا، عبارة عن خواطر نفسية وأخلاقية. أما كتابه «المختصر»، فهو ذائع الصيت، وكان يستعمله حتى رهبان الأديرة، ويضم 53 شذرة تعد أثمن متن في الأدب الرواقي، بل في الأدب الأخلاقي بوجه عام، ويمتاز بعبارات وجيزة ومركزة.
نقش على شاهد قبر إبيكتيتوس العبارة التالية: «عبد أعرج معوز.. ولكن عزيز لدى الآلهة». أحبه الإمبراطور هادريان وزاره في مدرسته في نيقوبوليس؛ بل اقتبس منه الإمبراطور الرواقي، ماركوس أوريليوس، كثيرا في كتابه «التأملات»، وأثنى عليه القديس أوغسطين. أما الفيلسوف بليز باسكال، فكان يعتبر أحاديث إبيكتيتوس أعز ما يقرأ.

فلسفة إبيكتيتوس

تعد الشذرة الأولى من مؤلف «المختصر»، خلاصة الأخلاق الرواقية. وهي بعنوان: «ما في قدرتنا وما ليس في قدرتنا»، حيث يوضح فيها إبيكتيتوس الموقف الرواقي الذي يفرق فيه المرء بين الأشياء التي له؛ أي التي في قدرته وتحت قبضة إرادته، والأشياء التي تخرج عن أمره؛ أي تلك الخارجة عن قدرته والمتجاوزة له. بعبارة أخرى، على الحكيم الرواقي أن يسأل نفسه: فيم يثق الإنسان؟ أكيد ليس في المال والممتلكات، أو الجسد والصحة، أو المجد والمنصب والمكانة، فهي أمور خارجة عن سيطرتنا، لكن يمكن الثقة، كل الثقة، في إدراكاتنا واختياراتنا وأفكارنا وأحكامنا على الأشياء، فهي الوحيدة التي توجد في إطار سيطرتنا. باختصار، علينا أن نفحص الأشياء، فإذا وجدناها لا تقع تحت تحكمنا، فلا ينبغي أن نعيرها وزنا. وكمثال توضيحي لذلك، نتجه صوب الشذرة الخامسة، التي تعالج قضية الموت. يقول إبيكتيتوس: «ليست الأشياء ما يكرب الناس، ولكن أحكامهم عن الأشياء. الموت مثلا ليس مريعا.. وإنما المريع هو الحكم بأن الموت مريع. لذا فعندما ينتابنا الإحباط أو الاضطراب أو الحزن، فإن علينا ألا نلوم غير أنفسنا، أعني غير أحكامنا نحن. أن يلوم المرء الآخرين على ما أصابه، فذلك من شيمة الجاهل. أما بداية العلم، فأن تلوم نفسك، وأما تمام العلم، فألا تلوم نفسك ولا غيرك».
إن إبيكتيتوس خصوصا، والرواقية عموما، يؤكدان على أن الضرر لا يكون إلا ذاتيا، وهو ليس موضوعيا أبدا.. فالمشكلة ليست في العالم الخارجي، بل في تصوراتنا، فالإنسان ضحية نفسه، فالموت لا حيلة لنا فيه، ولكن يمكن التحكم في الخوف من الموت، فهذا نقدر عليه. يقول إبيكتيتوس: «من التعس أن تنضج أكواز الذرة ثم لا تحصد، ومن التعس أن يكبر الإنسان ثم لا يموت». وعلى الحكيم الرواقي، الإيمان بالقدر والخضوع له من دون تلكؤ.
إن خلاص الإنسان أو تلفه بيده.. فإذا كان قدري أن أصفد بالأغلال، فبإمكاني ألا أئن وأعول. وإذا كان محتما علي النفي، فبمقدوري أن أذهب للمنفى مبتسما ومنشرحا. وإذا كان ينبغي أن أموت، فيمكن أن أموت راضيا من دون خوف. لهذا نجد إبيكتيتوس يؤكد أنه ليس لزاما أن نتخلص من الفقر، بل المهم هو التخلص من فكرتنا عن الفقر لنكون في أحسن الأحوال. فالرواقي النموذجي، يصحح ذاته وتصوراته، ولا يكثرت لما تأتي به صروف الدهر.. فهو يجتهد لتصحيح الفكر، ليصحح الانفعال ويحوله من السلبي إلى الإيجابي.. على الرغم من المرض، فإنه سعيد. وعلى الرغم من الخطر، فإنه سعيد. وعلى الرغم من السجن، فإنه سعيد.. سأقول لك إنه رواقي مثالي.
يقول الدكتور عادل مصطفى، إن عبارة «تصحيح الفكر لتصحيح الانفعال»، لهي فكرة رواقية بسيطة، تلقفها السيكولوجيون المعاصرون، قصد علاج الأمراض النفسية، كالاكتئاب والقلق والخوف والهلع.. فتشغيل الفكر قادر على تحويل النفس. ناهيك بأنه يشير، في التفاتة نبيهة، إلى أن الرواقية يمكن أن تكون ترياقا ضد المادية الاستهلاكية المعاصرة، لأنها تعلم عدم اللهاث وراء الأشياء الخارجية، والاكتفاء بالعالم الداخلي، فهو الخلاص.
بكلمة ختامية نقول مع إبيكتيتوس: «أعطني فكرا، وخذ كل أشياء العالم».



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.