«دولة البغدادي المزعومة» تبحث عن أرض بعد هزائم متلاحقة

راياتها سقطت في «الفلوجة».. وجنودها يلوذون بالفرار

خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
TT

«دولة البغدادي المزعومة» تبحث عن أرض بعد هزائم متلاحقة

خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)

«راياتها تساقطت مؤخرا في الفلوجة بالعراق، ولاذ جنود التنظيم الأكثر شهرة بالفرار»، هذا هو حال دولة أبو بكر البغدادي المزعومة «داعش»، التي باتت الآن تبحث عن أرض جديدة بعد هزائمها المتلاحقة في العراق، سواء كانت هذه الأرض في العراق ذاتها أو سوريا، أو في دول أخرى، لتبث فيها خداعها بحثا عن «خلافة وهمية».
خبراء معنيون بشؤون الحركات الإسلامية أكدوا أن «داعش» يحاول إعادة السيطرة من جديد والبحث عن مناطق جديدة في العراق لتكون منطلقا لدعايتهم من جديد.
وقال الخبراء إن «داعش» عقب هزيمته في مساحات كثيرة بالعراق ينتهج «سياسة الوحش» وانتقل من مرحلة السيطرة واسعة النطاق على الأرض وإدارة كيان خاص به عليها إلى «حرب استنزاف» مرهقة للدولة العراقية. لكن الخبراء حذروا في الوقت نفسه من أن «هزيمة التنظيم في العراق ستفتح بابا من العمليات التفجيرية في الدول الغربية والعربية بشكل ممنهج».
آراء الخبراء اتسقت مع تقرير مصري صدر مؤخرا أكد أن «هزائم التنظيم الإرهابي في الفلوجة على يد قوى التحالف الدولي أثبت فشل محاولات التنظيم للتحول لدولة الخلافة المزعومة التي حاول الترويج لها منذ ظهوره». وقال التقرير إن «التحول لدولة مثل ركيزة أساسية في فكر (داعش) بالعراق، لذا أنشأ نظاما تعليميا خاصا وألف مناهج تتسق مع أفكاره وحدد الولايات التابعة له وللدولة المزعومة التي تتكون من 35 ولاية منها 19 في سوريا والعراق».
أما المراقبون فقالوا إن «الضربات الأخيرة التي وجهها التحالف الدولي والجيش العراقي لعشرات الشاحنات التابعة لـ(داعش) كانت في طريقها للخروج من ضاحية جنوبية في الفلوجة من أجل الفرار، كانت قوية وتركت أثرا في التنظيم، وأن الخطأ الذي وقع فيه (داعش) في الفلوجة هو عدم تقدير الأمر، وذلك في أقوى إشارة على انهيار سريع لخلافته المزعومة».
وتعرض التنظيم الإرهابي الأكثر شهرة الآن بين التنظيمات المتطرفة حول العالم إلى خسائر متلاحقة على يد القوات العراقية التي يساندها الحشد الشعبي والمقاتلون العشائريون والبيشمركة في غرب وشمال البلاد، بعد أن تراجعت قدراته القتالية في تلك المناطق التي فقد السيطرة عليها، إلى جانب استهداف أبرز رموزه وقادته.
وسبق أن أعلن الجيش العراقي تحرير الفلوجة بالكامل (50 كلم غرب بغداد) التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ يناير (كانون الثاني) 2014. كما تم تحرير مدينة الرمادي السنية (على بعد مائة كلم غرب العاصمة بغداد) التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ مايو (أيار) عام 2015. كما طردت القوات العراقية تنظيم داعش في أغسطس (آب) الماضي من القيارة (في الشمال) التي تتمتع بموقع مهم، لمواصلة المعارك في الموصل آخر معاقل التنظيم الرئيسية في العراق.
مصدر مصري قال إن «التحدي الأكبر للتنظيم الإرهابي بعد خسائره الكبيرة في العراق خلال الفترة المقبلة، سيكون محاولة الحفاظ على تماسكه وترابط أعضائه ومنع انتشار عدوى الهروب من أرض الخلافة المزعومة».
التقرير المصري الذي جاء تحت عنوان «داعش.. ومعركة التحول إلى دولة»، ألقى الضوء على محاولات التنظيم الإرهابي التحول لدولة مزعومة في سوريا والعراق، وقال إن «داعش» بدأ بإطلاق مسمى الدولة على التنظيم منذ نشأته، وصولا إلى إصداره شرحا مفصلا لهيكلته وأدوار مسؤوليه ودور الولايات والدواوين وغيرها عبر إصدار جديد بعنوان «صرح الخلافة»، فضلا عن إصدار الدينار الذهبي عملة رسمية للمناطق الواقعة تحت سيطرة التنظيم.
وأوضح التقرير الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه، أن هدف التحول إلى دولة مثل ركيزة أساسية في فكر «داعش» بالعراق، وقد بذل التنظيم جهودا مضنية في سبيل تحقيق هذا الهدف، حتى أنه أنشأ نظاما تعليميا خاصا به، وألف المناهج المتسقة مع الأفكار والآيديولوجيات التي يؤمن بها، وأنشأ الدواوين المختلفة، وحدد الولايات التابعة للدولة المزعومة، التي تتكون من 35 ولاية متوزعة في عدة دول، 19 منها في سوريا والعراق و16 في دول أخرى، وذلك حسب ما أعلن التنظيم. فضلا عن إنشاء «داعش» مجلس الشورى لمعاونة خليفتهم المزعوم البغدادي، وحدد هيئاته ومكاتبه الرسمية، وهي «هيئة الهجرة، وهيئة شؤون الأسرى والشهداء، ومكتب البحوث والدراسات، وإدارة الولايات البعيدة، ومكاتب العلاقات العامة والعشائر».
من جهته، قال الدكتور محمد أحمد، وهو أستاذ جامعي، متخصص في شؤون الحركات الإسلامية، إنه «عند القول بانهزام واندحار تنظيم داعش في العراق وبعض أماكن من سوريا، فقد يكون من غير الجائز التكهن بالقضاء عليهم عن بكرة أبيهم، الأمر الذي يتبقى معه الأذناب التي تحاول حفظ التوازن وإعادة السيطرة من جديد على أجزاء ذات أهمية استراتيجية في سوريا والعراق، وأنه لو تم إجلاؤهم من المناطق الرئيسية، فسيبحثون عن أكثر المناطق السنية لتكون منطلقا لدعايتهم من جديد بشكل متواز في المناطق السنية ونظيراتها في البلدان المجاورة، والبعد عن المناطق الشيعية حيث الاختلاف في الآيديولوجية».
مضيفا لـ«الشرق الأوسط»: «ربما يندفع التنظيم بعد فشله في العراق بقوة نحو فكرة التطبيق الفعلي لـ(الخلافة الإسلامية العالمية) لجذب أنصار من الغرب يؤمنون بفكرتهم فيدخلون فيه طواعية، أو عن طريق الإغراءات التي يلجأ إليها هذا التنظيم ويعتبرها أسلوبا فاعلا في استقطاب الشباب»، موضحا أن هزيمة التنظيم ستفتح بابا من العمليات التفجيرية بشكل ممنهج تعجز الأجهزة الأمنية في العراق عن ملاحقتها لعدم التنسيق والتعاون فيما بينها، مثلما حدث مؤخرا من وقوع عمليات تفجيرية رغم زرع كاميرات المراقبة على مداخل ومخارج المدن العراقية.
في حين قال المصدر المصري إن «الدولة المزعومة لـ(داعش) بدأت قواعدها تهتز بسبب هجمات التحالف الدولي، وهروب كثير من عناصره القتالية خصوصا الأجانب، الذين لاذوا بالفرار من المناطق الواقعة تحت سيطرته في العراق وسوريا، نتيجة انخداعهم بشعاراته الدينية ودعايته المضللة، قبل أن يتعرفوا على حقيقة الأوضاع على أرض الواقع، وهو ما دفعهم إلى محاولة الفرار من التنظيم، والعودة إلى مجتمعاتهم التي هجروها إلى أرض الخلافة المزعومة»، مؤكدا أن هذه الظاهرة (هروب المُقاتلين) الآخذة في التزايد، تُهدد تماسك التنظيم وسيطرته على مقاتليه خلال الفترة المقبلة.
وقدر عدد مقاتلي «داعش» في العراق وسوريا نهاية عام 2015 بنحو 25 ألف مُقاتل بعد أن كان 30 ألفا خلال عام 2014 منهم ما يقرب من 40 في المائة أجانب.
من جهته، أوضح التقرير المصري الذي أعده مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، أن «معركة تنظيم داعش للتحول إلى دولة لن تكلل بالنجاح، حتى إن توافر لها شيء من مقومات الدولة لدى التنظيم، حيث تتوافر الأرض التي يسيطر عليها التنظيم والسكان الذين يقطنون في تلك الأرض؛ لكن من غير المتوقع أبدا أن يحصل التنظيم على القبول والاعتراف الدولي به، فهو في النهاية تنظيم يقوم على عدد من الأفكار والمبادئ التي تتناقض بالكلية مع القواعد والأعراف الدولية، كمسألة الحدود التي لا يعترف بها التنظيم، ومنظوره للتعامل مع المجتمع الدولي».
المصدر المصري قال إنه «تم رصد قيام (داعش) مؤخرا بتنفيذ كثير من أحكام الإعدام على عناصره بتهمة الهروب من الدولة المزعومة»، لافتا إلى أنه رغم محاولة «داعش» إخفاء سبب إعدامه لعناصره؛ فإن كثيرا من الروايات والمصادر والأدلة تشير إلى محاولات هرب فاشلة يقوم على إثرها التنظيم بإعدام تلك العناصر، لتكون عبرة لباقي عناصره وعنصر ردع لمن تسول له نفسه الانشقاق عن التنظيم أو مخالفة أوامره وترك أرض الخلافة المزعومة.
وسبق أن نفذ «داعش» حكم الإعدام فيما يقرب من 300 مقاتل بسبب انشقاقهم على التنظيم في العراق وسوريا خلال أربعة أشهر فقط. وأوضح المصدر المصري نفسه لـ«الشرق الأوسط» أن «تزايد نشر التنظيم للمقاطع المُصورة لتنفيذ أحكام الإعدام لعناصره الهاربة من أرض الخلافة المزعومة، هو دليل على ضعف الانسجام بين عناصره، وكشف زيف الكذبة الكبيرة التي يروج لها التنظيم باسم (دولة الخلافة المزعومة)».
ويرى مراقبون أن «داعش» لم يخسر المناطق التي كانت تحت سيطرته في العراق؛ بل خسر عددا من أبرز قياداته منهم، أبو مسلم التركماني الرجل الثاني في قيادة التنظيم الذي يعرف بـاسم حجي معتز وذلك في ضربة جوية للتحالف الدولي ضد الإرهاب شمال البلاد، ومقتل أبو علاء العفري الذي كان حلقة الوصل بين البغدادي ومستشاريه وأمراء المدن والمقاطعات عبر المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، فضلا عن مقتل القيادي البارز في تنظيم داعش واسمه طرخان باتيرشفيلي ويلقب بأبو عمر الشيشاني.
في السياق نفسه، قال الدكتور حامد مصطفى الخبير في شؤون الحركات الإسلامية: «ما زال (داعش) يحاول التوسع بعد هزيمته في المساحات التي يوجد فيها دفاع ضعيف، فهو ينتهج (سياسة الوحش) الذي يرقب أضعف الفرائس لينطلق خلفها ويذبحها وينهش لحمها، ويتميز (داعش) بالقدرة على الانتشار الواسع والقتال في الوقت نفسه على أكثر من جبهة، وبعد الضغط على التنظيم وهزيمته بحث عن أماكن جديدة للهرب ومعاودة القتال».
وأضاف الخبير في شؤون الحركات الإسلامية لـ«الشرق الأوسط» أن «داعش» يسعى في سوريا إلى تحقيق أي تقدم أو خرق على حساب «جبهة النصرة» التي يراها أضعف من الأطراف الأخرى، وقبل أشهر فتح «داعش» معارك مع «النصرة» في عدد من المواقع التي تعتبر معابر استراتيجية إلى الداخل السوري.
وعن وجود اتجاه لـ«داعش» للانطلاق خارج العراق وسوريا، قال الدكتور مصطفى: «داعش» قد يتحرك في المستقبل نحو عمق المناطق المجاورة له كلبنان، حيث يمهد التنظيم الطريق إلى لبنان مستقبلا، من خلال نقل بعض عناصره وانتحارييه إلى لبنان، كأسلوب تهديدي وتشتيت الجهود المبذولة في محاربته، فضلا عن مواصلة القتال في ليبيا، ومحاولة القيام بعمليات إرهابية في الدول الغربية وفي الدول العربية أيضا.
وتشير الإحصائيات والتقارير إلى أنه تم تنفيذ ما يزيد على 1200 ضربة أو غارة جوية ضد أهداف لـ«داعش» خلال شهر واحد في العراق؛ الأمر الذي قلص زخم «داعش» الذي أصبح الآن متوجسا على الدوام من الهجوم القادم. وقال مراقبون إنه بطبيعة الحال لا يمكن للدول أن تأمل في هزيمة «داعش» من خلال العمل العسكري وحده؛ لكن من خلال الحد من تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب للتنظيم، والحد من تمويله، وهزيمته حيثما يمكنه إلحاق الضرر بشكل مذهل في الفضاء الافتراضي وسوق الأفكار.
وقال الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، إن «داعش» خسر مساحات مهمة في محافظتي الأنبار وصلاح الدين آخرها جزيرة سامراء، في حين يتكثف الحديث عن قرب إطلاق عملية تحرير الموصل مركز محافظة نينوى، لافتا إلى أن «داعش» انتقل من مرحلة السيطرة واسعة النطاق على الأرض في العراق وإدارة كيان خاص به عليها، إلى «حرب استنزاف» مرهقة للدولة العراقية، موقعا عشرات قتلى والجرحى في هجمات انتحارية، لافتا إلى أن خسارة تنظيم داعش لأراض عراقية لن تعني القضاء عليه؛ بل سيظل يستمد أسباب بقائه من ارتفاع منسوب الطائفية في العراق.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».