«دولة البغدادي المزعومة» تبحث عن أرض بعد هزائم متلاحقة

راياتها سقطت في «الفلوجة».. وجنودها يلوذون بالفرار

خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
TT

«دولة البغدادي المزعومة» تبحث عن أرض بعد هزائم متلاحقة

خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)
خسائر بالغة لـ«داعش» من ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق («الشرق الأوسط»)

«راياتها تساقطت مؤخرا في الفلوجة بالعراق، ولاذ جنود التنظيم الأكثر شهرة بالفرار»، هذا هو حال دولة أبو بكر البغدادي المزعومة «داعش»، التي باتت الآن تبحث عن أرض جديدة بعد هزائمها المتلاحقة في العراق، سواء كانت هذه الأرض في العراق ذاتها أو سوريا، أو في دول أخرى، لتبث فيها خداعها بحثا عن «خلافة وهمية».
خبراء معنيون بشؤون الحركات الإسلامية أكدوا أن «داعش» يحاول إعادة السيطرة من جديد والبحث عن مناطق جديدة في العراق لتكون منطلقا لدعايتهم من جديد.
وقال الخبراء إن «داعش» عقب هزيمته في مساحات كثيرة بالعراق ينتهج «سياسة الوحش» وانتقل من مرحلة السيطرة واسعة النطاق على الأرض وإدارة كيان خاص به عليها إلى «حرب استنزاف» مرهقة للدولة العراقية. لكن الخبراء حذروا في الوقت نفسه من أن «هزيمة التنظيم في العراق ستفتح بابا من العمليات التفجيرية في الدول الغربية والعربية بشكل ممنهج».
آراء الخبراء اتسقت مع تقرير مصري صدر مؤخرا أكد أن «هزائم التنظيم الإرهابي في الفلوجة على يد قوى التحالف الدولي أثبت فشل محاولات التنظيم للتحول لدولة الخلافة المزعومة التي حاول الترويج لها منذ ظهوره». وقال التقرير إن «التحول لدولة مثل ركيزة أساسية في فكر (داعش) بالعراق، لذا أنشأ نظاما تعليميا خاصا وألف مناهج تتسق مع أفكاره وحدد الولايات التابعة له وللدولة المزعومة التي تتكون من 35 ولاية منها 19 في سوريا والعراق».
أما المراقبون فقالوا إن «الضربات الأخيرة التي وجهها التحالف الدولي والجيش العراقي لعشرات الشاحنات التابعة لـ(داعش) كانت في طريقها للخروج من ضاحية جنوبية في الفلوجة من أجل الفرار، كانت قوية وتركت أثرا في التنظيم، وأن الخطأ الذي وقع فيه (داعش) في الفلوجة هو عدم تقدير الأمر، وذلك في أقوى إشارة على انهيار سريع لخلافته المزعومة».
وتعرض التنظيم الإرهابي الأكثر شهرة الآن بين التنظيمات المتطرفة حول العالم إلى خسائر متلاحقة على يد القوات العراقية التي يساندها الحشد الشعبي والمقاتلون العشائريون والبيشمركة في غرب وشمال البلاد، بعد أن تراجعت قدراته القتالية في تلك المناطق التي فقد السيطرة عليها، إلى جانب استهداف أبرز رموزه وقادته.
وسبق أن أعلن الجيش العراقي تحرير الفلوجة بالكامل (50 كلم غرب بغداد) التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ يناير (كانون الثاني) 2014. كما تم تحرير مدينة الرمادي السنية (على بعد مائة كلم غرب العاصمة بغداد) التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ مايو (أيار) عام 2015. كما طردت القوات العراقية تنظيم داعش في أغسطس (آب) الماضي من القيارة (في الشمال) التي تتمتع بموقع مهم، لمواصلة المعارك في الموصل آخر معاقل التنظيم الرئيسية في العراق.
مصدر مصري قال إن «التحدي الأكبر للتنظيم الإرهابي بعد خسائره الكبيرة في العراق خلال الفترة المقبلة، سيكون محاولة الحفاظ على تماسكه وترابط أعضائه ومنع انتشار عدوى الهروب من أرض الخلافة المزعومة».
التقرير المصري الذي جاء تحت عنوان «داعش.. ومعركة التحول إلى دولة»، ألقى الضوء على محاولات التنظيم الإرهابي التحول لدولة مزعومة في سوريا والعراق، وقال إن «داعش» بدأ بإطلاق مسمى الدولة على التنظيم منذ نشأته، وصولا إلى إصداره شرحا مفصلا لهيكلته وأدوار مسؤوليه ودور الولايات والدواوين وغيرها عبر إصدار جديد بعنوان «صرح الخلافة»، فضلا عن إصدار الدينار الذهبي عملة رسمية للمناطق الواقعة تحت سيطرة التنظيم.
وأوضح التقرير الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه، أن هدف التحول إلى دولة مثل ركيزة أساسية في فكر «داعش» بالعراق، وقد بذل التنظيم جهودا مضنية في سبيل تحقيق هذا الهدف، حتى أنه أنشأ نظاما تعليميا خاصا به، وألف المناهج المتسقة مع الأفكار والآيديولوجيات التي يؤمن بها، وأنشأ الدواوين المختلفة، وحدد الولايات التابعة للدولة المزعومة، التي تتكون من 35 ولاية متوزعة في عدة دول، 19 منها في سوريا والعراق و16 في دول أخرى، وذلك حسب ما أعلن التنظيم. فضلا عن إنشاء «داعش» مجلس الشورى لمعاونة خليفتهم المزعوم البغدادي، وحدد هيئاته ومكاتبه الرسمية، وهي «هيئة الهجرة، وهيئة شؤون الأسرى والشهداء، ومكتب البحوث والدراسات، وإدارة الولايات البعيدة، ومكاتب العلاقات العامة والعشائر».
من جهته، قال الدكتور محمد أحمد، وهو أستاذ جامعي، متخصص في شؤون الحركات الإسلامية، إنه «عند القول بانهزام واندحار تنظيم داعش في العراق وبعض أماكن من سوريا، فقد يكون من غير الجائز التكهن بالقضاء عليهم عن بكرة أبيهم، الأمر الذي يتبقى معه الأذناب التي تحاول حفظ التوازن وإعادة السيطرة من جديد على أجزاء ذات أهمية استراتيجية في سوريا والعراق، وأنه لو تم إجلاؤهم من المناطق الرئيسية، فسيبحثون عن أكثر المناطق السنية لتكون منطلقا لدعايتهم من جديد بشكل متواز في المناطق السنية ونظيراتها في البلدان المجاورة، والبعد عن المناطق الشيعية حيث الاختلاف في الآيديولوجية».
مضيفا لـ«الشرق الأوسط»: «ربما يندفع التنظيم بعد فشله في العراق بقوة نحو فكرة التطبيق الفعلي لـ(الخلافة الإسلامية العالمية) لجذب أنصار من الغرب يؤمنون بفكرتهم فيدخلون فيه طواعية، أو عن طريق الإغراءات التي يلجأ إليها هذا التنظيم ويعتبرها أسلوبا فاعلا في استقطاب الشباب»، موضحا أن هزيمة التنظيم ستفتح بابا من العمليات التفجيرية بشكل ممنهج تعجز الأجهزة الأمنية في العراق عن ملاحقتها لعدم التنسيق والتعاون فيما بينها، مثلما حدث مؤخرا من وقوع عمليات تفجيرية رغم زرع كاميرات المراقبة على مداخل ومخارج المدن العراقية.
في حين قال المصدر المصري إن «الدولة المزعومة لـ(داعش) بدأت قواعدها تهتز بسبب هجمات التحالف الدولي، وهروب كثير من عناصره القتالية خصوصا الأجانب، الذين لاذوا بالفرار من المناطق الواقعة تحت سيطرته في العراق وسوريا، نتيجة انخداعهم بشعاراته الدينية ودعايته المضللة، قبل أن يتعرفوا على حقيقة الأوضاع على أرض الواقع، وهو ما دفعهم إلى محاولة الفرار من التنظيم، والعودة إلى مجتمعاتهم التي هجروها إلى أرض الخلافة المزعومة»، مؤكدا أن هذه الظاهرة (هروب المُقاتلين) الآخذة في التزايد، تُهدد تماسك التنظيم وسيطرته على مقاتليه خلال الفترة المقبلة.
وقدر عدد مقاتلي «داعش» في العراق وسوريا نهاية عام 2015 بنحو 25 ألف مُقاتل بعد أن كان 30 ألفا خلال عام 2014 منهم ما يقرب من 40 في المائة أجانب.
من جهته، أوضح التقرير المصري الذي أعده مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، أن «معركة تنظيم داعش للتحول إلى دولة لن تكلل بالنجاح، حتى إن توافر لها شيء من مقومات الدولة لدى التنظيم، حيث تتوافر الأرض التي يسيطر عليها التنظيم والسكان الذين يقطنون في تلك الأرض؛ لكن من غير المتوقع أبدا أن يحصل التنظيم على القبول والاعتراف الدولي به، فهو في النهاية تنظيم يقوم على عدد من الأفكار والمبادئ التي تتناقض بالكلية مع القواعد والأعراف الدولية، كمسألة الحدود التي لا يعترف بها التنظيم، ومنظوره للتعامل مع المجتمع الدولي».
المصدر المصري قال إنه «تم رصد قيام (داعش) مؤخرا بتنفيذ كثير من أحكام الإعدام على عناصره بتهمة الهروب من الدولة المزعومة»، لافتا إلى أنه رغم محاولة «داعش» إخفاء سبب إعدامه لعناصره؛ فإن كثيرا من الروايات والمصادر والأدلة تشير إلى محاولات هرب فاشلة يقوم على إثرها التنظيم بإعدام تلك العناصر، لتكون عبرة لباقي عناصره وعنصر ردع لمن تسول له نفسه الانشقاق عن التنظيم أو مخالفة أوامره وترك أرض الخلافة المزعومة.
وسبق أن نفذ «داعش» حكم الإعدام فيما يقرب من 300 مقاتل بسبب انشقاقهم على التنظيم في العراق وسوريا خلال أربعة أشهر فقط. وأوضح المصدر المصري نفسه لـ«الشرق الأوسط» أن «تزايد نشر التنظيم للمقاطع المُصورة لتنفيذ أحكام الإعدام لعناصره الهاربة من أرض الخلافة المزعومة، هو دليل على ضعف الانسجام بين عناصره، وكشف زيف الكذبة الكبيرة التي يروج لها التنظيم باسم (دولة الخلافة المزعومة)».
ويرى مراقبون أن «داعش» لم يخسر المناطق التي كانت تحت سيطرته في العراق؛ بل خسر عددا من أبرز قياداته منهم، أبو مسلم التركماني الرجل الثاني في قيادة التنظيم الذي يعرف بـاسم حجي معتز وذلك في ضربة جوية للتحالف الدولي ضد الإرهاب شمال البلاد، ومقتل أبو علاء العفري الذي كان حلقة الوصل بين البغدادي ومستشاريه وأمراء المدن والمقاطعات عبر المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، فضلا عن مقتل القيادي البارز في تنظيم داعش واسمه طرخان باتيرشفيلي ويلقب بأبو عمر الشيشاني.
في السياق نفسه، قال الدكتور حامد مصطفى الخبير في شؤون الحركات الإسلامية: «ما زال (داعش) يحاول التوسع بعد هزيمته في المساحات التي يوجد فيها دفاع ضعيف، فهو ينتهج (سياسة الوحش) الذي يرقب أضعف الفرائس لينطلق خلفها ويذبحها وينهش لحمها، ويتميز (داعش) بالقدرة على الانتشار الواسع والقتال في الوقت نفسه على أكثر من جبهة، وبعد الضغط على التنظيم وهزيمته بحث عن أماكن جديدة للهرب ومعاودة القتال».
وأضاف الخبير في شؤون الحركات الإسلامية لـ«الشرق الأوسط» أن «داعش» يسعى في سوريا إلى تحقيق أي تقدم أو خرق على حساب «جبهة النصرة» التي يراها أضعف من الأطراف الأخرى، وقبل أشهر فتح «داعش» معارك مع «النصرة» في عدد من المواقع التي تعتبر معابر استراتيجية إلى الداخل السوري.
وعن وجود اتجاه لـ«داعش» للانطلاق خارج العراق وسوريا، قال الدكتور مصطفى: «داعش» قد يتحرك في المستقبل نحو عمق المناطق المجاورة له كلبنان، حيث يمهد التنظيم الطريق إلى لبنان مستقبلا، من خلال نقل بعض عناصره وانتحارييه إلى لبنان، كأسلوب تهديدي وتشتيت الجهود المبذولة في محاربته، فضلا عن مواصلة القتال في ليبيا، ومحاولة القيام بعمليات إرهابية في الدول الغربية وفي الدول العربية أيضا.
وتشير الإحصائيات والتقارير إلى أنه تم تنفيذ ما يزيد على 1200 ضربة أو غارة جوية ضد أهداف لـ«داعش» خلال شهر واحد في العراق؛ الأمر الذي قلص زخم «داعش» الذي أصبح الآن متوجسا على الدوام من الهجوم القادم. وقال مراقبون إنه بطبيعة الحال لا يمكن للدول أن تأمل في هزيمة «داعش» من خلال العمل العسكري وحده؛ لكن من خلال الحد من تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب للتنظيم، والحد من تمويله، وهزيمته حيثما يمكنه إلحاق الضرر بشكل مذهل في الفضاء الافتراضي وسوق الأفكار.
وقال الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، إن «داعش» خسر مساحات مهمة في محافظتي الأنبار وصلاح الدين آخرها جزيرة سامراء، في حين يتكثف الحديث عن قرب إطلاق عملية تحرير الموصل مركز محافظة نينوى، لافتا إلى أن «داعش» انتقل من مرحلة السيطرة واسعة النطاق على الأرض في العراق وإدارة كيان خاص به عليها، إلى «حرب استنزاف» مرهقة للدولة العراقية، موقعا عشرات قتلى والجرحى في هجمات انتحارية، لافتا إلى أن خسارة تنظيم داعش لأراض عراقية لن تعني القضاء عليه؛ بل سيظل يستمد أسباب بقائه من ارتفاع منسوب الطائفية في العراق.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».