الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

يذهبون للقتال في سوريا سرا.. وتشيع جثامينهم في العراق علنا.. وبغداد تغض الطرف

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»
TT

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

تغير الواقع الميداني في العاصمة السورية وريفها، لصالح القوات الحكومية، منذ وصول دفعات من مقاتلين ميليشيات عراقية مثل «الفضل أبو العباس»، وعصائب الحق.. وغيرها، للمشاركة في القتال إلى جانب القوات النظامية، بل صارت درعا واقية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وإذا كانت مشاركة حزب الله اللبناني تتركز في المناطق الحدودية مع لبنان، كما يقول ناشطون سوريون لـ«الشرق الأوسط»، أبرزها القصير بريف حمص الجنوبي، وريف دمشق الشمالي، مع مشاركة محدودة في مناطق الغوطة الشرقية وبعض الأحياء المحيطة بالسيدة زينب، فإن المقاتلين العراقيين يشكلون عصب المقاتلين الأجانب مع النظام في جنوب دمشق.
ومن الصعب تحديد عدد العراقيين المشاركين في القتال، نظرا لأن الوجود العراقي في مناطق جنوب دمشق يعود إلى عام 2001. ويقول مصدر معارض في جنوب العاصمة لـ«الشرق الأوسط» إن أعداد المقاتلين العراقيين التقديرية «ترتكز أساسا على مصادر عراقية، حيث يرسل المقاتلون العراقيون بهدف الدفاع عن المواقع الدينية الشيعية، أبرزها مقام السيدة زينب في جنوب العاصمة»، لكن تلك الأعداد التي تقدر بستة آلاف مقاتل على الأقل «ليست دقيقة، لأن العراقيين الموجودين في سوريا والذين يقاتلون إلى جانب النظام لا يخضعون لتلك الإحصاءات».

تستقطب منطقة السيدة زينب في ريف دمشق أكبر أعداد للعراقيين الشيعة الذين نزحوا من العراق في الفترة الممتدة من 2001 و2004، هربا من التدابير التي اتخذها نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين بحقهم قبل الغزو، وارتفعت أعدادهم بشكل قياسي في عام 2003 مع موجات النزوح بعد غزو العراق في عام 2003. ويقول ناشطون سوريون إن أعدادا كبيرة من العراقيين «حولت الشوارع المحيطة بمنطقة السيدة زينب إلى أحياء عراقية صرفة، وبقيت حتى بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011».
وظهرت نتائج مشاركة العراقيين في القتال، في خريف عام 2012، بعد وصول الاشتباكات إلى ريف دمشق الجنوبي بين القوات النظامية وقوات المعارضة.
وفي أول إجراء اتخذه المقاتلون العراقيون، اندفعوا إلى مقام السيدة زينب، وحاولوا إنشاء منطقة أمنية تعزله عن مواقع سيطرة المعارضة في الحسنية والذيابية جنوبا، وطريق المطار شمالا. وتقول مصادر عراقية في سوريا إن الدفعة الأولى التي تكفلت حماية المقام بلغ تعدادها 600 مقاتل، و«ظهرت بعد كتابة شعارات مذهبية على حائط مقام السيدة زينب، أبرزها (سترحلين مع النظام)»، وهو ما تنفيه المعارضة، قائلة إن «اختلاق هذه الذريعة هدف إلى تبرير تدخلهم للقتال إلى جانب النظام، وحشد تأييد الشيعة في العراق، واستقطاب المزيد من المقاتلين».
وتجاوز الميدان السوري هذه الذرائع في الوقت الراهن، علما بأن مصادر المعارضة تؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن المهام الأساسية للعراقيين، الوافدين منهم والمقيمين في السيدة زينب، «تتركز في المناطق المحيطة بالمقامات الدينية قبل أن تتوسع». ويقول مصدر بارز من مجلس قيادة الثورة في ريف دمشق، إن العراقيين «يقاتلون بشكل أساس في منطقة السيدة زينب، وفي محيط مقام سكينة بنت علي في داريا، الذي تسيطر عليه المعارضة، فضلا عن شحنهم للقتال في قريتين شيعيتين بريف حلب، هما نبل والزهراء، منذ شهر أغسطس (آب) الماضي، بعد تضييق الحصار على البلدتين اللتين تضمان أكثر من أربعين ألف شيعي».
ويعد «لواء أبو الفضل العباس» أبرز الميليشيات التي تقاتل هناك. وكان اللواء ظهر على الساحة السورية مع حلول شتاء عام 2012 وفي منطقة السيدة زينب المتاخمة للعاصمة دمشق في شكل فرقة عسكرية عالية التنظيم والتدريب، متمتعة بتسليح حديث ونوعي على مستوى الأفراد مما يجعلها شديدة الفعالية في حرب المدن والشوارع. فضلا عن ذلك، يتمتع اللواء بهيكلية وقيادة عسكرية واضحة، وهو على تنسيق تام مع ماكينة الجيش السوري النظامي.
غالبية المقاتلين في صفوف اللواء هم من العراقيين وينتمون إلى فصائل شيعية مقاتلة في بلادهم مثل «عصائب أهل الحق» و«جيش المهدي». ومع أن هناك ألوية أخرى مثل «ذو الفقار» و«عمار بن ياسر» و«كتائب سيد الشهداء» و«أسد الله الغالب»، إلا أن «لواء أبو الفضل العباس» هو الأكثر تأثيرا. وبالنسبة للحكومة العراقية فإنها أعلنت مرارا أن أحداث سوريا سوف تؤثر على العراق بشكل مباشر، معلنة في الوقت نفسه تمسكها بسياسة عدم التدخل في سوريا، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد ومع المعارضة. لكن قوى غربية اتهمت بغداد بغض الطرف عن مساعدات خارجية للأسد، منها استخدام طائرات إيرانية في المجال الجوي العراقي لنقل أسلحة إلى سوريا. لكن بغداد تنفي تلك الاتهامات وتنفي السماح لمقاتلين شيعة بالسفر إلى سوريا بحرية أو تقديم أي دعم لهم.
واستطاع المقاتلون العراقيون، ويتصدرهم «لواء أبو الفضل العباس»، من تحقيق انتصار للنظام في الأحياء المحيطة بالسيدة زينب، وأهمها الذيابية والحسنية في الخريف الماضي، قبل انتقالهم للقتال على محاور الاشتباكات المتواصلة حتى هذا الوقت في ببيلا، والحجر الأسود، ومخيم اليرموك، وسبينه، بالإضافة إلى تمددهم شرقا، بهدف عزل طريق المطار الأكثر توترا عن مناطق نفوذهم في السيدة زينب.
وقالت مصادر المعارضة الأسبوع الماضي إن المقاتلين العراقيين كانوا رأس حربة القتال في شبعا على طريق المطار، حيث قضى منهم ما يزيد على 12 مقاتلا أثناء محاولتهم صد هجوم نفذته جبهة النصرة وكتائب إسلامية أخرى في المنطقة. إضافة إلى ذلك، تشير المصادر إلى أن العراقيين شاركوا بفعالية في الهجوم على المليحة في الغوطة الشرقية، شمال العاصمة السورية.
وينظر معارضون إلى مشاركة العراقيين على أنها «محاولة من النظام لسد النقص في عدد مقاتليه والمخلص الذي ينتشر على مساحة واسعة من القتال في سائر أنحاء البلاد»، مشيرين إلى أن النظام «يستخدمهم كمرتزقة في حربه ضد المعارضة، ويتنقل بهم في أرجاء دمشق وريفها ويستخدمون كمقاتلين في الواجهة، وكحرس في الخطوط الخلفية».
وفي حلب، يتصدر هؤلاء محاور القتال على أطراف نبل والزهراء، بسبب نقص الكثير في القوات النظامية التي تقاتل في المنطقة. ويقول ناشطون إن النظام «يستطيع تجنيدهم عقائديا، من خلال زجهم في محاور قتال يوجد فيها الشيعة، لأنه لا يستطيع تجنيدهم للقتال إلى جانبه من غير خلفية عقائدية». ويشير هؤلاء إلى أن «كل فصيل أجنبي يقاتل إلى جانب النظام له دوره الذي يحثه على القتال، فإذا كان العراقيون يقاتلون في مناطق يوجد فيها الشيعة على نطاق واسع، فإن حزب الله يحشد للقتال في المناطق الحدودية بذريعة تأمينها».
ولا تتبنى السلطات العراقية أي طرف شيعي يقاتل أو يدعم جهة معينة في الحرب الدائرة في سوريا منذ نحو ثلاث سنوات، وتكرر نفيها السماح بإرسال مقاتلين إلى هناك حتى تحت ذريعة الدفاع عن الأماكن الشيعية المقدسة، وفي مقدمتها مقام السيدة زينب. لكن الواقع أن بعض الميليشيات الشيعية، بينها «حركة حزب الله» و«عصائب أهل الحق»، لا ترى «مانعا شرعيا» في التوجه إلى هناك ما دامت المهمة تنحصر في الدفاع عن المراقد الشيعية، خصوصا بعد «نبش» قبر الصحابي عدي بن حجر من قبل تنظيم القاعدة هناك، والسيرة على مقام سكينة في داريا، وهي مقامات بأغلبها ساهمت السلطات الإيرانية في بنائها وتسليط الأضواء عليها، كما ينظم الشيعة الإيرانية رحلات دينية إليها.
وعلى الرغم من تكرار النفي الرسمي العراقي بشأن إرسال مقاتلين من العراق يقاتلون إلى جانب نظام الأسد في الحرب الدائرة منذ نحو ثلاث سنوات فإن جهات عراقية غير رسمية تعترف إما بتشجيع من يذهب إلى هناك بحجة الدفاع عن المراقد الشيعية المقدسة، وإما أنها ترى أنه جزء من تكليف شرعي لا يحتاج إلى موافقة الحكومات.
النفي العراقي الرسمي جاء على لسان وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري أكثر من مرة، كما جاء على لسان وزارة الداخلية لأكثر من مرة أيضا. الحقائق على الأرض تشير إلى أن هناك مواطنين عراقيين قد يذهبون سرا إلى سوريا سواء من تلقاء أنفسهم أو بترتيب وربما بتشجيع من جهات معينة، لكنهم حين يقضون في المعارك فإن عودتهم إلى العراق لا تكون علنية فقط، بل كثيرا ما تجرى لهم مراسم تشييع كبيرة يلعلع فيها الرصاص وترفع الكثير من اللافتات السوداء في شوارع المدن التي ينتمون إليها، وغالبا ما تكون من المحافظات الوسطى والجنوبية ذات الغالبية الشيعية، وكثيرا ما يشارك في مراسم التشييع مسؤولون في الحكومات المحلية أو في الأحزاب الشيعية التي تقود السلطة حاليا في العراق.
الجهات الشيعية التي كثيرا ما يشار إليها على أنها هي من ترسل أو تغض الطرف عن إرسال مقاتلين شيعة يتولون حراسة مرقد السيدة زينب جنوب مدينة دمشق هي جيش المهدي التابع للتيار الصدري والمجلس الأعلى الإسلامي وعصائب أهل الحق وحزب الله - النهضة الإسلامية وكتائب حزب الله العراقي، والأخيرة تعتبر امتدادا للواء أبو الفضل العباس.
التباين في وجهات النظر والمواقف التي يجري التعبير عنها غالبا ما تمثل تباعدا بين مواقف مختلف الأطراف بما في ذلك التي تؤيد إرسال مقاتلين شيعة إلى سوريا، لكن ليس تحت أي غطاء رسمي. فلجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي وعلى لسان العضو فيها حامد المطلك ترى أن «العراق دخل طرفا في الأزمة السورية بطريقة لم تكن موفقة». ويقول المطلك في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «الحكومة العراقية التي كانت كثيرا ما تتهم النظام السوري بأنه هو من يقف خلف الإرهابيين الذين كانوا يتسللون إلى العراق من الأراضي السورية فإنها اليوم تكيل بمكيالين عندما تدافع عن النظام في سوريا وتغض النظر عن مشاركة عراقيين في القتال هناك بينما هي تعيب على الآخرين فعل ذلك». ويرى المطلك أن «الأزمة السورية تركت تأثيراتها السلبية على مجمل الأوضاع في العراق، وذلك لجهة كون الحدود سائبة بين البلدين، حيث يخرج منها المقاتلون إلى هناك تحت فتاوى الجهاد، وتدخل منها المجاميع المسلحة والإرهابية»، معتبرا إن «ذلك يجري كله بترتيب إيراني واضح».
ما يبدو مسكوتا عنه لم يعد كذلك إلى حد كبير، ففي تصريح تلفازي له مؤخرا أعلن نائب رئيس كتلة المواطن البرلمانية التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي عبد الحسين عبطان أن «قتال بعض الشباب الشيعة في سوريا ليس خروجا على قانون الدولة». وأضاف عبطان أنه «إذا كانت الدولة السورية غير قادرة على حماية مرقد السيدة زينب فإن هناك متطوعين من الشيعة للدفاع عن كل مرقد ومكان مقدس في العالم»، مشيرا إلى أن «الحرب لم تعد اليوم بين النظام السوري وبعض الإرهابيين كالجيش الحر». وأضاف عبطان أن «قتال بعض الشباب الشيعة في سوريا لا يعتبر خروجا على قانون الدولة، لأنهم لا يقاتلون أحدا»، لافتا إلى أن «أولئك الشباب يحمون المراقد لأن ذلك جزء من واجبنا».
هذا الموقف يعد تطورا على الموقف العام الذي غالبا ما يكون غير واضح المعالم لدى بعض القيادات السياسية الشيعية، لا سيما التيار الصدري، ومن خلال «جيش المهدي» رغم صدور أوامر بتجميده من قبل زعيمه مقتدى الصدر. ففي الوقت الذي كشف فيه أبو عبد الله المتحدث باسم حزب الله - النهضة الإسلامية الذي يتزعمه واثق البطاط الذي أعلن عن تشكيل جيش أطلق عليه «جيش المختار» في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الأوامر صدرت بتجميد عملية إرسال مقاتلين تابعين للحزب إلى سوريا في الوقت الحاضر»، فإن التيار الصدري أعلن نفيه أن يكون قد قام بإرسال مقاتلين من جيش المهدي إلى هناك. أبو عبد الله أضاف أن «الأوامر بالتجميد صدرت من الأمين العام واثق البطاط لقناعته أن ما يجري في سوريا هو شأن سوري ولا يجب التدخل فيه». المفارقة أن حزب الله - النهضة الإسلامية كان يرسل مقاتلين طبقا لما أكده المتحدث باسمه أبو عبد الله، لكنه توقف دون إيضاح المزيد من الأسباب في الوقت الحاضر، لكن أمين عام كتلة الأحرار الصدرية ضياء الأسدي سبق له أن نفى أن يكون التيار الصدري قد أرسل مقاتلين من جيش المهدي إلى سوريا. وفي مؤتمر صحافي كان قد عقده في مقر الهيئة السياسية للتيار الصدري أكد الأسدي أن «الكلام عن إرسال عناصر من جيش المهدي إلى سوريا تجنٍّ وتهويل، لذلك ننفي الأمر جملة وتفصيلا»، مؤكدا أن «مهام جيش المهدي داخل العراق وليس خارجه». وأضاف الأسدي أن «المعارضة السورية قد تريد أن تصرح بما تريد، لكن الواقع غير ذلك وزعيم التيار مقتدى الصدر نفى ذلك مرارا، وهو ضد التدخل في شؤون الغير». غير أن الموقف الأكثر وضوحا من بين كل مواقف الحركات والأحزاب الشيعية في العراق هو ما عبرت عنه كتائب عصائب أهل الحق التي يتزعمها قيس الخزعلي الذي كان أحد قادة التيار الصدري المقربين من مقتدى الصدر قبل أن ينشق عنه عام 2006، ويشكل هذه الحركة التي يعدها الصدر بأنها قريبة اليوم من ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي. الناطق الرسمي باسم العصائب أحمد الكناني أكد في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «العصائب سبق لها أن أعلنت موقفا رسميا من هذا الأمر قوامه أن الدفاع عن المقدسات الإسلامية واجب على كل مسلم سواء كان سنيا أم شيعيا»، مشيرا إلى أن «الاعتداء على المقدسات الشيعية قد يثير فتنة طائفية خشية أن تكون هناك ردود فعل حيال ذلك مثلما حصل في العراق عام 2006 عندما جرى تدمير مرقدي الإمامين العسكريين، حيث أدى الأمر إلى صراع طائفي، ولذلك فإننا نحاول تجنيب المنطقة هذا الصراع من خلال الدفاع عن مرقد السيدة زينب حتى لا تحصل ردود فعل غير محسوبة في حال تعرض المرقد لاعتداء». ونفى الكناني أن «يكون أي من مقاتلي الحركة يقاتل إلى جانب قوات النظام في سوريا، بل مهمتها تنحصر في الدفاع عن الأماكن المقدسة». وبشأن ما إذا كانت الحركة تبنى ذلك رسميا أو تغض النظر عمن يقوم بذلك قال إن «الحركة تضم مقلدين لعدة مراجع وليست مرجعا واحدا، وبالتالي فإن هناك مراجع شيعة كبارا أفتوا بالدفاع عن المقدسات الشيعية، وهذا يعني أن مقلديهم لدينا يذهبون، وهناك مراجع لم تصدر مثل هذه الفتاوى، وبالتالي لا أحد يذهب»، معتبرا أن «التكليف الشرعي للفرد وليس الموقف السياسي هو من يحدد الذهاب من عدمه». وردا على سؤال بشأن ما إذا كانت هناك حقوق شرعية للمقاتلين الذين يقتلون هناك قال إن «لدينا مؤسسة للشهداء، ولكن موضوع المقاتلين الذين يقضون في سوريا لم يدرج بعد في سياق عملها لأننا لسنا من يتولى ذلك بشكل رسمي، ولكن هناك جهات ومنظمات مجتمع مدني هي من تتولى مساعدة ذوي هؤلاء في حال حصل لهم شيء هناك».



«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
TT

«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)

تقف مصر على مقربة من تحقيق «الحلم النووي»، الذي راودها منذ خمسينات القرن الماضي، عقب خطوات جادة وثابتة لتنفيذ «مشروعها الاستراتيجي»، وإنشاء أول محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية في مدينة الضبعة بمحافظة مطروح على ساحل البحر الأبيض المتوسط على بعد نحو 289 كيلومتراً شمال غربي القاهرة، بتمويل وتكنولوجية روسيين. وبينما يأتي المشروع في سياق خطة مصر لتنويع مصادر الطاقة ورؤيتها الاستراتيجية لامتلاك الطاقة النووية السلمية، فإن مشروع «محطة الضبعة النووية» تتجاوز أبعاده حدود الاقتصاد، لتمتد إلى السياسة والبيئة والمجتمع.

بالتزامن مع الاحتفال بالعيد السنوي الخامس للطاقة النووية، الذي يوافق التاسع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، شارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، في مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة النووية، وتوقيع أمر شراء الوقود النووي، ليدخل «الحلم النووي» المصري مرحلة حاسمة.

وعد الرئيس الروسي، في كلمته حينها عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، التعاون القائم بين مصر وروسيا في بناء المفاعل النووي «نجاحاً بارزاً»، مشيراً إلى أن «المشروع سيوفر الكهرباء اللازمة لدعم الاقتصاد المصري المتنامي».

وقال السيسي في كلمته إنه «في ظل ما يشهده العالم من أزمات متلاحقة في قطاع الطاقة، وارتفاع أسعار الوقود الأحفوري، تتجلى بوضوح أهمية وحكمة القرار الاستراتيجي، الذي اتخذته البلاد، بإحياء البرنامج النووي السلمي، باعتباره خياراً وطنياً، يضمن تأمين مصادر طاقة مستدامة وآمنة ونظيفة، دعماً لأهداف رؤية مصر 2030».

وتقدر الطاقة الكهربائية المتوقع توليدها من محطة الضبعة النووية بنحو 4800 ميغاواط، عبر أربعة مفاعلات من الجيل الثالث من طراز VVER-1200، وهو ما يمثل 10 في المائة من إنتاج الكهرباء في مصر.

وخطت مصر أولى خطواتها الجادة نحو تنفيذ المشروع في نوفمبر 2015 بتوقيع اتفاقية مبدئية بين الرئيسين المصري والروسي لإقامة أول محطة نووية لتوليد الكهرباء، تنفذها شركة «روساتوم» الحكومية الروسية، لتتخذ مصر من يوم التوقيع عيداً وطنياً للطاقة النووية.

وبعد عامين، وتحديداً في نوفمبر 2017، تم التوقيع على العقود الرئيسية لبناء الوحدات الأربع للمحطة، بطاقة 1200 ميغاواط لكل وحدة، لتنطلق بعدها الأعمال التحضيرية والإنشائية للمشروع بتكلفة إجمالية تقدر بنحو 28.75 مليون دولار، 85 في المائة منها قرض حكومي روسي ميسّر بفائدة 3 في المائة سنوياً يبدأ سداده عام 2029، والباقي تمويل ذاتي مصري.

«تشيرنوبل» جمد الحلم

الرغبة في امتلاك الطاقة النووية السلمية «حلم راود المصريين منذ منتصف القرن الماضي»، بحسب السيسي. حيث بدأت طموحات مصر النووية بعد فترة قصيرة من اكتشاف القدرة على توليد الطاقة السلمية من الانشطار النووي. ففي أعقاب مؤتمر جنيف الأول للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA) عام 1955. وبعد ست سنوات افتتحت مركز البحوث النووية في أنشاص وشغّلت أول مفاعل بحثي (من طراز WWR-S ) بقدرة 2 ميغاواط، بالتعاون مع «الاتحاد السوفياتي» آنذاك، لإجراء الأبحاث والتدريب وإنتاج النظائر المشعة.

وفي عام 1964 أعلنت مصر عن خطط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، واختارت مبدئياً موقع «سيدي كرير» في الساحل الشمالي أيضاً، لكن الظروف الاقتصادية والسياسية في المنطقة أرجأت المشروع.

وبعد حرب 1973، عاد الحلم النووي يراود المصريين وتم وضع خطة لبناء محطات نووية بقدرة 10 آلاف ميغاواط بحلول عام 2000، وخصصت منطقة «الضبعة» بعد مفاضلة بين أماكن عدة على سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط.

وشهدت الفترة بين 1983 و1968 المناقصة الدولية الثانية للمشروع وتلقت فيها مصر عروضاً من شركات أميركية وألمانية وسويدية. وكانت القاهرة على وشك توقيع العقد لكن «كارثة مفاعل تشيرنوبل» (أوكرانيا التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفياتي) في أبريل (نيسان) 1986 جمّدت الحلم.

وبعد هدوء المخاوف من المفاعلات النووية السلمية، قررت مصر إحياء برنامجها النووي عام 1999، وفي عام 2007 تم تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA) كهيئة مستقلة تكون مسؤولة عن تنفيذ وإدارة المشروع النووي. وأعلن الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 2008 عن إعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة. لكن مرة أخرى تعطّل المشروع بفعل أحداث 2011، قبل أن يعيد السيسي إحياءه بالتوقيع على اتفاق مبدئي مع روسيا عام 2015.

عوائد اقتصادية

تدخل مصر النادي النووي بطموحات اقتصادية كبيرة، مستهدفة تعزيز أمن الطاقة وتحقيق التنمية، ويقول السيسي إن المشروع «سيعزز مكانة بلاده كمركز إقليمي للطاقة، ويحدث نقلة نوعية في مسار توطين المعرفة والاستثمار في الكوادر البشرية».

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي يشهد مراسم توقيع أمر شراء الوقود النووي في نوفمبر الماضي (مجلس الوزراء المصري)

ويعد دخول مصر إلى ميدان التطوير الصناعي والتكنولوجي للطاقة النووية من العوائد المهمة للمشروع، بحسب دراسة نشرها نائب رئيس وحدة دراسات الاقتصاد والطاقة بـ«المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية»، أحمد بيومي، العام الماضي، حيث من المتوقع أن تكون نسبة تنفيذ نحو 20 في المائة من المشروع بالتعاون مع الشركات المحلية، ومن المستهدف أن تصل نسبة المكون المحلي من 20 إلى 25 في المائة عند تشغيل المفاعل الأول في 2028، تزيد إلى 35 في المائة عند تشغيل المفاعل الرابع في 2031، كما ستتولى شركة «روساتوم» الحكومية الروسية تدريب ما يقرب من ألفي شخص من موظفي التشغيل والصيانة للعمل في المحطة.

وفقاً لهيئة الاستعلامات المصرية الرسمية، فإنه «من المتوقع أن تبلغ القيمة المضافة للمشروع في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة الإنشاء نحو 4 مليارات دولار سنوياً». وتوفر المحطة مصدراً ثابتاً للكهرباء يعمل على مدار الساعة، ما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويضمن استقرار الشبكة.

ويأتي إنشاء محطة الضبعة النووية في إطار خطة مصرية لتنويع «سلة الطاقة»، بحسب أستاذ هندسة البترول والطاقة، الدكتور جمال القليوبي، الذي يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «مصر تسعى لأن تكون لديها مصادر متعددة من الطاقة، لا تعتمد فقط على الشق الحراري واستخدام الوقود الأحفوري». وقال: «طوال 50 عاماً كان الوقود الأحفوري مصدراً لنحو 98 في المائة من الطاقة في مصر، لكن الأمر تغيّر منذ عام 2018 مع زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة من الرياح والشمس والهيدروجين الأخضر»، مشيراً إلى أن «محطة الضبعة مع اكتمال تشغيل مفاعلاتها قد تسهم في نحو 16 إلى 18 في المائة من الكهرباء في مصر».

وتستهدف مصر، وفقاً للتصريحات الرسمية، الوصول بمساهمة الطاقة المتجددة ضمن مزيج الطاقة إلى نحو 42 في المائة من إجمالي الطاقة بحلول عام 2030.

لا تقتصر العوائد الاقتصادية على توفير الكهرباء وتوفير جزء من فاتورة استيراد مصر للوقود الأحفوري التي تجاوزت 12 مليار دولار العام الماضي، بحسب تصريحات لوزير البترول المصري السابق، طارق الملا.

ويشير القليوبي إلى أن فاتورة استيراد الوقود لتشغيل محطات الكهرباء تبلغ نحو 50 في المائة من القيمة الإجمالية لفاتورة استيراد الوقود. وقال: «محطة الضبعة ستوفر جزءاً كبيراً من فاتورة الاستيراد، كما أن عوائدها الاقتصادية تمتد إلى مناح أخرى تتعلق بتحلية مياه البحر وإنتاج النظائر المشعة المستخدمة في عدد من الصناعات الطبية والزراعية». وأضاف: «لدى مصر خطة واضحة. خطة تؤازر الدولة اقتصادياً وتتماشى مع أهداف الدول الصناعية، عبر تحسين ملف الصناعة واستخدام الطاقة النووية في كثير من المناحي الاقتصادية».

خيار استراتيجي

يسهم مشروع الضبعة في توفير العملة الصعبة، كما يوفر نحو 6 آلاف فرصة عمل في أثناء الإنشاء، وآلاف فرص العمل في أثناء فترة التشغيل التي تمتد لـ60 عاماً. كما تعد محطة الضبعة النووية مصدراً نظيفاً وخالياً تماماً من انبعاثات الكربون، ويدعم استراتيجية مصر للطاقة 2035، بحسب هيئة الاستعلامات المصرية.

دخول مجال الطاقة النووية هو «خيار استراتيجي»، بحسب دراسة نشرها رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور أحمد قنديل، مشيراً إلى أن «الضبعة ليست مجرد محطة كهرباء»، إذ إنها تحقق أهدافاً عدة، من بينها؛ «بناء أمن طاقة مصري مستقل نسبياً عن تقلبات الأسواق العالمية للبترول والغاز الطبيعي، وتحرير جزء من الغاز المصري للتصدير أو الاستخدام الصناعي، خاصة في البتروكيماويات والأسمدة، ودعم الصناعات الثقيلة والتوجه نحو الهيدروجين الأخضر، وتوفير مصدر مستقر للكهرباء على مدى عقود».

يسهم المشروع أيضاً في تعزيز مكانة مصر الإقليمية، بحسب قنديل الذي قال: «مصر اليوم لاعب رئيسي في الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، وقوة صاعدة في الطاقة المتجددة، وتعمل على مشروعات للربط الكهربائي مع ثلاث قارات، وحين تكتمل وحدات الضبعة، ستمتلك مصر برنامجاً نووياً سلمياً واسع النطاق، يمنحها وزناً إضافياً في معادلات الطاقة الإقليمية».

أما القليوبي فيشير إلى أن مشروع الضبعة يُدخل مصر إلى «نادي الدول الصناعية الكبرى التي تستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية».

أبعاد سياسية

وبينما ستسهم محطة الضبعة في تلبية احتياجات مصر من الطاقة على المدى الطويل، فإن هناك دوافع أخرى لإقدام البلاد على هذه الخطوة، من بينها «تعزيز المكانة السياسية للحكومة في الداخل وتوسيع علاقاتها الأجنبية إلى ما يتجاوز واشنطن»، بحسب مقال نشره إيريك تراجر في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» عام 2016.

أشار تراجر وقت ذاك إلى أن «المشروع يستهدف إعطاء أمل للمصريين وتعزيز الدعم الداخلي للحكومة، بعدّه مشروعاً قومياً»، كما أنه يأتي في إطار مساعي القاهرة لـ«توسيع نطاق التواصل الخارجي ليتجاوز علاقتها الثنائية بواشنطن، ما يُظهر مصر بصورة المنفتحة على العالم أجمع». وقال تراجر إن المشروع «يوطد علاقات مصر وروسيا».

وهو أمر أكده بالفعل الرئيسان المصري والروسي أخيراً، حيث قال السيسي إن المشروع «يعدّ برهاناً عملياً على أن شراكتنا لا تقتصر على التصريحات السياسية البراقة، بل تتجسد في مشروعات واقعية، تترجم إلى تنمية حقيقية، تعود بالنفع المباشر على شعبينا»، بينما أكد بوتين دعم بلاده «طموحات مصر التنموية في إطار الشراكة والتعاون الاستراتيجي الممتد بين البلدين». وقال: «هذه الشراكة مستمرة وتتجلى في ارتفاع حجم ومعدل التجارة بين البلدين، وتكثيف التعاون الصناعي، فضلاً عن مضي روسيا قدماً في إنشاء منطقة صناعية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس».

ويشير تراجر، في هذا الإطار، إلى أن المشروع يعزز نفوذ موسكو في القاهرة، ما قد يثير قلق الولايات المتحدة نظراً لاهتمام واشنطن بالاستقرار الاقتصادي في مصر وبآفاق سياستها الخارجية.

وفي هذا الإطار، يرى مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور عمرو الشوبكي، أن «مصر حريصة ومنفتحة على قوى وأقطاب أخرى دون المساس بالعلاقة الاستراتيجية مع واشنطن»، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن «القاهرة لديها علاقات تجارية واقتصادية وسياسية مع روسيا والصين».

وبالفعل أكد عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، أن «هذا المشروع يربط مصر وروسيا بعلاقات في قطاع مهم للغاية ولسنوات طويلة مقبلة». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «المشروع يحقق أهدافاً اقتصادية وسياسية عدة تتراوح ما بين توفير الكهرباء وتنمية الكوادر الوطنية إلى تعزيز المكانة الإقليمية والدولية».

وهنا يلفت الشوبكي إلى أن «حرص مصر على امتلاك الطاقة النووية السلمية - إضافة إلى أهميتها الاقتصادية - نابع من رغبتها في تأكيد حضورها في الملفات الكبرى». وقال: «الدول التي تمتلك وتستخدم الطاقة النووية السلمية لديها مكانة وتأثير وحضور دولي».

وتؤكد مصر حقها في امتلاك الطاقة النووية بموجب «معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية» التي وقّعت عليها عام 1968 وصدّقت عليها عام 1981. وتعوّل القاهرة على القيمة الاستراتيجية لمشروع الضبعة، ووفق السيسي فإن «المشروع سيضع مصر في موقع ريادي، على خريطة الاستخدام السلمي للطاقة النووية».

«المحطة النووية»... عشر سنوات على طريق التنفيذ

طوال أكثر من نصف قرن سعت مصر إلى امتلاك محطة لاستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، لكن الأحداث السياسية والظروف الاقتصادية وكارثة مفاعل تشرنوبل عام 1986 وقفت في طريق «الحلم النووي» المصري لعقود، حتى أعيد إحياء المشروع بخطوات عملية لإنشاء محطة الضبعة النووية. وفيما يلي أبرز المحطات:

- 1955 أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA).

-1961 افتتاح مركز البحوث النووية في أنشاص وتشغيل أول مفاعل بحثي.

- 1964 اختيار موقع سيدي كرير على ساحل البحر المتوسط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، (لم ينفذ).

- 1983 مناقصة دولية لإنشاء المحطة.

- 1986 كارثة تشيرنوبل... توقف المشروع.

- 2007 تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA).

- 2008 استئناف البرنامج النووي السلمي، وإعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة.

- 2015 توقيع الاتفاق المبدئي مع روسيا (روساتوم).

- 2017 توقيع العقود النهائية للمشروع.

- 2018 بدء إعداد البنية التحتية للموقع وإنشاء الرصيف البحري التخصصي لاستقبال المعدات الثقيلة.

- 2022 أصدرت هيئة الرقابة النووية والإشعاعية (ENRRA) إذن إنشاء الوحدة النووية الأولى.

- 2024 تركيب مصيدة قلب المفاعل.

- 2025 تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى.


روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا
TT

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

تطلب الأمر شاباً مفعماً بالحياة ومليئاً بالأمل لهزيمة اليمين المتطرف في هولندا. فقد نجح روب يتن، السياسي الشاب الذي لم يدخل بعد عقده الأربعين، بإعادة حزب «الديمقراطيين 66» الليبرالي الوسطي الذي تأسس عام 1966، إلى واجهة الحياة السياسية في هولندا وقاده إلى تحقيق أفضل نتائج له منذ تأسيسه. ورغم أن الحزب لم يفز فعلياً بالانتخابات التي جرت نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بل تعادل مع حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز، فإن النتائج تعدّ فوزاً للديمقراطيين وخسارة لأقصى اليمين؛ وبتحقيق كلا الحزبين 26 مقعداً من أصل 150 داخل البرلمان، يكون الديمقراطيون قد ضاعفوا مقاعدهم بـ3 مرات تقريباً من 9 مقاعد في الانتخابات التي سبقت إلى 26 مقعداً، فيما خسر حزب الحرية 11 مقعداً وانخفض تمثيله من 37 نائباً إلى 26 نائباً. ورغم أنه ما زال غير واضح ما هي الأحزاب التي قد تشارك في الائتلاف الحاكم، فمن المؤكد أن حزب الحرية سيكون خارج الحكم. إذ تعهدت الأحزاب الأخرى بعدم العمل مع خيرت فيلدرز من جديد بعد تجربة الحكم الأخيرة التي لم تدم أكثر من 11 شهراً.

أثبت روب يتن (38 عاماً) أن هزيمة أحزاب أقصى اليمين ممكنة، ليعطي فوز حزبه في الانتخابات العامة في هولندا، أملاً للكثير من الأحزاب الأوروبية الوسطية التي تكافح هي نفسها للبقاء أمام مد اليمين المتطرف الذي يلف القارة العجوز. يتن نفسه هلل فور صدور النتائج بأن هولندا «أغلقت فصل خيرت فيلدرز»، متعهداً بالعمل على تشكيل «ائتلاف متين يقود هولندا إلى الأمام». وأضاف أن فوز حزبه أثبت أن «الأحزاب الوسطية أظهرت أنه من الممكن هزيمة الأحزاب الشعبوية وأقصى اليمين». وقاد يتن حملة انتخابية شعارها «التغيير والإيجابية» مستعيناً بشعار باراك أوباما «يمكننا التغيير»، في إشارة إلى استبدال حزب معتدل باليمين المتطرف. ولاقت إيجابيته صدى لدى الناخبين الهولنديين الذين يبدو أنهم تعبوا من السلبية التي طبعت الحياة السياسية منذ الانتخابات التي سبقت أن أوصلت حزب الحرية إلى الطليعة ولكن من دون فوز كاسح، ما يعني أن فيلدرز لم يكن قادراً على الحكم بمفرده، وعجز عن إقناع الأحزاب الأخرى التي شكلت معه الحكومة مشترطة ألا يترأسها هو شخصياً، باعتماد سياسته المتطرفة حول الهجرة، وهو ما تسبب في النهاية بانهيار الحكومة. ونقلت وسائل إعلام هولندية إحصاءات تشير إلى التأييد الواسع لتولي يتن رئاسة الحكومة بين مؤيدي الأحزاب اليمينية. ونقلت شبكة أخبار «آر تي إل» الهولندية عن أحد الناخبين قوله إنه «لا يوافق دائماً على سياسات الديمقراطيين ولكن روب يتن رجل (عادي) يمكنه أن يؤدي وظيفة تمثيل البلاد بشكل جيد». وقال عن فيلدرز إنه لو تولى رئاسة الحكومة فإن الأمور «لن تنجح معه وإنه سيريد على الأرجح أن يمرر سياسته، وفي حال لم ينجح بذلك فسينسحب مرة جديدة».

اغتيال مخرج... وإحراق مدرسة إسلامية

ويأتي فوز يتن على اليمين المتطرف وصعوده السريع وهو ما زال في عقده الثلاثين، متناغمين مع دخوله عالم السياسة في سن فتيّة أيضاً وهو في الـ17 من العمر. بداية قصته في السياسة كانت مرتبطة أيضاً باليمين المتطرف؛ ففي عام 2004 شكل اغتيال المخرج السينمائي تيو فان غوخ على يد متطرف هولندي من أصل مغربي، لحظة مفصلية تسببت بتداعيات دفعت بيتن إلى دخول عالم السياسة. وكان إحراق مجموعة من الشبان المنتمين إلى اليمين المتطرف لمدرسة ابتدائية تعلّم الدين الإسلامي في بلدته في أودن، سبب توجهه إلى النضال ضد اليمين المتطرف. وقال مؤخراً عن بداياته إن الشبان الذين أحرقوا المدرسة كانوا من رفاقه في فريق كرة القدم وكان يعرفهم جيداً، ولكنه أراد أن يُظهر صورة مختلفة للعالم وأن بلدته ليست مجرد مكان مليء بشبان «لا يعرفون ماذا يفعلون».وبقي كفاح يتن ضد اليمين المتطرف أساسياً خلال مسيرته السياسية. وحتى في الحملة الانتخابية التي قادها، اعتمد يتن استراتيجيات تستهدف اليمين المتطرف، مثل جعله العلم الهولندي محورياً خلال الحملة، وقوله إنه يريد «استعادته» من اليمين المتطرف الذي غالباً ما يستخدم العلم. ولم يتردد كذلك بجعل مسألة الهجرة التي أوصلت فيلدرز للفوز في الانتخابات التي سبقت، محورية خلال حملته. ورغم ليبراليته، وارتباطه بلاعب هوكي محترف أرجنتيني سيعقد قرانه عليه العام المقبل، فقد أكد للناخبين أنه سيعتمد سياسة هجرة متشددة تجاه المرفوضة طلباتهم وسيعتمد حداً أقصى لأعداد المهاجرين. ويبدو أن تعهداته هذه لاقت تجاوباً من الناخبين، إذ أكد لاحقاً متحدث باسم حزبه أن 7 في المائة من ناخبي حزب الحرية صوتوا هذه المرة للديمقراطيين.

وحتى قبل الانتخابات وبدء الحملات الانتخابية، كان يتن يدعو لاعتماد سياسة هجرة جديدة في هولندا والخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي. وروّج لاعتماد نظام مبني على النظام الكندي ينقل البحث والبت بطلبات اللجوء إلى خارج دول الاتحاد الأوروبي ورفض استقبال من يصلون خارج هذا النظام إلى هولندا.

تشديد قوانين الهجرة

ودعا كذلك إلى مراجعة المعاهدات الدولية الخاصة باللاجئين «لكي تعكس الواقع الجديد» في خلاف للسياسة التي كان يعتمدها الديمقراطيون. ونقلت عنه وسائل إعلام هولندية قوله إن «قانون الهجرة المعتمد حالياً لم يعد صالحاً، علينا أن ننتقل من هجرة تتحكم بنا، إلى هجرة نحن نتحكم بها، ليس فقط بسبب مواطنين هولنديين قلقين من الأعداد الوافدة ولكن أيضاً للأشخاص الذين يهربون من العنف والملاحقة». وبحسب خطة يتن، فإن هولندا لن تقبل إدخال لاجئين إلا أولئك الذين يتقدمون للحصول على لجوء من خارج الاتحاد الأوروبي ويتم قبولهم. ويعدّ أن نظاماً كهذا سيساعد على وقف طرق التهريب الخطيرة وينقذ أرواحاً.وحالياً، يتم إدخال بعض اللاجئين إلى أوروبا عبر نظام شبيه تعتمده الأمم المتحدة لتوزيع اللاجئين ولكن أعداد هؤلاء قليلة جداً مقارنة بالذين يدخلون بشكل غير قانوني ويتقدمون بطلبات لجوء. ويريد يتن توسيع هذا النظام بشكل كبير لكي يصبح الطريقة الأساسية لاستقبال اللاجئين في هولندا. ولكنه يعي أن هذه الخطط تستغرق وقتاً طويلاً. وحتى ذلك الحين، وفي المرحلة القصيرة المدى يطالب بقوانين أشد لطالبي اللجوء الذين يعدّون عبئاً، خاصة أولئك القادمين من دول مصنفة «آمنة» أي لا خوف من ملاحقات بحق القادمين منها الذين لا يتمتعون أصلاً بحظوظ كبيرة في الحصول على لجوء. ومن أقواله عن هؤلاء إن «الذين يأتون ويتسببون بمشاكل ولا يتوجب عليهم أن يكونوا هنا، يجب أن يتم إرسالهم إلى ملاجئ مغلقة، ويفهموا أنهم يدخلون بلداً بقيم ليبرالية، وإذا كانوا لا يحترمونها فسيخسرون بعض الحقوق».

في المقابل يروّج يتن لاندماج أفضل لطالبي اللجوء الناجحين ويدعو إلى إدخالهم في صفوف تعلّم اللغة «منذ اليوم الأول» ومساعدتهم في العثور على وظيفة «بأسرع وقت ممكن». وقبل الانتخابات ومنذ ترأسه حزبه عام 2023، حذّر بأن إبقاء الأشخاص على نظام الإعانات من دون دمجهم في المجتمع وسوق العمل «مؤذ لهم وللمجتمع بشكل عام، ويغذي الإحباط لدى الهولنديين». ويعدّ يتن أن على الأحزاب الوسطية أن «تقود الخطاب السياسي عوضاً عن أن تترك ذلك للأحزاب اليمينية المتطرفة».

حل أزمة السكن... بناء جزيرة جديدة

سياسة الهجرة هذه التي يروج لها يتن منذ ترأسه حزبه، قد تكون أكسبته أصواتاً من اليمين واليمين المتطرف، ولكن الأصوات الأخرى التي نجح بإضافتها لحزبه جذبها من خلال خطاب أوسع يتناول مخاوف الناخبين بشكل مباشر من قضايا تتعلق بالسكن التي كانت أيضاً من القضايا الأساسية في الانتخابات الهولندية. فهولندا، مثل الكثير من الدول الأوروبية، تعاني من نقص 400 ألف وحدة سكنية ما يؤدي إلى رفع دائم في أسعار العقارات والسكن ما يزيد من العبء على السكان. ورغم أن كل الأحزاب التي خاضت الانتخابات جعلت من مسألة البناء أساسية في معركتها، فإن طروحات الديمقراطيين كانت الأكثر ثورية. وفيما كانت الأحزاب الأخرى تقترح إغلاق مطارات للبناء على أراضيها، أو توسيع مجمعات موجودة أصلاً، اقترح يتن بناء جزيرة جديدة على أرض مغطاة حالياً بالمياه، في بلد ربعه يقبع تحت مستوى البحر. وتعهد ببناء مدن جديدة تضم 60 ألف وحدة سكنية مع مساحات خضراء ومياه وأماكن ترفيه.

ما إذا كان سينجح بتحقيق أي من طروحاته تلك، إن كانت المتعلقة بالهجرة أو تلك المتعلقة بالسكن، غير واضح ومرتبط بالائتلاف الذي سينجح بتشكيله في النهاية والخطط التي يتفق عليها مع الأحزاب الأخرى. ولكن على الأقل هي خطط طموحة لاقت صدى لدى الناخبين وأوصلت من قد يصبح أصغر رئيس حكومة في هولندا إلى رأس السلطة. والواقع أن صعوده السريع وهو في سن يافعة، دفع البعض للتشكيك بقدراته أحياناً.

أما سياسته الأخرى، فهي مناقضة تقريباً لسياسات فيلدرز واليمين المتطرف في هولندا المشكك في الاتحاد الأوروبي وفي التأييد الأوروبي لأوكرانيا ومعاداة روسيا. ويعدّ يتن مؤيداً للاتحاد الأوروبي ولدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. وعندما كان وزيراً للطاقة في حكومة مارك روته التي سبقت حكومة فيلدرز، دفع يتن بسياسة طاقة لا تعتمد على الغاز الروسي. وقد خدم في حكومة روته الرابعة وزيراً للمناخ والطاقة بين عامي 2022 و2024. ودخل يتن البرلمان الهولندي للمرة الأولى عام 2017 وكان متحدثاً باسم كتلته عن المناخ والطاقة. وفي عام 2018 انتخب زعيماً للكتلة النيابية للديمقراطيين ليصبح أصغر زعيم للكتلة في تاريخ الحزب. وفي عام 2020 انتخب حزبه الدبلوماسية المخضرمة سيغريد كاخ لزعامته في معركة لم يترشح فيها يتن. ولكنه لم ينتظر كثيراً، إذ وجد فرصة سانحة بعد استقالة كاخ في صيف عام 2023 وانتخب لزعامة الحزب.

اقرأ أيضاً


هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
TT

هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY

> منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم هولندا حكومات ائتلافية مكونة من حزبين أو أكثر في أحيان كثيرة، بسبب القانون الانتخابي المعتمد الذي يجعل من المستحيل على حزب واحد أن يفوز بالأغلبية. وطغى مارك روته وحزبه حزب «الشعب للحرية والديمقراطية» المحافظ الليبرالي، على الحياة السياسية في السنوات الـ14 الأخيرة تقريباً. فهو ترأس 4 حكومات متتالية بين العامين 2010 و2024، ضم معظمها أكثر من حزبين، حتى استقالته عام 2023 وانتقاله ليصبح أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو). وحظيت حكومته الأولى التي كانت حكومة أقلية وشكَّلها مع حزب «نداء الديمقراطية المسيحي»، بدعم من حزب «الحرية» اليميني المتطرف من دون أن يشارك الأخير في الحكومة.

ولكن الحكومة لم تدم أكثر من عامين بعد خلافات مع خيرت فيلدرز الذي سحب دعمه لها، مما أدى إلى سقوطها. وشكَّل روته حكومته الثانية التي ضمت 4 أحزاب بينها حزب «العمال»، مما سمح لها بأن تحكم طوال فترة ولايتها لخمس سنوات، وكانت الأكثر استقراراً في تاريخ هولندا الحديث. وشكَّل روته حكومته الرابعة عام 2017 لتحكم لمدة 3 سنوات، وضمت 4 أحزاب ولكنها سقطت مبكراً بعد تداعيات أزمة كورونا. وكانت الحكومة الأخيرة التي شكَّلها روته من 4 أحزاب عام 2022، الأقصر عمراً، واستغرق تشكيلها وقتاً قياسياً وصل إلى 299 يوماً، ولكنها انهارت سريعاً بعد خلافات حول الهجرة، ولم تحكم فعلياً أكثر من عام ونصف، ولكنها بقيت حكومة تصريف أعمال لنصف عام إضافي.

وفي عام 2024، حقق حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة فيلدرز فوزاً تاريخياً، ولكن فيلدرز نفسه لم يصبح رئيس حكومة بسبب اشتراط الأحزاب الأخرى التي وافقت على دخول الائتلاف الحكومي معه، على تعيين شخصية أخرى. وتوافقت الأحزاب في النهاية على ديك شوف لرئاسة الحكومة التي ضمت 4 أحزاب من بينها حزب «الحرية» الذي خاض تجربته الأولى في الحكم، ولكنه سرعان من انسحب من الحكومة في صيف العام الجاري بعد خلافات مع الأحزاب الأخرى حول سياسات هجرة متشددة ومخالفة للقانون أراد تطبيقها.