الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

يذهبون للقتال في سوريا سرا.. وتشيع جثامينهم في العراق علنا.. وبغداد تغض الطرف

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»
TT

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

الميليشيات العراقية.. «درع الأسد في دمشق»

تغير الواقع الميداني في العاصمة السورية وريفها، لصالح القوات الحكومية، منذ وصول دفعات من مقاتلين ميليشيات عراقية مثل «الفضل أبو العباس»، وعصائب الحق.. وغيرها، للمشاركة في القتال إلى جانب القوات النظامية، بل صارت درعا واقية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وإذا كانت مشاركة حزب الله اللبناني تتركز في المناطق الحدودية مع لبنان، كما يقول ناشطون سوريون لـ«الشرق الأوسط»، أبرزها القصير بريف حمص الجنوبي، وريف دمشق الشمالي، مع مشاركة محدودة في مناطق الغوطة الشرقية وبعض الأحياء المحيطة بالسيدة زينب، فإن المقاتلين العراقيين يشكلون عصب المقاتلين الأجانب مع النظام في جنوب دمشق.
ومن الصعب تحديد عدد العراقيين المشاركين في القتال، نظرا لأن الوجود العراقي في مناطق جنوب دمشق يعود إلى عام 2001. ويقول مصدر معارض في جنوب العاصمة لـ«الشرق الأوسط» إن أعداد المقاتلين العراقيين التقديرية «ترتكز أساسا على مصادر عراقية، حيث يرسل المقاتلون العراقيون بهدف الدفاع عن المواقع الدينية الشيعية، أبرزها مقام السيدة زينب في جنوب العاصمة»، لكن تلك الأعداد التي تقدر بستة آلاف مقاتل على الأقل «ليست دقيقة، لأن العراقيين الموجودين في سوريا والذين يقاتلون إلى جانب النظام لا يخضعون لتلك الإحصاءات».

تستقطب منطقة السيدة زينب في ريف دمشق أكبر أعداد للعراقيين الشيعة الذين نزحوا من العراق في الفترة الممتدة من 2001 و2004، هربا من التدابير التي اتخذها نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين بحقهم قبل الغزو، وارتفعت أعدادهم بشكل قياسي في عام 2003 مع موجات النزوح بعد غزو العراق في عام 2003. ويقول ناشطون سوريون إن أعدادا كبيرة من العراقيين «حولت الشوارع المحيطة بمنطقة السيدة زينب إلى أحياء عراقية صرفة، وبقيت حتى بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011».
وظهرت نتائج مشاركة العراقيين في القتال، في خريف عام 2012، بعد وصول الاشتباكات إلى ريف دمشق الجنوبي بين القوات النظامية وقوات المعارضة.
وفي أول إجراء اتخذه المقاتلون العراقيون، اندفعوا إلى مقام السيدة زينب، وحاولوا إنشاء منطقة أمنية تعزله عن مواقع سيطرة المعارضة في الحسنية والذيابية جنوبا، وطريق المطار شمالا. وتقول مصادر عراقية في سوريا إن الدفعة الأولى التي تكفلت حماية المقام بلغ تعدادها 600 مقاتل، و«ظهرت بعد كتابة شعارات مذهبية على حائط مقام السيدة زينب، أبرزها (سترحلين مع النظام)»، وهو ما تنفيه المعارضة، قائلة إن «اختلاق هذه الذريعة هدف إلى تبرير تدخلهم للقتال إلى جانب النظام، وحشد تأييد الشيعة في العراق، واستقطاب المزيد من المقاتلين».
وتجاوز الميدان السوري هذه الذرائع في الوقت الراهن، علما بأن مصادر المعارضة تؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن المهام الأساسية للعراقيين، الوافدين منهم والمقيمين في السيدة زينب، «تتركز في المناطق المحيطة بالمقامات الدينية قبل أن تتوسع». ويقول مصدر بارز من مجلس قيادة الثورة في ريف دمشق، إن العراقيين «يقاتلون بشكل أساس في منطقة السيدة زينب، وفي محيط مقام سكينة بنت علي في داريا، الذي تسيطر عليه المعارضة، فضلا عن شحنهم للقتال في قريتين شيعيتين بريف حلب، هما نبل والزهراء، منذ شهر أغسطس (آب) الماضي، بعد تضييق الحصار على البلدتين اللتين تضمان أكثر من أربعين ألف شيعي».
ويعد «لواء أبو الفضل العباس» أبرز الميليشيات التي تقاتل هناك. وكان اللواء ظهر على الساحة السورية مع حلول شتاء عام 2012 وفي منطقة السيدة زينب المتاخمة للعاصمة دمشق في شكل فرقة عسكرية عالية التنظيم والتدريب، متمتعة بتسليح حديث ونوعي على مستوى الأفراد مما يجعلها شديدة الفعالية في حرب المدن والشوارع. فضلا عن ذلك، يتمتع اللواء بهيكلية وقيادة عسكرية واضحة، وهو على تنسيق تام مع ماكينة الجيش السوري النظامي.
غالبية المقاتلين في صفوف اللواء هم من العراقيين وينتمون إلى فصائل شيعية مقاتلة في بلادهم مثل «عصائب أهل الحق» و«جيش المهدي». ومع أن هناك ألوية أخرى مثل «ذو الفقار» و«عمار بن ياسر» و«كتائب سيد الشهداء» و«أسد الله الغالب»، إلا أن «لواء أبو الفضل العباس» هو الأكثر تأثيرا. وبالنسبة للحكومة العراقية فإنها أعلنت مرارا أن أحداث سوريا سوف تؤثر على العراق بشكل مباشر، معلنة في الوقت نفسه تمسكها بسياسة عدم التدخل في سوريا، وإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد ومع المعارضة. لكن قوى غربية اتهمت بغداد بغض الطرف عن مساعدات خارجية للأسد، منها استخدام طائرات إيرانية في المجال الجوي العراقي لنقل أسلحة إلى سوريا. لكن بغداد تنفي تلك الاتهامات وتنفي السماح لمقاتلين شيعة بالسفر إلى سوريا بحرية أو تقديم أي دعم لهم.
واستطاع المقاتلون العراقيون، ويتصدرهم «لواء أبو الفضل العباس»، من تحقيق انتصار للنظام في الأحياء المحيطة بالسيدة زينب، وأهمها الذيابية والحسنية في الخريف الماضي، قبل انتقالهم للقتال على محاور الاشتباكات المتواصلة حتى هذا الوقت في ببيلا، والحجر الأسود، ومخيم اليرموك، وسبينه، بالإضافة إلى تمددهم شرقا، بهدف عزل طريق المطار الأكثر توترا عن مناطق نفوذهم في السيدة زينب.
وقالت مصادر المعارضة الأسبوع الماضي إن المقاتلين العراقيين كانوا رأس حربة القتال في شبعا على طريق المطار، حيث قضى منهم ما يزيد على 12 مقاتلا أثناء محاولتهم صد هجوم نفذته جبهة النصرة وكتائب إسلامية أخرى في المنطقة. إضافة إلى ذلك، تشير المصادر إلى أن العراقيين شاركوا بفعالية في الهجوم على المليحة في الغوطة الشرقية، شمال العاصمة السورية.
وينظر معارضون إلى مشاركة العراقيين على أنها «محاولة من النظام لسد النقص في عدد مقاتليه والمخلص الذي ينتشر على مساحة واسعة من القتال في سائر أنحاء البلاد»، مشيرين إلى أن النظام «يستخدمهم كمرتزقة في حربه ضد المعارضة، ويتنقل بهم في أرجاء دمشق وريفها ويستخدمون كمقاتلين في الواجهة، وكحرس في الخطوط الخلفية».
وفي حلب، يتصدر هؤلاء محاور القتال على أطراف نبل والزهراء، بسبب نقص الكثير في القوات النظامية التي تقاتل في المنطقة. ويقول ناشطون إن النظام «يستطيع تجنيدهم عقائديا، من خلال زجهم في محاور قتال يوجد فيها الشيعة، لأنه لا يستطيع تجنيدهم للقتال إلى جانبه من غير خلفية عقائدية». ويشير هؤلاء إلى أن «كل فصيل أجنبي يقاتل إلى جانب النظام له دوره الذي يحثه على القتال، فإذا كان العراقيون يقاتلون في مناطق يوجد فيها الشيعة على نطاق واسع، فإن حزب الله يحشد للقتال في المناطق الحدودية بذريعة تأمينها».
ولا تتبنى السلطات العراقية أي طرف شيعي يقاتل أو يدعم جهة معينة في الحرب الدائرة في سوريا منذ نحو ثلاث سنوات، وتكرر نفيها السماح بإرسال مقاتلين إلى هناك حتى تحت ذريعة الدفاع عن الأماكن الشيعية المقدسة، وفي مقدمتها مقام السيدة زينب. لكن الواقع أن بعض الميليشيات الشيعية، بينها «حركة حزب الله» و«عصائب أهل الحق»، لا ترى «مانعا شرعيا» في التوجه إلى هناك ما دامت المهمة تنحصر في الدفاع عن المراقد الشيعية، خصوصا بعد «نبش» قبر الصحابي عدي بن حجر من قبل تنظيم القاعدة هناك، والسيرة على مقام سكينة في داريا، وهي مقامات بأغلبها ساهمت السلطات الإيرانية في بنائها وتسليط الأضواء عليها، كما ينظم الشيعة الإيرانية رحلات دينية إليها.
وعلى الرغم من تكرار النفي الرسمي العراقي بشأن إرسال مقاتلين من العراق يقاتلون إلى جانب نظام الأسد في الحرب الدائرة منذ نحو ثلاث سنوات فإن جهات عراقية غير رسمية تعترف إما بتشجيع من يذهب إلى هناك بحجة الدفاع عن المراقد الشيعية المقدسة، وإما أنها ترى أنه جزء من تكليف شرعي لا يحتاج إلى موافقة الحكومات.
النفي العراقي الرسمي جاء على لسان وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري أكثر من مرة، كما جاء على لسان وزارة الداخلية لأكثر من مرة أيضا. الحقائق على الأرض تشير إلى أن هناك مواطنين عراقيين قد يذهبون سرا إلى سوريا سواء من تلقاء أنفسهم أو بترتيب وربما بتشجيع من جهات معينة، لكنهم حين يقضون في المعارك فإن عودتهم إلى العراق لا تكون علنية فقط، بل كثيرا ما تجرى لهم مراسم تشييع كبيرة يلعلع فيها الرصاص وترفع الكثير من اللافتات السوداء في شوارع المدن التي ينتمون إليها، وغالبا ما تكون من المحافظات الوسطى والجنوبية ذات الغالبية الشيعية، وكثيرا ما يشارك في مراسم التشييع مسؤولون في الحكومات المحلية أو في الأحزاب الشيعية التي تقود السلطة حاليا في العراق.
الجهات الشيعية التي كثيرا ما يشار إليها على أنها هي من ترسل أو تغض الطرف عن إرسال مقاتلين شيعة يتولون حراسة مرقد السيدة زينب جنوب مدينة دمشق هي جيش المهدي التابع للتيار الصدري والمجلس الأعلى الإسلامي وعصائب أهل الحق وحزب الله - النهضة الإسلامية وكتائب حزب الله العراقي، والأخيرة تعتبر امتدادا للواء أبو الفضل العباس.
التباين في وجهات النظر والمواقف التي يجري التعبير عنها غالبا ما تمثل تباعدا بين مواقف مختلف الأطراف بما في ذلك التي تؤيد إرسال مقاتلين شيعة إلى سوريا، لكن ليس تحت أي غطاء رسمي. فلجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي وعلى لسان العضو فيها حامد المطلك ترى أن «العراق دخل طرفا في الأزمة السورية بطريقة لم تكن موفقة». ويقول المطلك في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «الحكومة العراقية التي كانت كثيرا ما تتهم النظام السوري بأنه هو من يقف خلف الإرهابيين الذين كانوا يتسللون إلى العراق من الأراضي السورية فإنها اليوم تكيل بمكيالين عندما تدافع عن النظام في سوريا وتغض النظر عن مشاركة عراقيين في القتال هناك بينما هي تعيب على الآخرين فعل ذلك». ويرى المطلك أن «الأزمة السورية تركت تأثيراتها السلبية على مجمل الأوضاع في العراق، وذلك لجهة كون الحدود سائبة بين البلدين، حيث يخرج منها المقاتلون إلى هناك تحت فتاوى الجهاد، وتدخل منها المجاميع المسلحة والإرهابية»، معتبرا إن «ذلك يجري كله بترتيب إيراني واضح».
ما يبدو مسكوتا عنه لم يعد كذلك إلى حد كبير، ففي تصريح تلفازي له مؤخرا أعلن نائب رئيس كتلة المواطن البرلمانية التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي عبد الحسين عبطان أن «قتال بعض الشباب الشيعة في سوريا ليس خروجا على قانون الدولة». وأضاف عبطان أنه «إذا كانت الدولة السورية غير قادرة على حماية مرقد السيدة زينب فإن هناك متطوعين من الشيعة للدفاع عن كل مرقد ومكان مقدس في العالم»، مشيرا إلى أن «الحرب لم تعد اليوم بين النظام السوري وبعض الإرهابيين كالجيش الحر». وأضاف عبطان أن «قتال بعض الشباب الشيعة في سوريا لا يعتبر خروجا على قانون الدولة، لأنهم لا يقاتلون أحدا»، لافتا إلى أن «أولئك الشباب يحمون المراقد لأن ذلك جزء من واجبنا».
هذا الموقف يعد تطورا على الموقف العام الذي غالبا ما يكون غير واضح المعالم لدى بعض القيادات السياسية الشيعية، لا سيما التيار الصدري، ومن خلال «جيش المهدي» رغم صدور أوامر بتجميده من قبل زعيمه مقتدى الصدر. ففي الوقت الذي كشف فيه أبو عبد الله المتحدث باسم حزب الله - النهضة الإسلامية الذي يتزعمه واثق البطاط الذي أعلن عن تشكيل جيش أطلق عليه «جيش المختار» في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الأوامر صدرت بتجميد عملية إرسال مقاتلين تابعين للحزب إلى سوريا في الوقت الحاضر»، فإن التيار الصدري أعلن نفيه أن يكون قد قام بإرسال مقاتلين من جيش المهدي إلى هناك. أبو عبد الله أضاف أن «الأوامر بالتجميد صدرت من الأمين العام واثق البطاط لقناعته أن ما يجري في سوريا هو شأن سوري ولا يجب التدخل فيه». المفارقة أن حزب الله - النهضة الإسلامية كان يرسل مقاتلين طبقا لما أكده المتحدث باسمه أبو عبد الله، لكنه توقف دون إيضاح المزيد من الأسباب في الوقت الحاضر، لكن أمين عام كتلة الأحرار الصدرية ضياء الأسدي سبق له أن نفى أن يكون التيار الصدري قد أرسل مقاتلين من جيش المهدي إلى سوريا. وفي مؤتمر صحافي كان قد عقده في مقر الهيئة السياسية للتيار الصدري أكد الأسدي أن «الكلام عن إرسال عناصر من جيش المهدي إلى سوريا تجنٍّ وتهويل، لذلك ننفي الأمر جملة وتفصيلا»، مؤكدا أن «مهام جيش المهدي داخل العراق وليس خارجه». وأضاف الأسدي أن «المعارضة السورية قد تريد أن تصرح بما تريد، لكن الواقع غير ذلك وزعيم التيار مقتدى الصدر نفى ذلك مرارا، وهو ضد التدخل في شؤون الغير». غير أن الموقف الأكثر وضوحا من بين كل مواقف الحركات والأحزاب الشيعية في العراق هو ما عبرت عنه كتائب عصائب أهل الحق التي يتزعمها قيس الخزعلي الذي كان أحد قادة التيار الصدري المقربين من مقتدى الصدر قبل أن ينشق عنه عام 2006، ويشكل هذه الحركة التي يعدها الصدر بأنها قريبة اليوم من ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي. الناطق الرسمي باسم العصائب أحمد الكناني أكد في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «العصائب سبق لها أن أعلنت موقفا رسميا من هذا الأمر قوامه أن الدفاع عن المقدسات الإسلامية واجب على كل مسلم سواء كان سنيا أم شيعيا»، مشيرا إلى أن «الاعتداء على المقدسات الشيعية قد يثير فتنة طائفية خشية أن تكون هناك ردود فعل حيال ذلك مثلما حصل في العراق عام 2006 عندما جرى تدمير مرقدي الإمامين العسكريين، حيث أدى الأمر إلى صراع طائفي، ولذلك فإننا نحاول تجنيب المنطقة هذا الصراع من خلال الدفاع عن مرقد السيدة زينب حتى لا تحصل ردود فعل غير محسوبة في حال تعرض المرقد لاعتداء». ونفى الكناني أن «يكون أي من مقاتلي الحركة يقاتل إلى جانب قوات النظام في سوريا، بل مهمتها تنحصر في الدفاع عن الأماكن المقدسة». وبشأن ما إذا كانت الحركة تبنى ذلك رسميا أو تغض النظر عمن يقوم بذلك قال إن «الحركة تضم مقلدين لعدة مراجع وليست مرجعا واحدا، وبالتالي فإن هناك مراجع شيعة كبارا أفتوا بالدفاع عن المقدسات الشيعية، وهذا يعني أن مقلديهم لدينا يذهبون، وهناك مراجع لم تصدر مثل هذه الفتاوى، وبالتالي لا أحد يذهب»، معتبرا أن «التكليف الشرعي للفرد وليس الموقف السياسي هو من يحدد الذهاب من عدمه». وردا على سؤال بشأن ما إذا كانت هناك حقوق شرعية للمقاتلين الذين يقتلون هناك قال إن «لدينا مؤسسة للشهداء، ولكن موضوع المقاتلين الذين يقضون في سوريا لم يدرج بعد في سياق عملها لأننا لسنا من يتولى ذلك بشكل رسمي، ولكن هناك جهات ومنظمات مجتمع مدني هي من تتولى مساعدة ذوي هؤلاء في حال حصل لهم شيء هناك».



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر