«آسيان» تهادن بكين وتتحدى بيونغ يانغ

واشنطن تخرج عن تحفظها حيال ملفات التوتر في آسيا

رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف والرئيس الأميركي باراك أوباما في القمة (إ.ب.أ)
رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف والرئيس الأميركي باراك أوباما في القمة (إ.ب.أ)
TT

«آسيان» تهادن بكين وتتحدى بيونغ يانغ

رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف والرئيس الأميركي باراك أوباما في القمة (إ.ب.أ)
رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف والرئيس الأميركي باراك أوباما في القمة (إ.ب.أ)

تباينت مواقف الدول الأعضاء في رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) حيال الصين وكوريا الشمالية. الرابطة اتخذت موقفا ليس صارما بخصوص تعنت الأولى حول السيادة في بحر الصين الجنوبي التي تفرضها الدولة العملاقة على هذا الممر المائي المهم. لكن بالمقابل اتحدت الدول الأعضاء في موقفها في مواجهة كوريا الشمالية، التي تحدت دول المنطقة قبل أسبوع بإطلاقها صواريخ باليستية من غواصاتها.
إذ اجتمع أمس الخميس في فينتيان الدول العشر الأعضاء في آسيان (بروناي، وكمبوديا، وإندونيسيا، ولاوس، وماليزيا، وميانمار، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، وفيتنام)، إلى جانب دول شرق آسيا التي تضم القوى الإقليمية الكبرى (الولايات المتحدة، والصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وروسيا).
وفي مشروع البيان المشترك، أعربت الدول الآسيوية الـ18 عن «قلقها العميق» حيال التجارب الصاروخية الأخيرة لكوريا الشمالية. وقالت الدول في بيانها: «نؤكد من جديد على أهمية السلام والأمن في هذه المنطقة، وكذلك دعمنا لنزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية بطريقة سلمية».
ولكن يبقى لها أن تتفق على موقف موحد حيال المطالبات الصينية في بحر الصين الجنوبي، حيث تواصل القوة الإقليمية الأولى بناء الجزر الاصطناعية.
ويشير مشروع الإعلان المشترك فقط إلى ضرورة الحفاظ على «حرية الملاحة البحرية والجوية في منطقة بحر الصين الجنوبي».
الرئيس الأميركي باراك أوباما، طالب بكين، الخميس، بضرورة امتثالها لقرار محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي حيال مسألة بحر الصين الجنوبي، التي تشكل محط خلافات إقليمية. وأكد أوباما على وجوب احترام قرار محكمة التحكيم الدائمة، الذي قضى بألا حقوق تاريخية لبكين في بحر الصين الجنوبي. وقال الرئيس الأميركي خلال قمة رابطة دول جنوب شرقي آسيا في لاوس، إن «حكم يوليو (تموز) المرجعي والملزم، سمح بتوضيح الحقوق البحرية في المنطقة».
وكانت محكمة تحكيم في لاهاي قد قضت في 12 يوليو بأنه ليس للصين حق تاريخي بشأن الممر المائي المزدحم، وأنها خرقت الحقوق السيادية للفلبين هناك. وأثار القرار غضب بكين التي رفضت سلطة المحكمة للفصل في هذه القضية.
وبذلك تكون واشنطن خرجت عن تحفظها خلال الأسابيع الأخيرة حيال هذا الملف المثير للتوتر في آسيا، وذلك لعدم إبداء أي مرونة من قبل بكين التي ترفض حتى الآن الامتثال للقرار القضائي. وتثير هذه المسألة استياء جيران الصين، كالفلبين وفيتنام واليابان، الذين لديهم مطالب سيادية أيضا في هذا البحر الاستراتيجي الذي يعتبر همزة وصل رئيسية بين المحيطين الهادئ والهندي.
وبالنسبة إلى بكين، فإن السيطرة على تلك المياه تمثل تحديا اقتصاديا وعسكريا كبيرا. وهي أيضا وسيلة لإضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة، النظرية التي يحاول أوباما نفيها بدأبه على حضور القمم الآسيوية.
وتعتبر هذه الدعوة التي وجهها الرئيس الأميركي إلى بكين خلال قمة فينتيان، إشارة قوية، مستشهدا بجميع قادة المنطقة، وبينهم كثيرون غاضبون جدا من العملاق الصيني.
وتطالب الصين بالسيادة على بحر الصين الجنوبي بالكامل تقريبا، الذي تمر فيه تجارة تبلغ قيمتها نحو خمسة تريليونات دولار سنويا. كما تطالب بروناي وماليزيا والفلبين وتايوان وفيتنام بالسيادة على أجزاء من البحر الذي يعتقد كذلك أنه غني باحتياطيات النفط والغاز.
ونشرت الفلبين صورا تثبت بحسب مانيلا أن الصين تنفذ خطة سرية لبناء جزيرة في منطقة النزاع. وتظهر الصور سفينتين صينيتين تعدان، بحسب مانيلا، لبناء جزيرة في جرف سكاربرو. وبثت الحكومة الفلبينية الصور قبل ساعات من مباحثات تجري بين قادة رابطة دول جنوب شرقي آسيا ورئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ، خلال قمة «آسيان» المنعقدة في لاوس.
وقال وزير الدفاع الفلبيني أرسينيو أدولونغ لوكالة الصحافة الفرنسية: «كل المعطيات تدعو إلى الاعتقاد بأن وجود (السفينتين) يمهد لأنشطة بناء» في الأرخبيل.
وأضاف: «إننا نواصل أنشطة المراقبة لوجودهم وأنشطتهم المثيرة للقلق».
وحتى الآن، لم يصدر أي رد من الصين الممثلة برئيس وزرائها لي كه تشيانغ، على تحذيرات أوباما التي تتعارض هنا مع موقف واشنطن الأقل حدة.
وقال ليو تشن مين نائب وزير الخارجية الصيني، إن الصين واثقة من قدرتها على العمل مع الفلبين من أجل إعادة العلاقات الطيبة، بعد أن أصبح البلدان على خلاف، بسبب قرار أصدرته محكمة تحكيم في الآونة الأخيرة بشأن بحر الصين الجنوبي.
وتابع: «خلال الثلاثين عاما الأخيرة كانت العلاقات سلسة للغاية. ولم تتأثر العلاقة إلا في السنوات القليلة الماضية بسبب بعض المشكلات المعروفة للجميع»، مضيفا أن الصلات مع حكومة الرئيس رودريجو دوتيرتي الجديدة بدأت بشكل جيد. ولم يرد ليو على تساؤلات بشأن صور نشرتها وزارة الدفاع الفلبينية.
وقال لي، لزعماء «آسيان»، إن قضية بحر الصين الجنوبي «لا يتعين أن تمثل محور العلاقات الرئيسية» بين التكتل الإقليمي وبكين، وإن العلاقات تمضي قدما «في اتجاه إيجابي».
وبالنسبة للقضية الأخرى، أي كوريا الشمالية، فقد تم توسيع نطاق القمة إلى شرق آسيا، وعلى جدول الأعمال ملف رئيسي هو كوريا الشمالية وطموحاتها النووية. وأجرت بيونغ يانغ هذا الأسبوع تجربة جديدة لصواريخ باليستية متحدية المجتمع الدولي، ما أثار غضب بلدان المنطقة. وفي فينتيان، حذر أوباما الكوريين الشماليين من أنهم في طريقهم إلى عزلة أكبر على الساحة الدولية، وهو ما ردت عليه بيونغ يانغ بتحدياتها المعتادة.
الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، دعا الجيش إلى مواصلة تطوير الترسانة النووية لبلاده بعد عملية إطلاق صواريخ باليستية من غواصات. وأشارت وكالة كوريا الشمالية إلى أن كيم «شدد على ضرورة مواصلة مسار هذه الإنجازات العجائبية من خلال تعزيز القوة النووية، خطوة بخطوة، خلال هذا العام التاريخي».



كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
TT

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

نجح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية جديدة في أوروبا وحول العالم، عبر جعل التهديد النووي أمراً عادياً، وإعلانه اعتزام تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

في عام 2009، حصل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على «جائزة نوبل للسلام»، ويرجع ذلك جزئياً إلى دعوته إلى ظهور «عالم خالٍ من الأسلحة النووية». وفي ذلك الوقت، بدت آمال الرئيس الأميركي الأسبق وهمية، في حين كانت قوى أخرى تستثمر في السباق نحو الذرة.

وهذا من دون شك أحد أخطر آثار الحرب في أوكرانيا على النظام الاستراتيجي الدولي. فعبر التهديد والتلويح المنتظم بالسلاح الذري، ساهم فلاديمير بوتين، إلى حد كبير، في اختفاء المحرمات النووية. وعبر استغلال الخوف من التصعيد النووي، تمكن الكرملين من الحد من الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الغربية لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، ومن مَنْع مشاركة الدول الغربية بشكل مباشر في الصراع، وتخويف جزء من سكان هذه الدول، الذين تغلّب عليهم «الإرهاق والإغراءات بالتخلي (عن أوكرانيا) باسم الأمن الزائف».

بدأ استخفاف الكرملين بالأسلحة النووية في عام 2014، عندما استخدم التهديد بالنيران الذرية للدفاع عن ضم شبه جزيرة القرم من طرف واحد إلى روسيا. ومنذ ذلك الحين، لُوّح باستخدام السلاح النووي في كل مرة شعرت فيها روسيا بصعوبة في الميدان، أو أرادت دفع الغرب إلى التراجع؛ ففي 27 فبراير 2022 على سبيل المثال، وُضع الجهاز النووي الروسي في حالة تأهب. وفي أبريل (نيسان) من العام نفسه، استخدمت روسيا التهديد النووي لمحاولة منع السويد وفنلندا من الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)». في مارس (آذار) 2023، نشرت روسيا صواريخ نووية تكتيكية في بيلاروسيا. في فبراير 2024، لجأت روسيا إلى التهديد النووي لجعل النشر المحتمل لقوات الـ«ناتو» في أوكرانيا مستحيلاً. وفي الآونة الأخيرة، وفي سياق المفاوضات المحتملة مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، جلبت روسيا مرة أخرى الخطاب النووي إلى الحرب، من خلال إطلاق صاروخ باليستي متوسط ​​المدى على أوكرانيا. كما أنها وسعت البنود التي يمكن أن تبرر استخدام الأسلحة الذرية، عبر مراجعة روسيا عقيدتها النووية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع مع قيادة وزارة الدفاع وممثلي صناعة الدفاع في موسكو يوم 22 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

التصعيد اللفظي

تأتي التهديدات النووية التي أطلقتها السلطات الروسية في الأساس ضمن الابتزاز السياسي، وفق «لوفيغارو». ولن تكون لدى فلاديمير بوتين مصلحة في اتخاذ إجراء عبر تنفيذ هجوم نووي تكتيكي، وهو ما يعني نهاية نظامه. فالتصعيد اللفظي من جانب القادة الروس ورجال الدعاية لم تصاحبه قط تحركات مشبوهة للأسلحة النووية على الأرض. ولم يتغير الوضع النووي الروسي، الذي تراقبه الأجهزة الغربية من كثب. وتستمر الصين أيضاً في لعب دور معتدل، حيث تحذّر موسكو بانتظام من أن الطاقة النووية تشكل خطاً أحمر مطلقاً بالنسبة إليها.

إن التهوين من الخطاب الروسي غير المقيد بشكل متنامٍ بشأن استخدام الأسلحة النووية ومن التهديد المتكرر، قد أدى إلى انعكاسات دولية كبيرة؛ فقد غير هذا الخطاب بالفعل البيئة الاستراتيجية الدولية. ومن الممكن أن تحاول قوى أخرى غير روسيا تقليد تصرفات روسيا في أوكرانيا، من أجل تغيير وضع سياسي أو إقليمي راهن محمي نووياً، أو إنهاء صراع في ظل ظروف مواتية لدولة تمتلك السلاح النووي وتهدد باستخدامه، أو إذا أرادت دولة نووية فرض معادلات جديدة.

يقول ضابط فرنسي: «لولا الأسلحة النووية، لكان (حلف شمال الأطلسي) قد طرد روسيا بالفعل من أوكرانيا. لقد فهم الجميع ذلك في جميع أنحاء العالم».

من الجانب الروسي، يعتبر الكرملين أن الحرب في أوكرانيا جاء نتيجة عدم الاكتراث لمخاوف الأمن القومي الروسي إذ لم يتم إعطاء روسيا ضمانات بحياد أوكرانيا ولم يتعهّد الغرب بعدم ضم كييف إلى حلف الناتو.

وترى روسيا كذلك أن حلف الناتو يتعمّد استفزاز روسيا في محيطها المباشر، أكان في أوكرانيا أو في بولندا مثلا حيث افتتحت الولايات المتحدة مؤخرا قاعدة عسكرية جديدة لها هناك. وقد اعتبرت موسكو أن افتتاح القاعدة الأميركية في شمال بولندا سيزيد المستوى العام للخطر النووي.