«ملاك» من السعودية

«ملاك» من السعودية
TT

«ملاك» من السعودية

«ملاك» من السعودية

لكل من يشكك في قدرة المرأة السعودية على التحدي والنجاح وصناعة التميّز، عليه أن يقرأ سيرة الدكتورة ملاك عابد الثقفي. هي نموذج لعشرات السيدات الناجحات اللواتي يعززن الثقة بأن هناك قوة كامنة في المجتمع السعودي تنتظر الفرصة لتعبر عن نفسها، وتصنع الفارق.
سيرة الشابة السعودية «المكاوية» ملاك الثقفي يمكنها أن تملأ عالم كل امرأة ورجل بالإلهام، وتعبر بجد عن عزيمة المرأة السعودية، وقدراتها الخلاقة في تحقيق المنجزات، وهي تقدم ردًا على خطاب التوهين والتشكيك في إمكانية المرأة السعودية وقدراتها. بعض هذا الخطاب شاهدناه أخيرًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي توجه كالسهم إلى صدر هذه الشابة النموذج المثالي للنجاح.
ولدت «ملاك» في مكة المكرمة تحمل مرضًا في جيناتها يحدث لأربعة من بين كل عشرة آلاف طفل في العالم العربي، يُسمى (فرط التنسج الكظري)، يعجز المصاب به عن إنتاج ما يكفي من الهرمونات الأساسية، مما يؤدي إلى اضطرابات في التغذية والجفاف، وخلل في نظام ضربات القلب، وقد يتطور الأمر إلى حالات قاتله، نتيجة انخفاض بالسكر وضغط الدم. وقد عايشت المرض بآلامه حتى تعالجت منه في الخامسة من عمرها، وكان يمكن أن يقضي على طفولتها وأحلامها مبكرًا، لكنه أوقد شعلة الطموح في داخلها نحو طريق العلم والطب ودراسة الجينات.
الدكتورة ملاك عابد الثقفي هي اليوم طبيبة استشارية متخصّصة في علم الأمراض العصبية والجينية الجزئية في مدينة الملك فهد الطبية، وباحث رئيس في معمل الجينوم السعودي بالمدينة، وأستاذ بحث مساعد في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في مركز أبحاث الجينوم، وعضو هيئة التدريس في كلية الطب بجامعة هارفارد، واستشاري أمراض عصبية وجينية بمستشفى برمنجهام والنساء في بوسطن الأميركية.
ملاك واحدة من بين أكثر من 20 سعوديًا مبتكرًا دخل عالم تقنية المعلومات وهندستها واستثماراتها في «وادي السيليكون» في سان فرانسيسكو الأميركية، وتعمل باحثة في مجال توطين دراسة الجينات، وتشكيل كيانات تجارية خاصة تخدم وزارة الصحة والقطاع الخاص، وهي تسعى في عملها إلى نقل الخبرات العالمية في مجال التحليل الجيني إلى المملكة، وتوطينها بما يتوافق مع أهداف رؤية المملكة 2030، وبرنامج التحول الوطني 2020.
سألتها ما الوصفة التي تقدمها لتحقيق النجاح؟ فأجابت: «الكل يريد النجاح والتميز، لكنّ ليس هناك وصفة سحرية للوصول إليهما، لا بد من هدف نسعى إليه.. يمكنني أن أضيف أن استعداد الشخص للخروج من محيطه، والعمل مع الآخرين، وتنويع دائرته المعرفية، من أهم أسباب استمرارية النجاح».
حدثتني د. ملاك، من سان فرانسيسكو، قائلة: «بعد الدراسة والعمل البحثي، كانت رغبتي العودة للوطن، ونقل وتوطين ما تعلمته وعملت به في الخارج في مجال التشخيص الجيني والأبحاث المرتبطة به.. لم يكن الطريق سهلاً أو ممهدًا، وتفاجأت بكثير من العقبات، سواء في التنظيمات أو نقص الموارد البشرية والمادية»، وتضيف: «لقد بدأنا بالفعل، وحاليًا نعمل على توطين دراسة الجينات، وخلق روح للريادة العلمية في منطقتنا العربية، مع أكبر شركات التحليل الجيني العالمية».
ماذا يدور في خلد ملاك الثقفي؟ تقول: «كيف يمكن أن نساهم بوصفنا باحثين في جعل مجتمعنا مجتمعًا معرفيًا؟ أعتقد أن ذلك ممكن برفع مستوى البحث العلمي، خصوصا في مجال الجينوم البشري».
في الأخير، توجه ملاك الثقفي رسالة للمرأة السعودية، تخاطبها بثقة: «أنتِ قوة جبارة، ووجودك في مجال العلوم والتقنية أصبح ضرورة ملحه، ويمكنك أن تلعبي الدور القيادي في هذا المجال»، وتضيف: «أنتِ من يربي المجتمع على المعرفة وحب العلم.. والطريق ليس سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً.. ستواجهين المزيد من الصعوبات: عائلية، ومجتمعية، وأكاديمية، وحتى في عدم تساوي الفرص، لكنّ عليك أن تضعي مبكرًا الهدف نصب عينيك، وتسعي لتحقيقه بشغف وإصرار.. عندها سينهار جدار المستحيل!».



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.