{تاريخ مصر في القرون الوسطى} محمل بكل مثالب الاستشراق ودوافعه

كان دخول عمرو بن العاص في أقل من خمسة آلاف من رجاله لمصر في عام 640 ميلادية، بمثابة لحظة تاريخية فاصلة، ونقطة تحوّل جذرية في مسار تاريخ البلاد، بين مصر قديمة شهدت صعود واضمحلال وسقوط حضارة الفراعنة والمتفرعنين، ومصر جديدة تتخلق من تفاعل هائل بين مكونات محلية وأجنبية تقع تحت حكم قبائل عربية حاسمة تحمل رسالة الدين الجديد. وقد بقيت مصر لأكثر من مائتي عام منذ الفتح مجرد ولاية تابعة للمركز في المدينة، أو دمشق، أو بغداد، قبل أن يكتسب القائد التركي أحمد بن طولون للبلاد نوعًا من الحكم الذاتي، باستقلال شكلي عن العاصمة، وتحولها بعد ذلك إلى ملعب صراع بين دول الإسلام في المشرق والمغرب، بين العباسيين والفاطميين، ومن ثم تعدد الممالك كما الدول بقوة السلاح وشرعية الإسلام والتحالفات الإقليمية، لتنتهي هذه المرحلة بلحظة دخول العثمانيين إلى مصر في عام 1517.
ولقد بدأ اهتمام أوروبا بفهم أعمق لتاريخ مصر بعد حملة نابليون، وصدور كتاب «وصف مصر»، فكان أن وضع المستشرقون كتابين مرجعيين هامين لتاريخ مصر في هذه المرحلة من العصور الوسطى؛ أحدهما بالفرنسية لـ«كراستون فييت»، والآخر بالإنجليزية (تاريخ مصر في العصور الوسطى) لـ«ستانلي لين بول»، وهو الذي نعرض له اليوم.
كان الكتاب قد صدر بالإنجليزية لأول مرة في نيويورك، في عام 1901، ليقدمه أحمد سالم سالم مترجمًا إلى العربية، بمراجعة وتقديم الدكتور أيمن فؤاد سيد، في طبعة ممتازة عام 2014، وتصدر منه طبعات ثانية وثالثة في 2015 (وهي النسخة التي بين أيدينا، والتي تقع في سبعمائة وخمسين صفحة، والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة)، مما يشير إلى استقبال حماسي لقيته الترجمة في قلوب قراء العربية، كما حصل الكتاب على المركز الثالث لجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في قطر، لعام 2015.
وستانلي لين بول (1854 - 1931) مستشرق إنجليزي يعد مرجعية كلاسيكية في كل ما يتعلق بآثار مصر الإسلامية، ومسكوكاتها، وسلالاتها الحاكمة، وهو من عائلة وقعت فيما يبدو في هوى الشرق، فخاله مستشرق معروف (إدوارد وليم لين)، وأمه (صوفيا بول) زارت مصر، وكتبت منها رسائل عن الحياة في القاهرة قبل مائة عام.
ودرس ستانلي في جامعة أكسفورد، ثم أوفد إلى مصر عدة مرات في بعثات علمية. وقد وضع مجموعة كتب متخصصة، منها «معجم السلالات الإسلامية الحاكمة» (1892)، و«فن المسلمين في مصر» (1886)، و«الحياة الاجتماعية في مصر» (1886)، و«صلاح الدين وسقوط مملكة القدس» (1898)، و«قصة القاهرة» (1901).
وقد عمل خلال حياته في المتحف البريطاني، كما درّس العربية في جامعة دبلن، ومن ثم انتقل إلى مصر باحثا في الآثار، مكلفًا من الكتبخانة الخديوية بالقاهرة بوضع فهرس لمقتنياتها من المسكوكات. ومع تخصصه في شؤون مصر الإسلامية، فقد وضع كتبًا هامة أيضًا عن «قصة العرب في إسبانيا»، و«تركيا»، و«قصة القراصنة المغاربة»، و«تاريخ أباطرة المغول»، بالإضافة إلى إكماله المعجم العربي الذي توفي خاله قبل إتمامه.
ورغم مرور أكثر من 100 عام على نشر هذا الكتاب لأول مرة، فإن «تاريخ مصر في العصور الوسطى» لا يزال أهم وأشمل كتاب يغطي تاريخ مصر في هذه الحقبة المفصلية من تاريخ البلاد، وعندما دفع ستانلي بكتابه للنشر في لندن، لم تكن معظم مصادر الكتاب منشورة، إلا قليل منها، لكنه اطلع على معظمها كمخطوطات، ومن خلال مدونات المستشرقين الآخرين. ويبدأ ستانلي كل فصل من فصول الكتاب عن إحدى الدول التي تعاقبت على مصر بذكر أهم مصادره، ويعدد كذلك الآثار الباقية في مصر التي ترجع إلى ذلك العهد، كما يدرج كثيرا من الصور الفوتوغرافية النادرة والأشكال التوضيحية ونماذج المسكوكات المتداولة في حينها، إضافة إلى قوائم بأسماء حكام السلالات المتعاقبين.
ولم يكتفِ ستانلي بسرد تعاقب الأحداث التاريخية السياسية فحسب، إنما يحسب له أنه حاول - وفق ما سمحت به مساحة الكتاب - إلقاء الضوء على الإطارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي رافقت تحولات الدول في مصر العصور الوسطى، وأنه قدم أيضًا كثيرا من التحليلات الثاقبة، بالإضافة إلى وجهات النظر بشأن الأحداث، مما جعل كتابه مرجعا لا بد منه لأي باحث في تاريخ مصر، ومحطة لا بد منها للعبور إلى أي من الدراسات المتخصصة التي ظهرت لاحقًا في هذا المجال.
ولا شك أن كتاب ستانلي يأتي محملاً بكل مثالب الاستشراق ودوافعه. فستانلي لين بول وعشرات غيره من العلماء والباحثين إنما كانوا على نحو مباشر أو ضمني جزءا من المنظومة الإمبريالية الغربية في القرن التاسع عشر، هذه المنظومة التي كانت تعتمد إلى جانب الجيوش على كتائب المستشرقين كسلاح لفهم الشرق، بهدف بسط النفوذ عليه، في وقت كان فيه نجم الغرب صاعدًا، وجمود الدولة العثمانية قد بلغ مداه. وهكذا، قد ينبغي للقارئ أن يمضي حذرًا في قبول البضاعة كما يقدمها المستشرقون، لكن الحق يقال، إن لهؤلاء فضلاً لا ينسى على الإنسانية، لأن كتبهم كانت في معظمها ذات مستوى رصين، استهدفت تحقيق فهم علمي للمنطقة - بغض النظر عن الدوافع - كما سجلت، وأنقذت، كمية هائلة من المخطوطات والآثار والمسكوكات التي ضاعت، أو كادت، في نهاية الحقبة العثمانية.
ويغطي الكتاب في أحد عشر فصلاً الفتح العربي لمصر، ثم فترة الولاية للخلافة الإسلامية، قبل أن يقدّم الطولونيين والإخشيديين بوصفهما من السلالات الأولى التي وضعت مصر على طريق الاستقلال في المضمون، وإن لم يكن في الشكل. وبعد ذلك، يتحدث عن الثورة الشيعية، وعن الخلافة الفاطمية، ثم هجوم المغول من الشرق، فالحروب الصليبية، ومرحلة صلاح الدين والأيوبيين، فالمماليك الأوائل، قبل إفراد فصل خاص عن سلالة قلاوون، وأخيرًا دولة المماليك الجراكسة، لينتهي الكتاب حول فترة اكتشاف رأس الرجاء الصالح، وفقدان مصر لدورها الاستراتيجي على طرق التجارة، ومن ثم سقوطها بيد سلاطين تركيا منذ عام 1517، الذين أصبحوا منذ ذلك الحين بحكم الأمر الواقع بمثابة الخلافة الإسلامية للجزء الأغلب من العالم السني، منذ وفاة الخليفة العباسي المتوكل.
وتبدو ترجمة أحمد سالم سالم رائقة سلسة، تمت على يد خبير عارف بموضوعه أضاف لعرض الكتاب المختصر للأحداث كثيرًا من الشروح التفصيلية والتعليقات الثرية التي تعين على نحو خاص القارئ غير المتخصص، مع أنه يجدر بالمترجم دومًا أن يبتعد قدر الإمكان عن إبداء وجهة نظره الخاصة في الأمور، تاركا الحكم على النص والمعلومة للقارئ، دون محاولة فرض أي تصور مضاد عليه، فمواجهة استشراق ستانلي لا تكون بتقديم استشراق نقيض، يعيدنا مخفورين للوقوف على تقاطع الشرق - غرب، كما ينزلق المترجم في بعض الأحيان القليلة إلى سجالات حضارية ضد طروحات الرجل، متهمًا إياه بالافتقار إلى الموضوعية في بعض تفاصيل طرحه للأمور، وهي وجهة نظر لا يتفق الجميع بشأنها، إذ كان من الأفضل له تركها لنباهة القراء.