رحلتي إلى مدينة بولو في تركيا كانت أقرب لقصص خيال الأطفال، ليس فقط لتميز المدينة بجمال رباني وهدوء يبعث على طمأنينة النفس، بل لغرابة ما تعلمته عن المدينة وطبيعة سكانها الفريدة.
عند وصولي إلى إسطنبول، اتصلت بصديقي التركي إبراهيم، وإذ به يدعوني للانضمام إليه في عطلته السنوية، حيث تصادف أنه سيزور أهله في قرية صغيرة تبعد عن إسطنبول، واسمها مينغين في مدينة بولو.
قال لي إبراهيم إن قريته والمدينة التي يعيش فيها من أجمل المدن والقرى في فصل الصيف. تحمست كثيرا وقررت اللحاق به دون أن أعرج على أي من معالم إسطنبول.
جمال الطريق كان أفضل من لوحات مرسومة، بل إنها تشكل إلهاما لكل رسام. لم يخل الطريق من بحيرات وجبال تكسوها الحقول وبيوت معمارها قديم مغطى بالقرميد الأحمر يتخللها موانئ وجسور عالية بين أحضان الطبيعة.
لا أعلم كيف مضى الوقت، وإذ بي أصل مدينة بولو لأجد صديقي بانتظاري. تصافحنا بحرارة وانطلقنا لنبدأ برنامجا أعده لي ليعرفني على المدينة ومن ثم قريته الجميلة.
المعدة خاوية وكان علي إسكاتها بوجبة على الفور. توجهنا إلى مطعم قريب من محطة الباص طهاته سبع نساء وأعمارهم جميعا فوق الستين عاما. ولا يوجد في المطعم سوى طبق واحد واسمه «جوزلومية»، وهو عجينة الخبز المحشيه بالحم وتطبخ على الصاج مع البن وصلصة البندورة. ما زلت أذكر طعمه اللذيذ ورائحة الخبز المطهي على نار التنور. وبعد انتهائنا من الوجبة سألت صديقي ما سر عمل النساء في المطعم، أين الرجال وأين الطهاة؟ قال لي وهو يضحك: لم تر شيئا بعد..
ذهبنا إلى محطة الحافلات لنتجه إلى قريته «مينغين». عند وصولنا إذ بي أشاهد تمثالا كبيرا من الحديد لطاه ووعاء طهي كبير جدا. مستغربا وبفضول الصحافي سألته ما هذا التمثال ولماذا شيد هنا؟!!
قال لي: يا صديقي، يعود تاريخ هذه القرية إلى الزمن العثماني، حيث تشتهر المدينة بطهاتها. فطهاة القصر كانوا وما زالوا إلى عصرنا هذا من هذه القرية التي لا يتجاوز عدد سكانها 5500 شخص. قلت لنفسي: كيف لقرية صغيرة في مكان ناء يشكل معظم سكانها من الطهاة؟
نزلنا من الحافلة لنستقل سيارة أجرة نحو منزل صديقي. سأل سائق التاكسي صديقي من أين ضيفك؟ فقال من الأردن. فقال السائق ابني يعمل هناك كطاه!! فلم أستطع أن أخفي ابتسامتي عند معرفتي.
وأضاف السائق أن ابنه الثاني يعمل كطاه في إسطنبول، وأنه كان طاهيا قبل أن يترك هذه المهنة ويعمل سائق تاكسي.
وصلنا بيت صديقي وكانت العائلة بانتظارنا. كانت الأجواء العائلية تنم عن الدفء وكأننا في بيت عربي، رغم اختلاف اللغة.. لكن لغة الضيافة والابتسامات كانت أفصح من أي لغة.
أيقظني صديقي في الصباح الباكر وهو يقول لي إن الجميع استيقظ مبكرا وهم الآن بانتظاري لتناول وجبة الفطور. المائدة عامرة بكل ما تشتهيه النفس، لكن طبقا واحدا أدهشني!!! إنه مربى الورد الجوري الأحمر..! كم كان الشعور جميلا أن آكل الورد وأجد أطعمة من أجمل ما ذقت.
وبعد شرب الشاي التركي انطلقنا في برنامج أعده صديقي يبدأ في شوارع القرية.
الكل يعرف إبراهيم وهو يلقي السلام على الجميع ويقول لي إن هذا الشخص طاه هنا وآخر هناك.. فوجدت نفسي بقرية كل من فيها طهاة!!! وإذا بشخص أتى ليلقي علينا السلام وهو أحد أقارب إبراهيم. فقال إن إخوته جميعا طهاة وإنه هو كان طاهيا ولكنه الآن يعمل في بقالة والده بعد أن توفاه الله.
لم أعد أفهم، غير أني لا أرى غير الطهاة. ولكني إلى الآن لم أجد أي مطعم في هذه القرية. سألت صديقي أين المطاعم إذا كنتم تشتهرون بالطبخ! قال مبتسما: «لا يوجد لدينا مطاعم كبيرة، لأن الجميع يأكل في بيته، ولكن هناك بعض المطاعم الصغيرة لمن يأتي للتسوق من مناطق بعيدة، تقدم وجبات سريعة مثل الشاورما وغيرها».
بعد أن رأيت القرية ذهبنا عائدين إلى البيت لنتناول وجبة الغداء. ونحن نأكل قلت إن الطعام لذيذ جدا، فقال إبراهيم إن والده من طهي الطعام!!! فقال إنه كان يعمل أيضا كطاه، الآن لم يعد يرى الدهشة على وجهي، سألت صديقي أكل من في القرية يعمل كطاه!
قال كلا، إن هناك القليل من السكان يعملون على احتياجات أهل القرية مثل الحلاقة والبقالة والنجارة، وهناك أيضا جامعة يدرس طلابها فنون الطهي، ولا توجد جامعات أخرى.
بعيدا عن الطعام، حان الوقت لجولة في المنطقة المحيطة بالقرية، حيث تشتهر أيضا بجمال طبيعتها وكثرة الغابات والبساتين. بالقرب من القرية، يوجد منجم للفحم قديم يعمل فيه نحو 100 شخص. ذهبنا لزيارته وإذا به يقع تحت عمق 450 مترا تحت الأرض، ينتج أجود أنواع الفحم، كما يقولون، لأنهم يعتمدون على المواد الطبيعية في استخراجه.
ومن هناك، توجهنا إلى بحيرة صغيره لاصطياد السمك، وبعد أن اصطدنا بعض السمك، عدنا إلى المنزل ليقوم صديقي بطهيها لنا..
أيقظني إبراهيم في صباح اليوم التالي باكرا وذهبنا إلى السوق المفتوحة، حيث يتجمع أبناء القرى المجاورة ليبيعوا ما أنتجته أيديهم وحقولهم، فهناك من يبيع الجبن، وهناك من يبيع الخضار أو التحف والمخللات والسكاكين بالطبع.
الآن وقد حان موعد رحيلي، اتضح لي أن من كان يقوم بأعمال البيت مثل إصلاح الأرض وزراعتها والعناية بالمواشي أو صيانة المنزل هم النساء، حتى في التجارة، أما الرجال المتقاعدون أو العاطلون عن العمل، فكانوا يجيدون لعب الورق والطاولة والجلوس في المقهى. تعلمت كثيرا في بولوا واستمتعت بكل لحظة بين أناس أجادوا فن الضيافة قبل أن يتقنوا فن الطهي.
ودعت عائلتي الجديدة وطلبت بعضا من مربى الورد الجوري ليكون صديقي الجديد على مائدة الفطور..
بولو.. مدينة الطهاة في تركيا
شعبها أتقن فن الضيافة والطهي على مدى عصور
بولو.. مدينة الطهاة في تركيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة