«البوركيني».. والتطرف اللاديني

أمام تحدي تجديد العلمانية وتجاوز فكر اليمين الفرنسي

أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
TT

«البوركيني».. والتطرف اللاديني

أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)
أمرأة ترتدي البوركيني المثير للجدل على شاطئ البحر في مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا (رويترز)

ظهرت قضية «البوركيني» في فرنسا بعد منع 30 بلدية للباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات. أثار المنع جدلاً واسعًا على مستوى البلاد وفي وسائل الإعلام العالمية، كما جدّد الجدل الدائر في فرنسا حول العلمانية والحرية الدينية. كذلك صاحب النقاش الدائر حول خطوة البلديات، توسّع مخيف من طرف الشرطة في التضييق على المسلمات القاصدات البحر، ووصل التضييق لتحرير محاضر لنساء محجبات فقط واتهامهن بتهم غريبة من مثل إزعاج الناس. ومن الأشرطة التي توثق لهذا السلوك الفيديو المصوّر يوم الثلاثاء 23 أغسطس (آب) من طرف فايزة بن محمد، المتحدثة باسم «اتحاد مسلمي الجنوب» وأمينته العامة.
من واقع أن الجدل المثار حول «البوركيني» في فرنسا كانت له أسس قانونية، وجاء مدعومًا من طرف قرار لمحكمة إدارية بجنوب فرنسا بمدينة كان، استدعت الضجة الإعلامية، ومعها شدة الجدل السياسي والحقوقي الداخلي، تدخلا مباشرا من مجلس الدولة الفرنسي.
وعلى عكس قرار البلديات التي يسيطر على معظمها اليمين الفرنسي المناهض للإسلام، قرر مجلس الدولة يوم 26 أغسطس 2016 لا قانونية قرار منع «البوركيني»، ورفض مزاعم محكمة مدينة كان التي اعتبرته مسا بالنظام العام. وأبعد من ذلك، اعتبرت الفتوى القانونية لمجلس الدولة «القرار البلدي مساسا خطيرا بالحريات الأساسية» وهي حرية التنقل وحرية المعتقد والحرية الشخصية. وهذا رأي قانوني يعيد للأذهان ما أثير في إسبانيا عام 2010، حين صوتت 30 مدينة في إقليم قطالونية (كتالونيا) على قرار يقضي بمنع ارتداء «البرقع» في الإدارات العامة، لكنّ قرار المحكمة العليا رفض هذا المنع، واعتبره معاديا للحرية الدينية. وفي حين رأى كثيرون من المثقفين الفرنسيين قرار مجلس الدولة الأخير أنه «إنقاذ لسمعة العلمانية الفرنسية والحرية الفردية» باعتبار الفضاء العام مكانا للحرية وممارسة المعتقد، رآه آخرون «مكسبًا جديدًا للمسلمين وعودة غير علمانية للدين في المجتمع الفرنسي. وتراجعًا عن المسار الذي دشنته سياسة حظر ارتداء الحجاب في المدارس والإدارات العامة في العام 2004؛ ومنع النقاب في الأماكن العامة عام 2010»، وبالتالي، فهم يرون أن تدخل مجلس الدولة الأخير من شأنه عرقلة مسيرة سيطرة الدولة على الدين السائدة في فرنسا التي رسمها قانون جمهوري بتاريخ 9 ديسمبر (كانون الأول) 1905 فصل بين الدولة والدين.
ثم إن هذا القرار، قد لا يتوافق مع المزاج العام الفرنسي الذي يوجّهه الإعلام في زمن انتشار «الإسلاموفوبيا» (العداء للمسلمين والخوف منهم) في فرنسا عبر الأوساط الإعلامية والثقافية والإدارية وبعض الأجهزة الأمنية. ويبدو أن العداء للدين ورموز الدين الإسلامي، خاصة، أصبح له جذور اجتماعية صلبة، فحسب استطلاع رأي أجرته جريدة «لوفيغارو» اليمينية أياما قليلة قبل قرار مجلس الدولة، فيما يتعلق بوجهة نظر الفرنسيين الخاصة حول «البوركيني»، أجاب 76 في المائة من المصوّتين بـ«نعم» على سؤال «هل ترى أن ارتداء (البوركيني) يمكن أن يشكل خطرا على النظام العام؟».
نظرة تاريخية
من الناحية التاريخية والسوسيولوجية، فإن الميل المجتمعي في فرنسا لاستبعاد الدين، خاصة الأديان الأجنبية مثل الإسلام، يبدو طبيعيا لاعتبار أساسي، أوضحه فيلسوفا العلمانية الفرنسيان جون بيبيرو ومارسيل غوشي. إذ يرى هذا الأخير، أن «الشكل التفاعلي الذي نسميه اليوم بعلمانية الدولة ظاهرة خاصة بالغرب. وعلى وجه الخصوص، هو قلق يشغل بال فرنسا، التي أنتجت النسق العلماني وطبّقته في مستعمراتها». ورفض الدولة لكل انقياد تجاه الكنيسة في معناه العام هو العلمانية، ومصطلح العلمانية laïcité هو اختراع وحالة فرنسية خاصة بتعبير جون بيبيرو jean Baubéro.
ولئن كانت اختيارات الأفراد، أو الفرد، اختيارات دينية كما هو الحال في قضية لباس البحر «البوركيني»، فكيف يتحرك الفرد داخل الاجتماع البشري الذي يعيش فيه؟
الجواب على مثل هذا السؤال، تطبعه صرامة العلمانية الفرنسية بطابعها السوسيو-تاريخي الذي جسده قرار المنع من 30 بلدية. إن الموظف داخل أجهزة الدولة، والمصطاف في البحر، أو غيره يلزمه المبدأ العلماني بالحياد تجاه المعتقدات الأخرى جميعا، والانتماءات الوسيطة الأخرى كافة. والحقيقة أن فكرة الحيادية المتبناة من طرف العلمانية مثالية (طوباوية) لاعتبارين:
الأول، اعتبار معرفي، يرجع بنا إلى صراع الكنيسة والحركة العلمانية حول التعليم ومؤسسات المعرفة، والسلطة. فالسلطة المعرفية في حالة قيام الدولة العلمانية هي القاعدة الخلفية لدوام المرجعية الوضعية. ذلك أن المؤسسة التعليمية ستكون بالضرورة أشد المدافعين والناشرين للعلمانية من خلال التنشئة السياسية، والثقافة السياسية المبثوثة وسط المناهج التعليمية. فإذا كانت الدولة الدينية تعني الحكم باسم الله، فإن الدولة العلمانية تعني الحكم باسم السلطة المعرفية الوضعية المادية.
والثاني، يتعلق بالحياد المطلوب، فهو في العلمانية الفرنسية حياد تجاه المعتقدات الأخرى جميعًا، والانتماءات الوسيطة الأخرى كافة. وبهذه الحمولة يفقد الحياد معناه أصلاً، لأنه من جهة حياد وفق رؤية وفلسفة للحياة هي العلمانية. ومن جهة أخرى صعب التحقق خاصة عند وجود مرجعيات أخرى غير المرجعية العلمانية، عند الفرد أو الجماعة مثل المرجعية الإسلامية في حالة لباس المسلمات في البحر.
إن الحياد هنا يعني بالضرورة الدفاع عن التصوّر المنطلق منه، أضف إلى أنه، من الناحية العملية، فإن العلمانية تتحوّل إلى معول لهدم الحرية لتضمن هذا الحياد المثالي. إن التفاعلات الاجتماعية تعطي للسياسي أهمية كبيرة، وبالتالي، فمنع الحجاب بقرار قضائي أو قانوني، كما يقع في فرنسا مثلا، يحوّل الدفاع عن العلمانية إلى حركة مرتدّة عن حقوق الإنسان، ويظهرها كتصوّر متطهِّر، ومرجعية فوق بشرية، بل ديانة منافسة للديانات المعلومة.
ثم إن التطور التاريخي للعلمانية، ووجود الدين في الفضاء العام، تطوّر سار عبر مسارين خاصين: ففي أوروبا الغربية حافظت الكثير من البلدان على الوصل مع هوية الدين. في حين أن بعض البلدان كانت تخضع لنظام فردي شمولي، كما هو الحال أوروبا الشرقية سابقًا. وعلى الجانب الآخر، تعمل أنظمة ديمقراطية طويلة في معظمها على ضمان الحرية الدينية في دساتيرها، ومع ذلك تحظر العلمانية والدين في كثير من الأحيان، بشكل ضمني في الحاضر والممارسات الاجتماعية. وهو ما يفسر كون «عدد من الدول الأوروبية لا تزال تعاني من دين الدولة، وفق ليليان فوييه Liliane Voyé في دراسة قيمة حول الدين والسياسة بأوروبا». أكثر من ذلك فإن الواقع السوسيولوجي وفق الباحث في علم الاجتماع السياسي إيف لامبير Yves Lambert يؤكد أن هناك «حالة دينية تقبع داخل العَلمانية وتتكيف باستمرار مع الفضاء العام».
ولأن المسار المجتمعي الفرنسي والأوروبي يتغير دينيًا وعرقيًا، فإن الفيلسوف غي هارشر Guy Haarscher يؤكد أننا في حاجة إلى الاختلاف مع العلمانية الكلاسيكية. فالجوهر العلماني ما يزال صامدًا داخل المجتمع الفرنسي، وهذا ما يجعل النظرة الراديكالية حيال الدين ورموزه مثل «البوركيني» توافق المفهوم التقليدي للعلمانية الذي يحصر الدين في المجال الشخصي بعيدا عن المدرسة. فالحجاب ما هو إلا «غطاء للرأس»، بينما التوافق مع الحداثة يجعلنا نقبل بالتعددية، والدول الديمقراطية تستطيع أن تبقى في الجوهر علمانية. غير أن «العلمانية الفرنسية ليست محمية من طرف القانون الدولي».
وبشكل أكثر وثوقية ووضوحًا - كما يقول هارشر - «ليس هناك نص في الدول الديمقراطية يفرض فصلا دقيقا بين الدين والدولة». هنالك وزارات تهم الشأن الديني... ويتضح الأمر أكثر إذا نظرنا إلى الفصل بين الدولة والدين في بريطانيا والدنمارك واليونان وإسبانيا، حيث يبرز الطابع الديني في المدرسة والأسرة والمجتمع، فأطروحة كوي تغوص للبحث عن الأساس المرجعي للدولة.
في ظل الدولة المعاصرة، نلاحظ غياب العلمانية في غالبية دول العالم، ذلك أن «المنطلقات العامة لا تكترث لا للحقيقة العلمانية ولا للإرادة الجماعية للمؤمنين، بل يبحث عنها في الفضاء الحر الذي تفتحه الحريات العامة وخاصة حريات (العلمانية)».
وكما ذهب غي هارشر، يؤكد جون بوبيرو أن «العلمانية الفرنسية ليست النموذج الوحيد، بل هناك النموذج البلجيكي الذي كوّن عائلة من المفاهيم، وله نمطه الخاص في ظل تعددية الأديان، وفرنسا نفسها تعيش هذه الحالة، لهذا فإن النقاش المستمر في الدائرة الأنجلوساكسونية حول العلمانية يجب أن يؤخذ به في الدائرة الفرنسية، لتجاوز المشاكل التي تطرحها العلمانية من الزاوية السوسيولوجية».
أما مارسيل غوشي في كتابه «الدين في الديمقراطية» (ص 98)، فيرى «أننا أمام تحول تاريخي كبير في علاقة المجتمع والدولة. إذ راهنت العَلمانية على حصر الدين في النطاق الخاص الفردي، غير أنها فشلت، وفي «هذا الإطار يجب فهم السياق الذي وضع فيه إعادة تعريف العلمانية الذي يجري حاليا».
فهل يسمح قرار مجلس الدولة الفرنسي يوم 26 أغسطس 2016 بتغيير مسار الاختيار العلماني لفرنسا بتغيير قانون 1905 ليستجيب للتغيرات الطارئة على المجتمع الفرنسي؟
وهل تستطيع فعلا العلمانية الفرنسية الصارمة أن تحافظ على الحقوق والحريات في زمن الإسلاموفوبيا والإرهاب العابر للحدود؟
وكيف ستتعامل الطبقة الفرنسية المولعة باستغلال قضايا الهجرة والمسلمين في المعارك السياسية والانتخابية مع مثل هذه المستجدات القانونية، في زمن الصعوبات الاقتصادية، وتزايد مطالب الشباب الاجتماعية، وإصلاح التعليم بفرنسا؟
* جامعة محمد الخامس - الرباط



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».