أوراق وقصاصات غير منشورة لصاحب «مائة عام من العزلة»

مركز «بنسون» الأميركي يفتتح مكتبة باسم «غابريال غارسيا ماركيز»

ماركيز - مسودة رواية «مائة عام من العزلة»
ماركيز - مسودة رواية «مائة عام من العزلة»
TT

أوراق وقصاصات غير منشورة لصاحب «مائة عام من العزلة»

ماركيز - مسودة رواية «مائة عام من العزلة»
ماركيز - مسودة رواية «مائة عام من العزلة»

في بداية هذا الشهر، هنا في فرع جامعة تكساس (للجامعة 14 فرعا في مختلف أنحاء الولاية)، وعلى مسافة ليست بعيدة من نهر كولورادو، وحول برج الجامعة العالي، تجمع أساتذة وطلاب وصحافيون، بمناسبة مرور خمسين عاما على ما صارت تُعرف باسم «مجزرة برج جامعة تكساس في أوستن».
في الأول من أغسطس (آب) عام 1966، صعد شارلز ويتمان، طالب الهندسة في الجامعة، إلى البرج وهو يحمل حقيبة فيها ثلاث بنادق ومسدسان، بعد أن قتل زوجته ووالدته. وخلال ساعة ونصف الساعة، قتل 14 شخصًا، وجرح 60 شخصًا. وقعوا كلهم في الميدان أمام البرج.
بالقرب من البرج، توجد المكتبة التذكارية للرئيس لندون جونسون، ثم مركز «بنسون للدراسات الأميركية اللاتينية»، الذي احتفل أخيرا بمناسبة سعيدة. وهي افتتاح مكتبة «غابريال غارسيا ماركيز»، الروائي الكولومبي الذي نال جائزة نوبل في الأدب (عام 1982).
ويتخصص مركز «بنسون» في جمع وثائق ومدونات مشاهير أميركا اللاتينية. وتوجد فيه أكثر من مليون وثيقة، ومدونة، ودورية. ويعتبر أكبر مكتبة لجمع الوثائق اللاتينية في العالم.
في قسم ماركيز قصاصات صحف جمعها، وكتب اقتناها، ومسودات روايات كتبها (اشتهر بكتابة الروايات القصيرة). وفيها كتب وقصاصات توضح ولعه، وتأثُّره بشخصيتين روائيتين مشهورتين: الأولى: البريطانية فرجينيا وولف، التي توفيت عام 1941 (تحتفظ مكتبة نيويورك بجزء كبير من أوراقها)، الثاني: الأميركي ويليام فولكنر، الذي توفي عام 1962 (تحتفظ مكتبة جامعة فرجينيا بأوراقه).
ولد في قرية اراكاتاكا في كولومبيا (أميركا الجنوبية) عام 1927. وتوفي قبل عامين، وعمره 87 عاما. حسب تسمية الأسماء اللاتينية، اسمه غابريال غارسيا ماركيز («غارسيا» عائلة والده، و«ماركيز» عائلة والدته). ويسميه معجبوه باسم التصغير «غابي»، الذي كانت تناديه به جدته من أمه، التي ربته.
في وقت لاحق، كتب واحدة من رواياته المشهورة من وحي تربية جدته له.
وكتب أخرى من وحي قصة الغرام الذي جمع والده ووالدته، والذي كان «شبه مستحيل»، كان والده صيدليا، ينتمي إلى الطبقة الوسطى. وكانت والدته بنت الجنرال غابريال ماركيز، المتعالي المتكبر، وأهم شخصية في المدينة، وزير نساء مشهور.
وانعكست قصة حب والده ووالدته على رواياته. وذلك لأن الجنرال رفض أن يزوج ابنته لرجل من الطبقة الوسطى. وهدد بقتل الرجل، وأخفى البنت في مدينة بعيدة. لكن قضى الرجل سنتين ينظم قصائد الحب، ويجمع باقات الورود، والعزف على الكمان. حتى هزم الجنرال.
وانعكس هذا في رواية «حب في زمن الكوليرا».
ومن المفارقات أن الجنرال، بعد أن كبر «غابي»، وصار يقص عليه قصصًا عكسها «غابي» في رواياته، فقد كان يقص عليه قصصًا خرافية عن حضارة كولومبيا القديمة. واسمها (من اسم المكتشف الإسباني كريستوفر كولومبس). وأهراماتها (منذ آلاف السنين) مع خرافات بأن لها صلة بأهرامات الفراعنة في مصر، وكذلك قصص الاستعمار الإسباني (الذي حكم كولومبيا والدول المجاورة 400 عام تقريبًا). وقصص النضال ضد الاستعمار، والأمراض الأوروبية التي قتلت كثيرًا من السكان المحليين (من الهنود الحمر، والسمر، والسود).
وكان يحدثه أيضًا عن نضاله هو، الجنرال، ضد الحكومات الفاسدة التي حكمت كولومبيا في ذلك الوقت. وقصة «مجزرة الموز» ضد شركة «يوناتيد فروتز» الأميركية (عام 1928). كانت الحكومة اليمينية «طلبت» التدخل العسكري الأميركي، الذي أدى إلى قتل وسط مزارعي الموز، وغيرهم، واتهام المعارضين، مثل الجنرال، بالشيوعية.
* «مائة عام من العزلة»
من بين قصاصات الصحف في مكتبة غارسيا ماركيز في جامعة تكساس، قصاصة من صحيفة «نيويورك تايمز» (2 ديسمبر/ كانون الأول 1982)، وفيها مقابلة معه، ومن بين ما قال فيها: «كان جدي الجنرال ليبراليًا. وأعتقد أنني تأثرت به كثيرا. وأعتقد أن ميولي الاشتراكية، وعدائي لاستغلال الدول الكبيرة للشعوب الضعيفة، كان بسبب ذلك».
في المقابلة الصحافية ذاتها، تحدث عن تأثير جدته لأمه (التي ربته): «قصص خرافية بعد قصص خرافية بعد قصص خرافية. هذه هي حصيلتي منها. قصص الأشباح، والأموات، والجماجم، والوحوش. لكن، أيضًا، قصص العواطف العائلية، وحب الجيران، ومساعدة المحتاجين».
صدرت رواية «مائة عام من العزلة» في عام 1967 باللغة الإسبانية. ثم تُرجِمت إلى 37 لغة، وباعت أكثر من 30 مليون نسخة.
وتتلخص في سيرة سبعة أجيال من عائلة «بونديا» الخيالية، في مدينة ماكوندو الخيالية، جيلاً بعد جيل. وقصص العذاب والفقر. لكن، أهم من ذلك، قصص الشعوذة والخرافات، وكأنها هي التي سيطرت على هذه الأجيال. وكانت تتكرر مع كل جيل، وكأنها قدر لا خلاص منه.
وتوجد في الرواية رموز وألوان: الذهبي لون سنوات الاستعمار الإسباني، والأصفر لون سنوات الاستغلال الأميركي، والأسود لون الخراب والدمار والموت.
وكما قالت صحيفة «نيويورك تايمز» في ذلك الوقت: «تكاد أحداث هذه الرواية تناقض العقلانية الأوروبية. وربما لهذا نال صاحبها جائزة نوبل».
* ماركيز الصحافي
قبل أن يتحول غارسيا ماركيز إلى كاتب روايات، كان صحافيًا. أحب الصحافة وهو طالب في جامعة كولومبيا، عندما صار يكتب في صحيفة «يونيفيرسال كارتاغينا (قرطاجنة)».
ربما إشارة إلى مستقبله، كان يكتب في المواضيع الأدبية. وقدم تلخيصات لكتب أميركية وبريطانية، مثل «غرفة خاصة بالمر وحده» للبريطانية فرجينيا وولف. وفيها: «يجب أن تملك المرأة مالاً وغرفة خاصة بها لتصير كاتبة روائية»، ورواية «الصخب والعنف»، للأميركي ويليام فولكنر. وفيها كلمات كتبها الكاتب البريطاني ويليام شكسبير، هي في اسم الرواية: «هذه قصها قصاها غبي، فيها كثير من الصوت والغصب، مما يدل على لا شيء».
خلال عمله الصحافي، تجول غارسيا ماركيز في دول في أميركا اللاتينية، وكتب عن ثقافاتها وعاداتها. ومثلما سيفعل لاحقا في رواياته، كتب عن الشعوذة، والخرافات، وأحس أنها تربط اللاتينيين، وتناقض «ثقافة الغزاة» (من أوروبا ومن أميركا).
وغطى أحداثًا مهمة في دول مجاورة: مثل الثورة الكوبية التي قادها فيدل كاسترو ضد حكومة فولجينيكو باتستا اليمينية حليفة شركات الموز والتبغ في كوبا (1955). ومثل الثورة الفنزويلية ضد حكومة الجنرال بيريز جيمينز، التي كانت حكمت فنزويلا لعشر سنوات (1958).
وقال مرة في مقابلة مع «نيويورك تايمز»: «أفكر أحيانًا، وأحس بأني حزين بسبب ظلم الاستعمار وأذنابه. لكن، أفكر أحيانًا، وأحس بأني سعيد لأني عشت في عصر ثورات الشعوب».
* قرية اراكاتاكا
في وثائق مكتبة جامعة تكساس مسودة كتاب لم يصدر، وهو يشبه انطباعات شخصية. وهناك ورقة كتب فيها أنه فضل ألا يكتب عن تفاصيل حياته (وأن يكتفي بالروايات، وبعضها اعتمد على حياته). وذكر أن سبب ذلك هو: «لأني ما كنت أعرف ماذا سيحدث لي غدا، إذا كتبت سيرة حياتي اليوم»، وأضاف: «قد يوجد بديلان: الأول: أعرف متى سأموت، وأكتب تفاصيل حياتي الخاصة. الثاني: يكتبها شخص آخر بعد وفاتي».
وهو يتساءل: «كيف أكتب قصة حياتي، ولا أعرف إذا كنتُ سأسرق بنكا، أو سأقتل شخصًا، أو سأغتصب امرأة؟ كيف ألخص حياتي وهي لم تنتهِ؟»، لكنه فعل ذلك في كتابه «عشت لأروي»، الذي هو سيرة حياته.
ومن الأوراق الموجودت، قصته مع القرية التي ولد فيها، قرية اراكاتاكا، التي ظلت محور حياته الخاصة، ومحور بعض رواياته.
وكتب: «أينما أذهب في دول أميركا اللاتينية، أحس بأنني في بلدي. لكن، تظل قرية اراكاتاكا هي بلدي الأصلي. لم أُتفّه، قط، القرية في ذهني. ولم استعلِ على أهلها»، وأضاف: «بعد أن عدت من السويد (حيث نال جائزة نوبل في الأدب)، عدت إلى اراكاتاكا. ووجدت كم هي الشقة واسعة بين حياتي وحياة القرويين فيها. وكان هذا مصدر إلهام لي في كثير من رواياتي».



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.