سيناء.. الحرب الخفية

نشاط إيراني.. وقلق مصري وبرود أميركي

مشهد من الدمار في سيناء بعد قيام المتطرفين باستهداف قوات من الجيش (صورة أرشيفية).
مشهد من الدمار في سيناء بعد قيام المتطرفين باستهداف قوات من الجيش (صورة أرشيفية).
TT

سيناء.. الحرب الخفية

مشهد من الدمار في سيناء بعد قيام المتطرفين باستهداف قوات من الجيش (صورة أرشيفية).
مشهد من الدمار في سيناء بعد قيام المتطرفين باستهداف قوات من الجيش (صورة أرشيفية).

يجلس الجندي محمود على نصف برميل مقلوب وفارغ. حرارة الشمس تصب لهيبها على رأسه. سيكون عليه، بعد أن ينتهي من تنظيف سلاحه الكلاشنيكوف وحشوه بالرصاص، ارتداء قناع القماش الأسود لكي يغطي وجهه. يتحول الحر والعرق تحت القناع إلى عذاب. مع ذلك عليه أن يكون متيقظًا. لا أحد يعرف من أين يمكن أن يبدأ الهجوم على الكمين. في الجوار توجد صفوف من أكياس الرمال المرصوصة فوق بعضها. ومظلة من الكتّان تحتها بقايا طعام وزجاجات مياه ضربتها الشمس بسخونتها.
من هنا يمكن أن ترى الأفق الشاسع لصحراء شبه جزيرة سيناء التي يحارب فيها الجيش المصري جماعات من المتطرفين منذ أكثر من ثلاثة أعوام، دون أن يكون هناك وقت محدد للإعلان عن انتهاء العمليات. أخيرًا وصلت لأيدي المتطرفين أسلحة تبدو إيرانية الصنع. فتّاكة، ولديها قدرة على القنص من مسافة 1500 متر.
فيما عدا مساعدات من بعض دول عربية صديقة، يقع عبء الحرب على الإرهاب في سيناء على عاتق المصريين وحدهم في ظل ظروف اقتصادية صعبة. يظهر أن هناك تراجعا في اهتمام الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في مد يد العون للقاهرة، منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم البلاد. هذا رغم أن باراك بارفي، الباحث في «مؤسسة أميركا الجديدة» الأميركية، يقول لـ«الشرق الأوسط» من واشنطن، إن الولايات المتحدة قد تقدم للمصريين «معلومات استخباراتية»، إلا أنه يضيف أن الرئيس باراك أوباما «ليس مهتمًا كثيرًا بأي شيء وهو يقترب من نهاية ولايته».
يوجد مركز لقوات حفظ السلام الدولية في سيناء. هي هنا، في المنطقة «ج» المنزوعة السلاح، منذ توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. لكن كل شيء انقلب رأسًا على عقب. فقد اضطر الجيش المصري للدخول بآلياته الثقيلة إلى قطاع «ج» بعد أن امتلأ القطاع بإرهابيين محليين وأجانب منذ ثورات الربيع العربي. الشيء الوحيد الباقي على حاله في سيناء حالة الفقر، أُضيف إليها ارتباك وخوف من الأيام المقبلة.
جوانب الشارع التجاري أصبحت مغطاة بالتراب. هنا منطقة غرناطة التي كانت يومًا تعجّ بالمتسوقين من زوار مدينة العريش، عاصمة محافظة شمال سيناء. كانت يفد إليها مصريون وعرب وأجانب للسياحة. تحولت اليوم لمنطقة خطرة وملتهبة. يوجد في منطقة غرناطة استراحة الرئاسة، ومنها يمكن العبور إلى رفح، آخر نقطة على حدود سيناء مع قطاع غزة. الشارع مغلق من الجانب الآخر بأكوام التراب وكتل الخرسانة. وبعد هذه الحواجز يقع مبنى المحافظة والكتيبة 101 التي تعرضت لهجوم دام بمفخخات المتطرفين قبل أشهر.
في شارع البحر. بالتحديد في منطقة الخلفاء الراشدين وسط العريش، سقط أيضًا العديد من القتلى من الجنود النظاميين ومن المواطنين العاديين. ويقول تاجر أقمشة، يدعى جمال، إنه سدّ نوافذ دكانه بالإسمنت حتى يتقي الرصاص الطائش أثناء المطاردات التي تقع بين حين وآخر بين السلطات والمتشددين. وفعل ذلك أيضًا في بيته الذي يقع في الجوار؛ غطّى شرفته المطلة على الشارع بستارة من الخرسانة المسلحة.
تراجعت حركة البيع والشراء ليس للأسباب الأمنية فقط، ولكن تروس الاقتصاد في شبه جزيرة سيناء أصبحت أبطأ من أي وقت مضى، بما في ذلك أثناء حقبة احتلالها من إسرائيل عام 1967. ويقول جار التاجر جمال، حين زاره بصحبة زوجته وأطفاله الخمسة بينهم طفلة اسمها صفاء، إنه لم يعد قادرًا على الوصول إلى مزرعته في جنوب المدينة بسبب «عدم الأمان.. من الممكن أن أفقد حياتي برصاصة». ثم لف ذراعه حول كتفي ابنته التي تدرس في الصف الخامس الابتدائي. يفكر في ترك هذه الساحة والانتقال للعيش في بلد آخر، لكنه لا يملك مدخرات. ثم ابتسم ساخرًا: «لا أستطيع أن أنقل مزرعتي معي».
قضبان حديدية تغلق ميناء العريش البحري. تعول السلطات على هذا الميناء في عملية التنمية والاستثمار بعد أن تنتهي من الحرب على الإرهاب. في السابق كان متنفسًا تجاريًا مهمًا للمدينة. وفي الجانب الآخر تقف سيارات الأجرة السيناوية المشهورة بنقل الركاب بين القاهرة والعريش، لتدلل على ما أصاب المحافظة من ركود وفقدان للصلة مع باقي محافظات الجمهورية. وهناك.. حيث الساحة المعروفة بـ«محطة القطار القديم»، يعبر المارة في توجس. تشهد مناطق عدة في شمال شرقي سيناء عمليات قنص وتفجير كل أسبوع تقريبًا. وفي شارع البحر، كما يقول جمال وجاره وهم جلوس في غرفة الضيافة.
يقول صاحب البيت في أسى: «كان آخر انفجار الأسبوع الماضي.. شعرت بأن الأرض اهتزت. واشتعلت النيران. كان هناك قتلى لا أعرف عددهم.. ثلاثة أو أربعة». يؤدي شارع البحر الذي أصبح شبه مهجور إلى مدينتي الشيخ زويد ورفح. يقول مسؤول محلي إن السلطات تدرس تركيب كاميرات مراقبة فيه منذ أشهر، لكن لم يتم حسم الأمر حتى الآن. ويسود اعتقاد بين أهل العريش أنه يوجد تنافس بين بعض المتنفذين من أجل الحصول على صفقة الكاميرات، لكن هذه الصفقة لم تتم حتى اليوم. وتعتمد مراقبة الشارع على الطرق البدائية.
أما الضباط الأجانب الكبار الذين كانوا يأتون من دول غربية كل عدة أشهر، لزيارة قوات حفظ السلام على الحدود، ولمساعدة السلطات المحلية في بسط الأمن هنا، فقد اختفوا تقريبًا منذ ثورة 2011. تتكون قوات حفظ السلام من مئات الجنود، نصفهم تقريبًا أميركيون. تناول أوباما قضية «داعش» في العراق وسوريا وليبيا، بيد أنه نادرًا ما يشير إلى سيناء. يقول اللواء نصر سالم، رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق للقوات المسلحة المصرية: «لا نريد من أوباما شيئًا. نحن كفيلون بأعدائنا».
إلا أنه توجد مخاوف من أن تطول مدة الحرب في سيناء. لا يبدو أنها بتلك السهولة التي يتخيلها البعض. تفاصيل صغيرة على الأرض لا تتعلق بالإرهاب فقط، بل بالتربح، وهي مخيفة أيضًا. ولد الجندي محمود في بلدة تقع بالقرب من مدينة الزقازيق داخل الدلتا التي تراها على الخريطة ملونة بلون الزراعات الأخضر. حصل على شهادة إنهاء الدراسة الثانوية، لكنه لم يكمل تعليمه الجامعي بسبب العوز. يعمل والده مزارعًا بالأجر، ويجني في اليوم الواحد من خمسين إلى مائة جنيه، أو ما يساوي في المتوسط نحو سبعة دولارات. مبلغ يكفي بالكاد لسد احتياجات أسرته المكونة من سبعة أفراد، خصوصًا بعد الارتفاع الكبير في أسعار السلع جراء نقص العملات الأجنبية.
يقول محمود الذي يتذكر أجواء الحقل، وهو يلقّم الطلقات في خزنة سلاحه في هذه الصحراء: «الحمد لله. أبي ما زال قادرًا على العمل حتى أنهي خدمتي العسكرية.. ساعدت والدي، إلى أن جاء أمر التجنيد الإجباري. الآن أنا هنا، للدفاع عن سيناء». وقُتل اثنان من زملاء محمود أثناء ما يسمونه «طلعة». قُتِلا لأنهما كانا في السيارة الأمامية، أما هو فكان في السيارة الثانية.
كانت «الطلعة» تتكون من ثلاث سيارات، تحركت بعد معلومات عن اقتراب مجموعة مسلحة تضم خمسة يُشتبه في أنهم من المتطرفين. عبرت إلى الطريق الدائري جنوب العريش. كانت السيارة التي يستقلها محمود مزودة بجهاز حديث له هوائي طويل، يهتز مع حركة السيارة فوق طريق تملأه الحفر.. جهاز له القدرة على التشويش على اتصالات الهواتف الجوالة. هذا يعني أن «المتطرفين» إذا ما كانوا قد زرعوا قنبلة على جانب الطريق، فإنهم لن يتمكنوا من تفجيرها عن بعد بواسطة الهاتف الجوال، كما اعتادوا في الشهور الماضية. لكن، للأسف، التفجير وقع. طارت دعامات الصفيح والحديد التي كانت مثبتة على جوانب السيارة لحمايتها. طارت معها أشلاء الجثث. جنديان وضابط. يقول محمود: «حين تفحصنا الكيفية التي تم بها تفجير القنبلة عن بعد اكتشفنا أن المتطرفين استبدلوا بعملية ربط القنبلة بالهاتف الجوال، طريقة أخرى بدائية، وهي ربط القنبلة بسلك طويل.. سلك يمتد لنحو ثلاثمائة متر، وينتهي في حفرة كان يختبئ فيها أحد المتطرفين، وحين مرت (الطلعة) بمكان القنبلة المزروعة على جانب الطريق، فَجّرها، وركب دراجته النارية واختفى في السراب».
على الجانب الآخر، يستلهم متطرفو سيناء، الذين أعلنوا الولاء لتنظيم داعش، الطريقة التي يعمل بها تجار مخدرات ومهربون ممن ينشطون عادة في المناطق الحدودية. من هذه الطرق «مراقبة من يراقبك» و«بيع معلومات زائفة لمن يجمع عنك المعلومات». مصر دولة مركزية. نادرًا ما تجد مسؤولاً رسميًا لديه القدرة على التعامل مع سكان المناطق الحدودية ومشكلاتهم. تبذل الأجهزة المعنية جهودًا جبارة لفك طلاسم التركيبة القبلية وامتداداتها إلى داخل الحدود الأخرى، وما يمكن أن تجده من سلبيات ومن إيجابيات في هذا العالم المثير للشكوك لبعض المسؤولين القابعين في المدن الكبرى مثل القاهرة والجيزة.
تنعكس الطبيعة الجغرافية لكل منطقة حدودية على التركيبة الاجتماعية. في سيناء يعيش أكثر من 8 في المائة من السكان على الشريط الساحلي الممتد على البحر المتوسط. وفي الضفة الجنوبية، يبدو الأمر مختلفًا.. بعض المزارع التي يعتمد عليها السكان، ثم صحراء وأودية صخرية مثل وادي العريش، إضافة إلى جبال وعرة يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر نحو ثمانمائة متر، مثل جبل المغارة، وجبل الحلال الذي دارت فيه معارك طاحنة مع المتطرفين لعدة أشهر. يبدو اليوم أن التكتيكات تغيرت مع طول فترة الحرب.
يقول أحد الضباط ممن يشرفون على إدارة الحرب جنوب مدينتي العريش والشيخ زويد، إن المتطرفين يتخلَّون عن فكرة التجمع في أماكن يمكن قصفها بالطيران أو إبادتها بالكامل بالصواريخ والمدفعية. اختاروا بدلاً من ذلك الاتجاه شمالاً، والاختباء وسط تجمعات قبلية وعائلية يعاني أبناؤها من البطالة والتهميش. وحيث توجد الأموال الوفيرة التي تصل لهؤلاء المتطرفين من الخارج، فإن باقي المهمة يصبح سهلاً، بما في ذلك شراء الولاءات وبث معلومات مغلوطة عن التحركات، وكذا الحصول على كمية جديدة من الأسلحة الحديثة، كان آخرها نوعًا يُصنع في إيران.
كيف وصلت مواسير بنادق القنص الطويلة إلى هنا؟ لقد أقر تنظيم داعش في سيناء بوجود مثل هذه الأسلحة في آخر شريط فيديو بثه على الإنترنت، قبل أسبوع، ويحمل عنوان «لهيب الصحراء». هذا نوع أسلحة معروف باسم «إيه إم 50 سيياد»، ومخصص للقتل عن بعد، وتدمير المعدات على مسافة 1500 متر. يقول خبير عسكري مصري في الأسلحة، إن الطراز الإيراني المشار إليه، ظهر على نطاق واسع بين يدي مقاتلي الحشد الشعبي (موالون لإيران) في العراق، وظهر أيضًا لدى الحوثيين الممولين من طهران.
يشير إلى أن النسخة الأصلية لهذا السلاح الذي يبلغ وزنه نحو 12 كيلوغرامًا، ظهرت لأول مرة في النمسا قبل سنوات، وقام الإيرانيون بتقليدها بعد ذلك في مصانع الجيش، ونشرها في صفوف القوات المسلحة الإيرانية، خصوصًا البرية، إضافة إلى ميليشيات الحرس الثوري، وأنتجوا منها أكثر من طراز.. العادي، والمزود بمنظار مقرب، وأيضًا نوعًا مزودًا بجهاز للرؤية الليلية. يبلغ طوله مترًا ونصف المتر. وعيار طلقته 12.7 ملليمتر. تقع مصر، التي يبلغ إجمالي مساحتها نحو مليون كيلومتر مربع، بين ثلاث مناطق تبدو متوترة وتعاني من مشكلات. ليبيا من الغرب، والسودان من الجنوب، ثم غزة وإسرائيل من الشمال الشرقي. باقي الحدود هي البحر الأحمر والبحر المتوسط. يجيب العميد عادل العمدة، المستشار في أكاديمية ناصر العسكرية العليا في مصر، بشأن وصول سلاح إيراني لمتطرفي سيناء، قائلا إنه، بكل بساطة «سلاح وجد طريقه إلى ليبيا، من خلال جماعات متطرفة في السودان، ومن ليبيا يتم تهريبه إلى سيناء، سواء عن طريق البر أو عن طريق السواحل. هذه هي السلسلة».
أحد المسؤولين المحليين في جنوب البلاد يقول بشأن ما كان يُشاع عن خط سير للسلاح، من مهربين في منطقة بور سودان على البحر الأحمر، إلى سيناء وغزة، عبر دروب الجبال الوعرة، إن هذا الخط كان يستخدمه مهربو المخدرات، ثم حاول مهربو الأسلحة والهجرة غير الشرعية، استغلاله، لكن دولاً معنية في المنطقة، خصوصًا مصر وإسرائيل، وضعته تحت المراقبة.. «حدث هذا قبل 2011، لكن بعد الفوضى الأمنية التي أعقبت الثورة في مصر وليبيا، وجد المهربون طريقًا آخر لنقل السلاح إلى سيناء عن طريق الدخول إلى الأراضي الليبية، ومن ثم التسلل بها إلى مصر». العميد العمدة يوضح قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «نعم.. السلاح لا يأتي من بور سودان إلى سيناء كما كان يعتقد، ولكنه يأتي من ناحية الغرب، بعد نقله من سواحل السودان إلى ليبيا. هناك إرهابيون في السودان وليبيا يتعاونون في هذا المجال».
تزخر سيناء بمختلف أنواع الأسلحة مع متشددين محللين وأجانب. مدافع من عيار 14.5 ملليمتر، وعيار 23 ملليمترًا.. هناك صواريخ «غراد» وقذائف «آر بي جي» التي جرى نهبها من مخازن القذافي، بالإضافة إلى حقائب ناسفة كان قد دخل منها إلى ليبيا نحو 7 آلاف حقيبة بداية من عام 2012 استخدمها إرهابيو ليبيا لتفخيخ سيارات ضباط الجيش وجنوده خلال سنوات ما بعد القذافي. وأخيرًا سلاح «إيه إم 50 سيياد».
وعن مصلحة إيران في تغذية بؤرة التوتر في سيناء، يوضح مستشار أكاديمية ناصر العسكرية العليا: «لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد من أن نعود مرة أخرى لنقول: من هي إيران؟ نحن نسميها هنا الدجاجة التي تبيض ذهبًا للولايات المتحدة الأميركية. بمعني أنها تقوم بكل ما من شأنه أن يجعل المنطقة العربية دائما تعاني من الصراعات المتأججة». معروف أن العلاقات الرسمية مقطوعة بين مصر وإيران منذ عام 1979، بسبب خلافات تتعلق بالتوجهات الإقليمية بالمنطقة. يبدو من طريقة حديث العميد العمدة أن هذه الخلافات ما زالت متجذرة. يقول إن إيران (التي وصفت إسقاط مبارك بأنه ثورة إسلامية) غير مرتاحة، كما يظهر في الفترة الأخيرة، للتطورات الحالية في القاهرة.. «هي ترى أن مصر تحاول النهوض، وتقوم بإنجازات ومشروعات كبرى، وتبذل مساعي جادة لبسط الاستقرار والأمن واستئصال الإرهابيين، وتمكنت من استعادة مواقعها على الصعيدين الإقليمي والدولي. هذا يحدث بعد السنة التي تولى فيها الرئيس الأسبق محمد مرسي السلطة ومحاولته فتح أبواب القاهرة للحرس الثوري الإيراني، واستقباله للرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد».
وينفي مصدر مسؤول في بعثة رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، في رده على أسئلة «الشرق الأوسط» علمه بموضوع دخول أسلحة إيرانية الصنع إلى سيناء، دون مزيد من تفاصيل.
وأيا ما كان الأمر، فإن الإرهاب في سيناء موجود منذ حقبة مبارك. جرى تنفيذ عمليات انتحارية في منتجعات سياحية ومواقع حكومية في 2005 و2006 لكن الأمر كان تحت السيطرة حتى 2011. بعدها زاد نشاط المتطرفين بشكل واضح واشتعل أكثر عقب الثورة التي قام بها المصريون ضد نظام حكم «الإخوان» في 2013. هذه الثورة أغضبت عدة أطراف دولية، على رأسها إدارة أوباما. كان يسود اعتقاد بأن مواقف دول كبرى مما جرى في القاهرة يمكن أن تجهض نظام الحكم الجديد، إلا أن دولاً عربية بذلت جهودًا دبلوماسية ومادية لمساعدة الشعب المصري على حماية خياراته الجديدة.
تمكّنت مصر خلال عامين من حكم السيسي من العودة سريعًا رغم استمرار المشكلات الاقتصادية والأمنية. فقد شغلت أخيرًا عضوية مجلس الأمن، واستضافت العديد من المؤتمرات الإقليمية، وتسعى مع السعودية لتحقيق تعاون عربي وإسلامي وتشكيل قوة معتبرة في مواجهة الإرهاب. يقول العمدة: «لهذا تعمل إيران على تصدير السلاح للإرهابيين في سيناء والمنطقة العربية».
المساحة الجغرافية التي ينشط فيها المتطرفون في سيناء، محدودة للغاية، مقارنة بمساحة مصر أو حتى مساحة سيناء نفسها البالغة 61 ألف كيلومتر مربع، وفقا لما قاله لـ«الشرق الأوسط» اللواء سالم. يضيف أن منطقة نشاط الإرهابيين لا تزيد عن 1 على 61 من مساحة شبه جزيرة سيناء. تضم شبه الجزيرة محافظتي شمال سيناء وجنوب سيناء.. وهذه الأخيرة تقع فيها منتجعات سياحية أصبحت مهجورة، مثل قطاع السياحة عموما، الذي فقد مليارات الدولارات، بسبب قضية الإرهاب.
بعد جهود مضنية من السلطات وفقدان أرواح مئات الجنود، لم يعد لدى متطرفي سيناء ذلك الانتشار والتمركز، وفي المقابل زاد الزخم لدى المسؤولين عن خطط التنمية هنا. يصور اللواء سالم بؤرة التوتر في سيناء كالتالي: «لو عندي عمارة فيها 61 شقة، منها 60 شقة هادئة، وواحدة لا، إذن فهذه ليست قضية. أريد أن أقول إن عمليات التعمير في سيناء تعمل في كل مكان فيها، بما في ذلك المنطقة التي يوجد فيها الإرهابيون».
رغم ذلك فإن البعض يرى أن الأخبار التي تظهر بين يوم وآخر عن سقوط قتلى من قوات الجيش والشرطة ومن رجال القضاء ومن شيوخ القبائل وغيرهم، ما زالت تتسبب في تعطيل التنمية في سيناء وضرب سمعة البلاد في السياحة والاستثمار. ما زالت الآثار الكارثية على المنتجعات السياحية مستمرة منذ إعلان «داعش سيناء» عن مسؤوليته عن تفجير طائرة السياح الروس فوق سيناء، أثناء عودتها من منتجع شرم الشيخ إلى روسيا العام الماضي.
لا يفرق العميد العمدة بين نشاط الإرهاب في سيناء ونشاط المتمردين في اليمن أو دول مثل العراق وسوريا. قد يقول قائل إن طهران تدعم الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق ونظام بشار الأسد في سوريا و«حزب الله» اللبناني، انطلاقًا من مزاعمها عن الوقوف وراء الشيعة في كل مكان في العالم.. فما علاقتها بالجماعات السنية المتشددة، مثل تلك الموجودة في سيناء، وعلى رأسها تنظيم داعش الذي خرج من رحم تنظيم القاعدة؟!
يجيب العمدة مذكِّرا بالعلاقات القوية بين نظام طهران والجماعات السنية المتطرفة، ليس هذه الأيام فقط، ولكن منذ قيام المتشددين المصريين بقتل الرئيس الأسبق أنور السادات. يقول: «إيران لها علاقات قديمة مع المتطرفين. استضافت زعماء تنظيم القاعدة الذين فروا من أفغانستان أثناء الحرب في 2001. كما أنها، قبل ذلك، استقبلت قتلة السادات عام 1981، وأشهرهم خالد الإسلامبولي.. وسمت شارعًا في طهران باسمه». اليوم عادت الأسئلة مجددًا عن الدور الإيراني، بعد إعلان «داعش سيناء» عن أسلحته من طراز «إيه إم 50 سيياد».
يقول اللواء سالم مستجمعًا سنوات خبرته في عمله رئيسًا لجهاز الاستطلاع بالجيش: «الحرب على الإرهاب في سيناء مختلفة. كثير من المتطرفين بدأوا يجنحون للاختباء وسط بيوت الناس، والجيش يعمل بحرفية لتجنب الخسائر في صفوف الأبرياء. ما نقوم به يشبه إخراج الشعرة من العجين، وهذا يتطلب وقتًا»، مشيرًا إلى أنه حتى لو وصل سلاح «إيه إم 50 سيياد» إلى سيناء فهو لا يزيد عن قطع محدودة. ثم إن الأمر برمته ربما لا يزيد عن صور ظهرت في الفيديو كدعاية من الإرهابيين لأنفسهم، ليس أكثر».
وعن تقييمه للحرب في سيناء، يقول إن الوضع اختلف عما كان عليه من قبل.. ويوضح: «بتضادها تتمايز الأشياء.. انظر كيف كان الوضع منذ سنة أو سنتين، وكيف كانت قدرات التنظيم. كان يهاجم بمقاتلين معهم أسلحة، أما اليوم فأقصى حلمه أن يقوم بعملية تفجير أو قنص عن بُعد.. ليس لديه العدد الذي كان من قبل، وفي المقابل ضربات السلطات ضدهم مستمرة، ولا تتوقف، وبالتالي فإن التنظيم تعرض لخسائر كبيرة.. ومن كان يفكر في الانضمام إليه، بدأ في الهروب منه». بغض النظر عن التشديد الأمني فإن الانتماء للدولة المصرية وإبداء الوطنية قضية أساسية لدى أهل سيناء. لا يحمل الدكتور حسام رفاعي، نائب سيناء في البرلمان المصري، توجهًا سياسيًا محددًا، مثل غالبية القيادات الشعبية هنا. يكتفي أحدهم بالقول إن «اتجاهي السياسي هو مصر». يبدو رفاعي من خلال نشاطه البرلماني، ومن حديثه لـ«الشرق الأوسط» أيضًا، مائلاً إلى «الاتجاه الليبرالي نوعًا ما.. ومع ذلك أنا مصري، قبل أي اتجاه سياسي». وعلى كل حال تبدو الحياة الحزبية المصرية بعد تجربة حكم «الإخوان»، والثورة عليه، أضعف من أي وقت مضى. وهذا أثر بطريقة أو بأخرى على الوضع في سيناء.
بعد سقوط مبارك ظهرت عشرات الأحزاب، فوق الأحزاب التقليدية، من اليسار ومن اليمين وما بينهما، إضافة إلى أحزاب ذات توجه ديني مثل حزب جماعة الإخوان الذي يتهمه خصومه بأنه كان السبب في عودة مئات المتطرفين من الخارج، والإفراج عن عشرات المتشددين من المحكوم عليهم في السجون من عهد مبارك، بينهم زعماء خطرون لجماعات إرهابية في سيناء.
حين ضاق المصريون بحكم مرسي المنتمي لـ«الإخوان»، دخلت الأحزاب التي تعارضه، وتمثل غالبية الأحزاب المدنية، تحت مظلة جبهة عرفت باسم «جبهة الإنقاذ» بقيادة الدكتور محمد البرادعي، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن حركة الجبهة كانت أبطأ من حركة الشارع، كما أنها لم تكن تدعو لإسقاط مرسي، على عكس رغبة ملايين المصريين ممن لم يجدوا ملجأ لهم، وهم يتظاهرون في الشوارع والميادين، إلا في الجيش متمثلاً في وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، حيث جرى تفويضه بعد ذلك لاتخاذ ما يراه في سبيل محاربة الإرهاب في سيناء وفي عموم البلاد.
في خضم ثورة 2013، والعامين التاليين لها، كان الجميع، من القواعد الشعبية حتى الحكومة، يضعون قضيتي «الأمن» و«الاقتصاد» على رأس الأوليات. بعد كل هذا الوقت يبدو أن تحقيق التقدم في أي ملف يحتاج إلى استشارة الآخرين فيما ينبغي عمله. يوجد برلمان، لكن، كما يقول الدكتور رفاعي، لم يستجب لأي طلب من الطلبات التي تقدم بها لحل المشكلة في سيناء، سواء أمنيًا أو اقتصاديًا. كما أن عدم إجراء انتخابات للمجالس المحلية جعل الإدارة المحلية تعمل بنصف عين، في ظروف صعبة.
على هذا الواقع اتخذت السلطات التنفيذية قرارات يبدو أنها أصابت قطاعًا من السكان بأضرار. عمليات انتقام وانتقام مضاد. مزارعون وعمال فقدوا أعمالهم.. عائلات لا تستطيع تبادل الزيارات إلا بشق الأنفس. شبان ممن فقدوا بيوتهم أو سقط بعض أقاربهم ضحايا في الحرب على الإرهاب، أو تعرضوا للقمع بسبب انتماءاتهم القبلية والعشائرية العابرة للحدود، لجأوا إلى جماعات إرهابية، رغبة في الانتقام لذويهم.
كما تؤدي تصرفات فردية ممقوتة، مثل الابتزاز والعسف والتربح، يقوم بها ضباط صغار أو معاونوهم من المدنيين في سيناء، إلى انضمام بعض المضطهدين إلى جناح المتطرفين. بالنسبة لمن لديهم مقدرة مالية كبيرة فقد فضلوا الرحيل عن هنا والسكن في المدن الواقعة على قناة السويس أو في القاهرة نفسها.
يوضح الدكتور رفاعي قائلا إنه رغم الجهود التي تبذلها الدولة، هناك تجاوزات يقوم بها بعض المسؤولين الصغار، ومن الصعب أن تجد من يفهم طبيعة سكان الحدود الذين لديهم امتدادات عائلية وقبلية على الجانب الآخر من الحدود.
ويتابع: «هناك من يفهم الموضوع خطأ، معتقدين أن أبناء المناطق الحدودية لهم حاجة بعيدة عن مصر. نحن نقول لهم لا.. ولا تنس أن الناس في سيناء وقفوا مع مصر وقت الاحتلال الإسرائيلي».
المجلس المحلي لسيناء، وهو يشبه البرلمان المصغر الذي يراقب السلطة التنفيذية في المحافظة، كان يتكون، قبل انتهاء عمله بعد ثورة 2011، كما يقول الدكتور رفاعي، من 140 عضوًا. كان من بينهم سياسيون محترفون وشيوخ قبائل وشخصيات لديها رؤية مغايرة ولديها أساليب مختلفة لمعالجة الاحتقان وبؤر التوتر. يضيف: «بالتأكيد، كانوا يساعدون نائب البرلمان عن المحافظة، ويساعدون المحافظة في اتخاذ القرار المناسب».
أحمد الزملوط، رئيس مجلس أمناء مؤسسة سيناء للتنمية الاقتصادية، يعد من شباب مدينة العريش ممن كانوا يطمحون في تحسين أحوال الناس من خلال العمل السياسي. هو قيادي في حزب التجمع ذي التوجهات الاشتراكية. لكن بعد الثورة ضد مبارك والثورة ضد مرسي، شاهد على الطبيعة تعقيدات الوضع في سيناء. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد مجلس محلي.. الحرب على الإرهاب عطلت العمل السياسي، لدينا أفكار، ونرى أن الحل في التنمية». يقف على هذه الأرضية، مع الزملوط، كثيرون من وجهاء المجتمع في سيناء. لديهم خطط للقضاء على التطرف. يقوم بعضهم بالطرق على أبوب المسؤولين من أجل تقديم المساعدة. لكن من النادر أن تكون هناك استجابة ذات معنى، إلا إذا جاءت التعليمات من القيادات العليا في القاهرة. في بعض الأحيان يجهرون بآرائهم علانية في شوارع سيناء، متحدين الإرهاب.
في خضم هذا الصراع، بدأ المتطرفون يستهدفون هذا النوع من الطبقة الاجتماعية التي يُفترض أن لها القدرة على القيادة. جرت أعمال تصفية رهيبة. على ذلك، كما يشير الزملوط، بدأت شخصيات كثيرة في الانتقال للسكن خارج سيناء، من بينهم رجال أعمال وسياسيون وشعراء ومثقفون. عدد منهم اشتروا عقارات في العاصمة، مما يعطي انطباعًا بأن الرحيل سيطول لسنوات.
ومع ذلك، كما يفيد مصدر أمني في العريش، يبدو أن الخطر ليس في التعاون مع «داعش» من جانب بعض العناصر اليائسة فقط، بل يوجد خطر يتلخص في بيع معلومات قاتلة لجأ إليها، على هامش الحرب المستعرة، عدد من صغار العاملين في الأمن في سيناء بغرض التربح وجني الأموال. يضيف: «حتى لو كان عدد المتورطين صغيرًا، فردًا أو فردين، فإن آثاره كارثية، ليس فيما يتعلق بالتسبب في سقوط ضحايا من الجيش والشرطة ورجال الدولة فحسب، ولكن في تخريب ثقة المواطن في عناصر السلطة التنفيذية».
من جانبه، يشير مسؤول أمني آخر في سيناء إلى أن السلطات ألقت القبض على خمسة من عناصر الأمن في العريش، بعد أن اشتبهت في قيامهم بالتعاون مع «داعش» في سيناء.. «كانت هذه العناصر قد جاءت إلى سيناء في مأموريات أمنية من محافظات مصرية في الدلتا.. اشتبهت السلطات في أنهم يقومون بإبلاغ خلايا داعشية بتحركات قوات الأمن بمقابل مادي يحصلون عليه منهم.. هذا تسبب في حالة من الارتباك لبعض الوقت في سيناء».
يوضح قيادي محلي كان عضوًا في حزب مبارك، إن واقعة بيع المعلومات للمتطرفين خلّفت تأثيرًا سلبيًا.. «مثلاً الأجهزة الأمنية المختصة لم تعد تستجيب للاستغاثات التي ترد عبر الهاتف وتتعلق بنزاعات بين السكان أو غيرها من الجرائم العادية، خوفًا من أن يكون وراءها كمين لاستدراج الشرطة. الأمر أصبح يحتاج منهم لمزيد من التحريات قبل التحرك هنا وهناك، لكن المردود سيئ بطبيعة الحال». المشكلة اليوم (كما يقول الرئيس السابق لجهاز استطلاع الجيش المصري) تكمن في لجوء متطرفين في سيناء للاختباء في بيت من البيوت، أو وسط الناس، ولا أحد يستطيع أن يبلغ السلطات عنه، وإلا قاموا بتصفيته. هذا يعطيهم بعض الاستمرارية، ويؤجل مسألة أن نقوم بالقضاء عليهم مرة واحدة.. «لأنني لو ضغطت أكثر من ذلك، فيمكن أن يكون هناك تأثير على المدنيين الذين لا ذنب لهم. لا يمكن، لكي تضرب الإرهابي، أن تضرب البيت كله الذي يختبئ فيه وسط الأبرياء. أنا أنتظر إلى أن أخرجه من هذا الوسط، مثل الشعرة من العجين».
قامت السلطات بإخلاء مئات المنازل على الشريط الحدودي الملاصق لغزة، وهدم معظم الأنفاق التي كانت تربط سيناء بالقطاع، وهي أنفاق كان يتسلل منها المتطرفون والأسلحة والسلع المهربة. كانت تمثل تجارة بملايين الدولارات. يبدو أن توجس الناس يتزايد رغم الانتصارات على المتطرفين، التي أعلنت عنها السلطات في بيانات رسمية عديدة.
مع ذلك، يقول أحد رجال الأعمال في العريش، ممن يستعد للاستقرار في القاهرة، إن حالة الحرب خلقت طبقة مستفيدة من بين منخرطين بطريقة ما في العمل على مكافحة الإرهاب. بعضهم يتربح.. حتى من بين «البدو المقنعين»، حيث أساءت بعض تصرفاتهم إلى عمل القوات النظامية، مثل احتجاز أبناء عائلات ثرية دون جريرة وطلب أموال من ذويهم، تتراوح بين ألفي دولار وخمسة آلاف دولار، بحجة التوسط لإطلاق سراحهم، ويجري ذلك دون علم السلطات.
يعتقد أحد كبار شيوخ قبائل سيناء أن كل شيء تحت السيطرة الأمنية لكن «لا يوجد حسم.. يبدو أنه لا توجد رغبة في الحسم». وعن تفسيره، يقول إن هناك العديد من الأسباب، منها ما يتعلق بأطماع بعض الأفراد، خصوصًا من القيادات الوسطى ممن وجدوا في المحافظة ميراثًا يمكن الاستفادة منه في تحقيق ثروات مالية كبيرة في وقت قياسي. ويضيف أن البعض بدأ في استغلال الأنفاق مع غزة والتربح منها رغم التشديد الأمني. بذلت السلطات مجهودًا جبارًا لإغلاق نحو 95 في المائة من هذه الأنفاق، لكن هناك نحو 5 في المائة ما زالت تعمل، وهناك من يتربح منها، و«حتى الآن، يجري من خلالها تهريب دراجات نارية وسجائر وغيرها من السلع.. آخرها كمية كبيرة من طيور الزينة. نحو 270 طائرًا ملونًا كانت مطلوبة لأحد قيادات غزة. تم تجميع هذه الطيور في العريش بسعر الطائر الواحد 50 جنيها وبيعها لمندوب عبر النفق بسعر 300 جنيه للطائر الواحد بإجمالي 81 ألف جنيه (نحو 10 آلاف دولار)».
«كل مجتمع فيه الصالح والطالح.. هناك بعض رجال الأمن بالتأكيد شاركوا في مرحلة معينة واستفادوا». يقول الدكتور رفاعي، ويضيف: «يوجد السيئ في كل مجتمع، وهناك المستفيد من هذا الوضع.. هناك من يريد للوضع أن يستمر حتى تستمر الفائدة لهم. نحن لا ننكر أن هناك البعض من سيناء، وهناك البعض من رجال الأمن، وهناك بعض الفاسدين الآخرين الذين تربحوا، وأعتقد أنه من مصلحتهم عدم انتهاء كل هذه الأحداث، حتى لا تنتهي الفوائد التي يجنونها لأنفسهم».
وعقد الرئيس السيسي اجتماعات مع قيادات قبلية وبرلمانية من أبناء سيناء، لبحث واقع المحافظة واحتياجاتها، كما سبق للرئيس زيارة سيناء وأوفد عددًا من مستشاريه إليها، لكن الدكتور رفاعي، الذي قدم من خلال نيابته في البرلمان مقترحات لحلحلة الوضع في سيناء ولم تلقَ اهتمامًا يُذكر، يقول إن سبب مشكلة سيناء هم «الصغار لا الكبار».
ويضيف: «نحن (القيادات الشعبية في سيناء) حين نجلس مع المسؤولين الكبار، يكون تفهمهم واضحًا للقضية وللمشكلات، لكن للأسف الشديد، الذي يتعامل مع الناس على الأرض، هم الصغار وليس الكبار. هذا من الأسباب الرئيسية في استمرار وضع سيناء على ما هو عليه».
ويقول أيضًا: «منذ دخولنا البرلمان قبل سنة، تقدمنا باقتراح لتشكيل لجنة نوعية لتنمية سيناء، لكن للأسف الشديد لم يؤخذ بهذا الاقتراح. وطالبت بتشكيل لجنة لزيارة شمال سيناء وطرح المشكلات الموجودة على الأرض للبحث والحل، وتم تأجيل الزيارة.. حددنا جلسة استماع برلمانية حول سيناء، لكن تم تأجيلها، وطالبت بتعديل بعض الإجراءات الأمنية المتخذة التي تضيق على حياة المواطنين». وبعد قليل من الصمت يقول ممنيًا النفس: «كانت هناك وعود. وإن شاء الله سيتم إصلاح هذه الأمور.. الموضوع الأمني هو المسيطر على الوضع».
وتوجهت «الشرق الأوسط» إلى اللواء كمال عامر، رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي والتعبئة القومية في البرلمان المصري، الذي يؤكد في البداية على أن «سيناء نطاق أمن قومي لمصر. ونطاق تأمين مهم، وبالطبع هي جزء رئيسي من مهمة اللجنة». وتحدث عن الأعباء الكثيرة التي تقوم بها لجنته في خضم عمل البرلمان لسن التشريعات (وفقًا للدستور الجديد). ويقول ردًا على سؤال بشأن ما إذا كانت لجنته التي تعد الأهم في هذا المجال قد قامت بأي زيارة أو عقدت أي جلسة استماع عن الوضع في سيناء: «لا.. لم نقم بعد بزيارات أو شيء من هذا القبيل، حتى الآن». لكنه يضيف موضحًا: «خططنا بالفعل لكي نقوم بزيارات لسيناء»، وسيكون ذلك «في الوقت المناسب». ويملك اللواء عامر خبرة في مشكلات سكان المناطق الحدودية، حيث كان في السابق محافظًا لمحافظة مطروح المجاورة لليبيا.
مما لا شك فيه أن القيادات التي تدير الحرب على الإرهاب في سيناء تحاول جاهدة الانتهاء من العملية بأقل أضرار ممكنة، ودون انتظار لتحرك الحليف الأميركي أو غيره. هذه الحملة دخل بها الجيش المصري إلى المنقطة «ج»، وذلك لأول مرة منذ عام 1967. إلا أن أحد مسؤولي الحملة يشير إلى عراقيل تسبَّب فيها «أصدقاء دوليون»، أي الولايات المتحدة، وهي دول كانت مهتمة باستقرار الوضع الأمني في سيناء أثناء عهد مبارك، وأثناء الزخم الخاص بحل القضية الفلسطينية وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة ككل. لكن الوضع تغير الآن، مشيرًا إلى أن مسألة وصول سلاح إيراني لسيناء، يعني أن طهران دخلت على الخط لاستغلال الوضع، «لكن لا أعتقد أنه سيكون لهذا تأثير على سير المعارك وحسم الحرب.. ومع ذلك ما زالت التحقيقات جارية حول هذا النوع من السلاح ومصدره الحقيقي».

يعتقد كثير من العسكريين المصريين أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة يزيد أطماع دول في الهيمنة على الإقليم مثل إيران. من جانبه، يقول اللواء سالم عن «برود البيت الأبيض الأميركي» تجاه الحرب المصرية ضد «داعش» في سيناء إن الرئيس أوباما لا يريد أن يقدم دعمًا ولا تعاونًا، ومع ذلك «نحن كفيلون إن شاء الله بأعدائنا. بالنسبة لنا الخطوط واضحة؛ مَن يمول الإرهاب.. ومن يشجعه.. والدور الأميركي ليس خافيًا علينا».
ومن واشنطن يقول الباحث الأميركي، بارفي: «أتصور أن الولايات المتحدة تقدم لمصر معلومات استخباراتية، مثل الصور، وربما بيانات الأقمار الصناعية التي تأتي من اعتراض وكالة الأمن القومي، مثل المكالمات الهاتفية والإنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية، خصوصًا تكنولوجيا المعلومات التي يحصلون عليها عند العمل على تنظيم داعش في العراق وسوريا.. لكنني لست متأكدًا إذا كان لدينا طائرات دون طيار تعمل هناك (في سيناء)».
ويعرب عن اعتقاده بأن أوباما ليس مهتمًا كثيرًا بأي شيء، ولكنه مهتم بالانتهاء من فترة ولايته.. «إنه لم يُظهر قدرًا كبيرًا من الاهتمام.. لا يريد التورط في المنطقة، ولم يكن سعيدًا جدًا مع ما حدث في مصر في 2013. أوباما لا يحبذ عقد أي صفقات أسلحة مع المصريين حاليًا.. هو ليس رئيسًا مثل بيل كلينتون الذي كان يجتمع مع قادة الدول ويحاول مساعدتهم».
أثناء الخروج من مدينة العريش بدت الحركة أقل من السابق. سيارات الأجرة ما زالت تبحث عن مسافرين وتربض مكانها في الميدان المهجور في يأس. وفي كمين الأمن رفع الجندي محمود قناعه، ولوح بيديه مودعًا، ثم أشار بعلامة النصر، وعلى وجهه ابتسامة عريضة ظلت تبتعد وتبتعد تحت شمس الصيف.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.