العالم التلقائي للأدباء والمثقفين في مواقع التواصل الاجتماعي

نقد وسجالات وعواطف وتصويبات نحوية فيما بينهم

العالم التلقائي للأدباء والمثقفين في مواقع التواصل الاجتماعي
TT

العالم التلقائي للأدباء والمثقفين في مواقع التواصل الاجتماعي

العالم التلقائي للأدباء والمثقفين في مواقع التواصل الاجتماعي

ما يكتبه الأدباء والمثقفون بشكل على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي أو في «جروباتهم»، ربما يختلف عن جديّتهم ورسميتهم التي يبدون عليها في كتبهم. في مواقع التواصل الاجتماعي يتحرر الأدباء من قيود الرقابة أولاً ثم من شخصيتهم الرسمية التي عادة ما يواجهون بها قراءهم في الكتب التي يصدرونها.
الأدباء هنا يعودون تارة أطفالاً يمرحون في أزقتهم القديمة، أو يمشون حبوًا نحو أمهاتهم مستذكرين لمستها التي افتقدوها بعدما خاضوا تجارب الحياة، وبإمكانك استكشاف سلوكهم الحقيقي أحيانًا من خلال انفعالاتهم أو ردود أفعالهم في حال خالفهم أحد في الرأي.. وتفاصيل كثيرة لا يمكن معرفتها عن الأدباء إلا إذا تسللت إلى عالمهم في مواقع التواصل الاجتماعي والقروبات.
في هذه الفضاءات الإلكترونية سوف نقوم بجولة بين وقت وآخر لنرصد الروح التلقائية للأدباء من خلال ما ينشرونه من كتابات أو سجالات.
الناقد السعودي د.سعد البازعي على صفحته في «فيسبوك» أراد إثارة مزيد من الأسئلة حول موضوع نشره في صحيفة «الشرق الأوسط» بصفحة «فضاءات» حول رواية «مصائر» للكاتب ربعي المدهون، بعنوان: «مصادر المأساة ومآلات السرد في رواية المدهون»، فنشر رابط المقالة وكتب تعليقًا على شكل تساؤل محدود الكلمات لكنه إشكالي يترك بابه مفتوحًا لكثير من الإجابات المحتملة، والتساؤل هو كالآتي: «رواية مصائر لربعي المدهون تستدعي السؤال: هل يمكن لفلسطيني أن يقدم رؤية متوازنة للنكبة والهولوكوست؟» فيرد عليه الناقد السعودي د. معجب الزهراني بقوله: «لم أقرأ الرواية ولا القراءة (يقصد قراءة د.البازعي) لكني قلت لصديقي إبراهيم نصر الله ذات يوم أن السير الذاتية الفلسطينية تهمني أكثر من كل الروايات، ولقد تذكرت كلامي له هذا الصباح حيث فرغت من قراءة «غربة الراعي» للمرة الثالثة!».
أما أستاذ اللسانيات السوري د.منذر عياشي، فقد اختار أن يتحدث عن إنسانية سقراط من خلال هذا «البوست» الذي يختصر عوالمنا الحالية رغم نأي المسافات عن عام 469 قبل الميلاد، العصر الذي عاش فيه سقراط، فكتب د.عياشي: «كان سقراط لا يكتب. وكان ما يغيظه في الكتابة أنه يرى أن «الأفكار تُسَطَّر على جلود الميتة من الأبقار، بدل أن تُسطّر على قلوب الأحياء من الناس». لم يختلف في الأمر سوى جلود البقر التي حل مكانها الورق الأصم، وظلت قلوب الناس كما هي.
للشعراء حضورهم الأنيق على صفحات موقع التواصل الاجتماعي، فهنا نرصد مقطعًا شجيًا من قصيدة للشاعر المصري أحمد محمود مبارك يقول من خلالها:
في المقهى
شابٌ يقبعُ في زاوية خافتة الأضواءِ
.. يروِّي بدماهُ جدْبَ الأوراق
حينا.. لمّا يُمْعِنُ فيها..
تكسو عينيهِ غيماتُ الإخفاقِ
..... وحينا يومضُ نجم الأحداقِ
.. ويهتزُّ بخُيلاء
لمّا يصرُ دمَه.. فجرا وعناقيدَ
... ويسمعه.. شعرا وأغاريدَ
ولا تخلو «البوستات» و«التغريدات» من استعراض مهارات النحو والبلاغة، فمن صفحات «تويتر» نجد الأكاديمي السعودي د.عبد العزيز الدباسي يصحح تغريدة على صفحة الأكاديمي السعودي د.علي الحمود فيقول: «من الخطأ القول:رجعوا عن بكرة أبيهم، والصحيح: على بكرة، لا عن، وأصل المثل أن أبناء رجعوا راكبين ناقة لأبيهم. ويقال هذا المثل لمن اتفقوا على شيء».
ومن التصويبات الطريفة أيضا توجد تغريدة مكتوب عليها «إسعافات لغوية 119» نسبة إلى رقم الإسعاف الصحي أو الطوارئ كما يبدو، وتحتها مكتوب اسم د.عبد الله جاد الكريم، ونشرها على صفحته د.ناصر الشيحان الأستاذ المساعد في الأدب والنقد بجامعة الأمير سطام. ومن هذه التصويبات: «الخطأ:أنت بمثابة أبي، والصواب:أنت مثل أبي».
لأن عالم التواصل الاجتماعي، كما قلنا، تلقائي وبلا رتوش، فإن الناقد الأردني د.كمال بلال رشيد اختار إسقاطات السياسة على العاطفة فكتب تغريدة: «بعيدا عن السياسة.. العشق انقلاب واعتقال وحرية».
أثناء كتابة هذه المادة، وقعت حادثة إطلاق النار في مدينة ميونيخ الألمانية، وكعادة «جروبات» المثقفين فإنها سرعان ما تتحول إلى وكالات أنباء لنقل الأخبار العاجلة مع تحليلات بعضها متسرع وانفعالي والآخر عقلاني، فقد سارع الإعلامي المصري عبد الغني سعودي في جروب اسمه «المبدعون» إلى توجيه التهمة كالآتي: «متأسلمون والجمعة يومهم المقدس».
في مجموعة للمثقفين، كبيرة العدد اسمها «حقول المعرفة»، وغالبيتها من الأكاديميين والشعراء والروائيين وكتاب القصة والنثر والنقد والإعلاميين السعوديين ويضم معه عددا من المثقفين العرب، كانت تجري كثير من النقاشات حول التعليم والمكاتب الإعلامية في الخارج وأحاديث عن انقلاب تركيا، ولكنني آثرت أن أنثر رذاذ الشعر على عيون قراء هذا الموضوع فاخترت أبياتًا من قصيدة للشاعر اليمني زين العابدين الضبيبي يقول فيها:
رؤياك في كون الحنين محلقة
وأناك في الحب البنفسج مغرقة
قالت:أحبك منذ ست قصائدٍ
فإذا القصائد بالتولّه مورقة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.