كنعان يناجي دمشق في «غيوم الخشخاش»

كنعان يناجي دمشق  في «غيوم الخشخاش»
TT

كنعان يناجي دمشق في «غيوم الخشخاش»

كنعان يناجي دمشق  في «غيوم الخشخاش»

قبل نحو عشرين عامًا غادر الشاعر السوري (علي كنعان) دمشق إلى بلاد الله الواسعة فاستقر في اليابان ثلاث سنوات مدرسًا للغة العربية في جامعة طوكيو ولكنه وفي عام 1998 قرر الاستقرار في (أبوظبي) محررًا في دار السويدي للنشر والتوزيع ومتفرغا للكتابة الشعرية. وبعد عدة دواوين شعرية أصدرها منذ قبل نحو نصف قرن، صدر له مؤخرًا عن دار التكوين للنشر والتوزيع بدمشق ديوانه الشعري الجديد تحت عنوان: «غيوم الخشخاش»، وضم عشرين قصيدة في نحو 114 صفحة.
كنعان الغائب يهدي لدمشق غيوم خشخاشه قائلاً: «هذه الغيوم: هواجس ورؤى وهلوسات.. هطلت بعيدًا عن دمشق، ودمشق ليست أول حاضرةٍ عربيةٍ فرشت ظلّها بين الصين والأندلس وحسب، لكنها رمزٌ لكل حق وخير وجمال».
في قصائد (علي كنعان) الجديدة، وهو المنتمي لجيل الستينات، جيل محمد عمران وفايز خضور وممدوح عدوان، وجيل النكسة والسوداوية والحداثة الشعرية، تأكيد على أنه ما زال وفيًا لها، فهناك الرمزية المغرقة أحيانًا حتى حدود الوهم والوهن النفسي.
وقد تجسد قصيدته الأولى في المجموعة، التي حملت عنوان «ترانيم لأميرة طروادة»، رمزية جيله وأسلوبه الشعري مستخدمًا قصة طروادة باعتبارها مسرح الحرب الأول بين الشرق والغرب، مقارنًا إياها مع مدن العرب الحزينة المصدومة، دمشق وبغداد ونينوى:
لك الله، يا وردة الشام يا نجمة الكرنفال
الدموع التي عصفت بلياليك تكفي لغسل عصور الطغاة
أحضري لي دمشق..على راحتين غفا ياسمين نزار...
أتملى معاني سمرقندَ أفراح نيسان تزهر في نينوى
وجراحات بغداد تخطف ذاكرتي وتثير شجون اليمام.
في قصيدته «هيروشيما بلادي!» يبتعد كنعان عن الرمزية ليدخل عالم الواقع السوري المتأزم والمتشظي منذ خمس سنوات، عاكسا شعريا حجم الكارثة. نقرأ في أحد مقاطع القصيدة: الله! يا مزرعة الموتِ.. التي كان اسمها سوريا.. مرّي كإعصارِ الجحيم.. على عظامي وعظام الآخرين.. وانسفي رميمها.. عبر البحار.. فكل ما تبقى من حلمنا القديم.. ندوبُ أجيالٍ من الرماد.
ويكتب في قصيدة «لجوء» عن مأساة السوري العاري الهائم عبر عباب اليم باحثًا عن ملجأٍ آمن، أو يكون وليمة لأسماك البحار:
يحشو حقيبته بأضغاث - ركام من سديم كالح - طفحت به رُقَعُ السماء.. ولم تداعب حلمه العبثي سانحة النجوم.



«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

عادل خزام
عادل خزام
TT

«مانسيرة» تجمع شعراء العالم في قصيدة واحدة

عادل خزام
عادل خزام

تُغذّى جذور القيم الثقافية كلما تعمقت صلتها بتراث الأمكنة والناس. لكن ماذا لو اكتشفنا أن العالم، بقاراته الخمس، قادرٌ على أن يكون مهداً لقصيدة واحدة؟ عن أي ناس وأية جغرافيا نتحدث حينها؟

هذا هو السؤال الذي يجيب عن كتاب «مانسيرة» الشعري، الذي أطلقه أخيراً الشاعر الإماراتي عادل خزام، بمشاركة 86 شاعراً وشاعرة من مختلف بقاع الأرض، في تجربة أدبية عالمية غير مسبوقة.

تمثل تجربة «مانسيرة» رحلةً شعريةً جماعيةً حيث تتضافر جهود هذا العدد الكبير من الشعراء، كلٌّ بخلفيته الثقافية ولغته الأم، لنسج نصٍّ واحدٍ مُشترك. هذا التنوع يُضفي على الكتاب ثراءً فنياً وجمالياً استثنائياً، فينسجم تنوع الأساليب الشعرية والرؤى الفكرية، ليُشكّل لوحةً فسيفسائيةً تعكس غنى التجربة الإنسانية.

وحتى عنوان الكتاب يُجسّد هذا التمازج الثقافي ببراعة، فهو دمجٌ بين الكلمة الإنجليزية «Man» التي تعني الإنسان، والكلمة العربية «سيرة»، ليُعبّر عن جوهر المشروع في تقديم سيرةٍ إنسانيةٍ شاملة، تحتفي بتنوّع البشرية ووحدتها في آنٍ واحد.

تتخطى «مانسيرة» حدود الجغرافيا واللغة لتُقدّم تجربةً شعريةً كونيةً تحتفي بالإنسان وقيمه المُشتركة، وتُؤكّد قدرة الفن على توحيد البشرية رغم اختلافاتهم. إنها ملحمةٌ تُعيد صياغة مفهوم الهوية والانتماء، لتُؤسّس لِعالمٍ أكثر تسامحاً وانفتاحاً، عالمٍ تُشكّل فيه الكلمة جسراً للتواصل والتفاهم بين جميع الثقافات.

يبدأ الكتاب بمدخل أسطوري شبيه بالملاحم التاريخية ولكن بنفَس حديث:

في البَدْءِ كانَ العالَمُ شيئاً واحداً

لا غربَ لا شرقَ، لا وضوحَ ولا غموضَ

ولا البدايةُ تعرِفُ أنَّ لها نهايةً

ولا النِّهايةُ بَدَأتْ، أو صارَ لها مُؤيِّدونَ

«مانسيرة»: جسرٌ للتواصل بين الثقافات

يفتح لنا هذا المدخل نافذةً على فكرة «وحدة العالم»، حيث تتلاشى الحدود الجغرافية والثقافية، ويصبح العالم بأسره موطناً واحداً للإنسانية جمعاء. إنها دعوةٌ للتأمل في انقسامات العالم وصراعاته التي لا طائل منها، في حين أن البشر جميعاً يتشاركون الحلم نفسه: عالمٌ يسوده السلام والمودة.

تكمن أهمية «مانسيرة» في كونها أكثر من مجرد تجربةٍ شعريةٍ جديدة، فهي تُجسّد تحولاً عالمياً في مفهوم الأدب، حيث تتراجع «الأنا» لِصالح «النحن»، ويتعزز مفهوم الجماعة في عملية التأليف الإبداعي. وتُتيح هذه المشاريع الجماعية الفرصة لِتداخل الأصوات وتنوّع الأساليب، مما يُثري الأدب ويُعزز جاذبيته، ويمنح القراء فرصةً لِلانفتاح على عوالم وثقافات مُتعددة من خلال نصٍّ واحد.

في الفصل الثاني من الملحمة «دوران الإنسان في الجغرافيا والزمن» تنتقل القصيدة من أفكار تشكّل العالم إلى استقراء رحلة البشرية وتشتتها في الصراعات والاختلافات:

ظل البشر، دهراً بعد دهرٍ، يتناسلون في مراعي الفوضى

وقرناً بعد قرنٍ، صارت تُبادُ أمم بكاملها وتنبعث أخرى

ولم يمض وقت طويل، في القرن الأخير

إلا وكانت الخيول قد عبرت إلى الصحراء

وهي تتبعُ اتجاه البوصلة المكسورة

ظلوا يتجهون جنوباً خاسرين شمالهم الحقيقي

حين نصل إلى الفصل الثامن على سبيل المثال وهو بعنوان: «مجتمع القنبلة الذرية» تحيلنا الملحمة إلى الهوة العميقة التي يحدّق فيها البشرُ اليوم في مصيرهم المرعب، حيث يتهدد الكوكبُ بالفناء على يد المهووسين بالسلطة والجشع والحروب. يصرخ شعراء العالم قائلين:

نُحدّقُ في عيون الموت

ويحدّق هو في عيوننا...

ها هو الموت الأعمى، يترك آثاره أينما ذهب

أما نحنُ، فنترك أثر الحياة

وكلماتنا هذه، وأفكارنا، إنما هي إمضاءٌ بأننا كنّا هنا

والإمضاء بمثابة جذر، جذر حي للخلود.

والجذور دلالة على الحياة في حد ذاتها.

هكذا تسترسل في رصدها لتحولات البشر من الوحدة إلى الصراع، وتقرأ مشهدية العالم اليوم المهدد بالدمار الهائل الذي ينبعث منه. ومع توالي الفصول تكون الرؤية قد تشبّعت بأسئلة الوجود كلها، إلى أن نصل في النهاية إلى المآلات والتوصيات في ختام هذا النص العظيم حقاً الذي يمتد إلى 265 صفحة تقريباً.

وأنت أيها الإنسان الفرد – الإنسان الجماعة

إليك وصيّة الدهر الأولى، وها نحن نكررها للمرة الألف

إذا مشيت،

اُكتبْ خطواتِكَ بأنفاسِكَ

واشبُكْ صوتكَ بالريح

لا تدَعْ أحداً حتى نفْسكَ يسلبكَ الدَّهشة

أنتَ المسافرُ في الضوء

أنتَ العارفُ الملهَم

تحدٍ كبير

لا شك أن جمع هذا العدد الكبير من الشعراء في عمل واحد يمثل تحدياً هائلاً، سواء من حيث التنسيق أو الترجمة أو الحفاظ على وحدة النص وتماسكه. إلا أن عادل خزام نجح في تجاوز هذه التحديات ببراعة، فقام بجمع القصائد ونسجها بإبداع ليُخرج لنا نصاً واحداً متناغماً، يستقي جذوره من تنوع الخلفیات الثقافیة واللغویة، ويصهرها في بوتقة إبداعية واحدة تُثري اللغة والأسلوب الشعري.

وبينما كانت تجارب التأليف الجماعي السابقة تركز على سرديات آداب شعوبٍ أو مجتمعاتٍ واحدة، مثل «الكتاب الصيني» أو «كتاب جاك كيرواك»، فإن «مانسيرة» تتجاوز هذه الحدود لتُصبح تجسيداً شعرياً لِرؤيةٍ عالمية، تُعبّر فيها الكلمة عن تجارب إنسانية مُشتركة، وتستند إلى خصوصية الشعر بوصفه وسيلة لِلتعبير عن العواطف والأفكار بِعمق.

يُمكن مقارنة «مانسيرة» بِمشاريع أدبية أخرى سعت لِتقديم رؤية جماعية لِعالمٍ أفضل، مثل «سيفيتاس سوليس» (مدينة الشمس) لِتوماسو كامبانيلا، التي شارك في كتابتها الكثير من الفلاسفة والعلماء. إلا أن «مانسيرة» تتميّز بِطابعها الشعري الذي يمنحها قوةً تعبيريةً خاصة، ويجعلها أقرب إلى القلوب.

الأساليب الشعرية ووحدة الأسلوب

التحدي الأكبر الذي واجهه خزام تمثّل في كيفية دمج الأساليب الشعرية المتنوعة وخلق رابط يوحد النصوص. كل شاعر من الـ86 شاعراً قدم رؤيته الخاصة وتجربته الإنسانية المتفردة، واستخدم خزام منهجاً ذكياً في اختيار النصوص وتنسيقها، بحيث يكون كل نص مكملاً للآخر، ليُشكِّل تياراً شعرياً ينساب بين اللغات والثقافات. ترك للشعراء أولاً ترجمة قصائدهم إلى الإنجليزية، ليضمن وضوح المعاني وتناسق الأفكار، ومن ثم ترجمها إلى العربية بطريقة حافظت على الروح الأصلية للنصوص، وخلقت في الوقت نفسه نصاً سلساً للقارئ العربي. استطاع خزام عبر هذه الطريقة أن يربط بين التجارب المختلفة، حيث إن كل نص يساهم في بناء السردية الشعرية للملحمة، ويخلق جسراً بين الثقافة التي أتى منها الشاعر، واللغة العربية.

16 فصلاً من تأليف 86 شاعراً وشاعرة من 50 دولة منهم 19 اسماً عربياً أطلقه عادل خزام بمشاركة 86 شاعراً وشاعرة من خمسين دولة

حضرت في التأليف الأسماء الشعرية الكبيرة من كل القارات، من بينهم من إيطاليا باولو روفيللي وبيبي كوستا، والبلجيكي جيرماين دروغنبروديت، والفرنسي فرنسيس كومبس، ومن الولايات المتحدة جين هيرتشفيلد وجورج والاس وآنا كيتس، بالإضافة إلى رئيس حركة الشعر العالمي فرناندو راندون ويوجينيا سانشيز نيتو من كولومبيا. ومن بريطانيا فيونا سمبسون وكريس سولت وأغنيس ميدوز، وثلاثة شعراء من الصين هم زانغ تشي وآنا كيكو وكاو تشوي، وثلاثة من اليابان تايكو أويمورا وتيندو تايجن وماريكو سوميكيورا، بالإضافة إلى أسماء مهمة أخرى وكبيرة من كل القارات.

الشعراء العرب

حضر أيضًا الشعراء العرب: سيف الرحبي والراحل زاهر الغافري من سلطنة عُمان، وزكية المرموق من المغرب، وطارق الطيب من السودان، والراحل جلال زنكابادي ومحسن الرملي من العراق، ومعز ماجد من تونس، وحميد العربي من الجزائر، وسعد الدوسري والدكتورة فوزية أبو خالد من السعودية، وبسام جوهر من اليمن، وغسان زقطان من فلسطين، والراحل محمود قرني وأشرف أبو اليزيد من مصر، ويوسف أبو لوز من الأردن، وخلود المعلا وخالد البدور من الإمارات، وليلى السيد من البحرين، وندى أنسي الحاج من لبنان، وشروق حمود من سوريا. أيضاً شارك مجموعة من الفنانين من حول العالم بصور لأهم لوحاتهم، في مقدمتهم الفنان الكويتي القدير سامي محمد.

وعادل خزام اليوم هو أحد مؤسسي تجربة الحداثة الشعرية وقصيدة النثر في الإمارات والخليج، قام بتمثيل دولة الإمارات في العشرات من المناسبات والمهرجانات لنحو 40 سنة. أصدر نحو 20 كتاباً وفاز بجائزة توليولا الإيطالية، وجائزة مهرجان طريق الحرير الذي ترعاه الأمم المتحدة. كما عدّ أدونيس كتاب عادل خزام «الربيع العاري» الكتاب الأكثر جدة واستبصاراً من بين معظم كتب الشعر العربي في الربع الأول من القرن الـ21.