كافكا في قلب البشرية لا في أرشيف إسرائيلي

كافكا في قلب البشرية لا في أرشيف إسرائيلي
TT

كافكا في قلب البشرية لا في أرشيف إسرائيلي

كافكا في قلب البشرية لا في أرشيف إسرائيلي

اعتداء صارخ على رجل ميت لا يملك أن يدافع عن نفسه وإرثه ورسالته، هذا الذي ارتكبته إسرائيل أخيرًا بحق الكاتب التشيكي فرانز كافكا، باعتبار تراثه ملكًا لها، هذا اليهودي اللايهودي، حسب تعبير المفكر إسحق دويتشر. هذا الإنسان الذي رفض الأب، القامع، المسيطر، تريد إسرائيل أن تكون أبًا له بعد أكثر من تسعين عاما على موته المفجع. سيضحك كافكا وهو في قبره، كما ضحك أمام أصدقائه وهو يقرأ لهم الفصل الأول من رواية «المحاكمة»، وكيف اقتحم رجال الفجر الغامضون شقة «جوزيف ك» ليقودوه لمحاكمة وهمية، تنتهي بإعدامه في شارع عام أمام كل البشر الساهين، من دون أن يعرف حتى تهمته. لم يكن يتصور آنذاك أنه سينتهي في أرشيف إسرائيلي!
ولكن هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها غلاة اليهود مصادرة كافكا.. دينيًا. فقد ألفت عشرات الكتب، وكتبت أضعافها من المقالات التي تحاول أن تأول كتاباته باعتبارها «بحثًا عن الرب»، مستغلين قصة وردت في رواية «المحاكمة» عن رجل ينتظر أن يُستدعى للمحاكمة. لكنه ينتظر عند الباب سنين حتى يشيخ، والجواب دائما: مستحيل، ليس الآن، ربما غدًا، حتى يصبح جزءًا من المكان، ثم يموت في النهاية عند باب المحكمة. تجسيد رهيب، وواقعي للبيروقراطية في عصر كافكا وفي عصرنا أيضًا. لكن ناقدًا مثل جون كيلي، على سبيل المثال، ينطلق في مقال له بعنوان «المحاكمة وثيولوجيا الأزمة» نشر في كتاب جماعي بعنوان «مشكلة كافكا»، من هذه القصة ليستنتج أن كافكا «كان منشغلا جدا في بحثه عن الرب، والطريق الأفضل في الحياة»، وهو يعني بذلك الطريق الديني.
ويوصله ذلك إلى استنتاج خطير؛ أن «جوزيف ك» قد قبل بمحاكمته طبقًا لتعاليم الفيلسوف أميل برونر التي تقول إن المرء، في أوقات الأزمة، حر في اختيار مسار آخر، وحر في رفض الصراع في أي وقت»، أي بكلمة أخرى، الاستسلام للقدر كما عند الناس المؤمنين.
لقد درست كافكا دراسة أكاديمية بجامعة لندن، ولم أجد سوى إشارات قليلة جدا، وعابرة لدينه اليهودي، بل إشارات سلبية، في كتاباته ورسائله الكثيرة، خصوصًا إلى صديقته.. لم يكن الرجل معنيا بذلك. كان معنيا أساسا بالمشكلات الكبرى التي طرحها واقع ما بعد الحرب العالمية الأولى، وكان واعيا تماما لطبيعة المجتمع ما بعد الحرب، وكانت كتاباته تعبر عما أنتجته هذه الحرب الطاحنة في المجتمعات الغربية من ظواهر متناقضة: بزوغ ظاهرة الفردية، ووصولها إلى ذروة ربما لم يعرفه التاريخ من قبل، وتشكل في الوقت نفسه، نظام جديد أنتج المركزية، والمؤسسات البيروقراطية، وقوانين السوق الحرة، والهرمية، التي كانت الرأسمالية تحتاج إليها لإعادة بناء هذه المجتمعات، على حساب الفردية التي بدأت بالتفتح لتوها على خرابها، وخراب العالم حولها، الذي تتحمل الرأسمالية نفسها مسؤوليته.
أمام هذا التناقض الحاد، دعا الدادائيون إلى «تحطيم جوارير العقل، والنظام الاجتماعي»، ووجد السورياليون ملجأ لهم في العقل الباطن، بينما أراد المستقبليون تهديم المتاحف، والمكتبات، والأكاديميات. وفي الجانب الآخر من العالم، كان تي إس إليوت، ومعاصروه «الجوف» يندبون العالم، ليس بضجة، بل بنشيج، كما يختتم إليوت قصيدته «الرجال الجوف».
لم يصور أحد هذا التناقض المميت، الذي شكلت إفرازاته سمات حركة المعاصرة الأدبية Modernism، وليست الحداثة Modernity كما تُترجم خطأ، في الأدب الغربي: التشظي، الاغتراب، العزلة، التشيؤ، التنافر بين الفرد ومجتمعه، نفي التاريخ واللجوء للأسطورة، التصعيد الروحي للواقع المحيط، كما فعل كافكا، خصوصًا في «المحاكمة» و«القلعة»، حيث قوى عمياء مطلقة، غير مرئية، تتحكم بمصائر البشر. في الأولى، يقتحم شقته رجال غامضون ليقتادوه إلى قاعة «المحكمة»، التي لن يراها أبدًا. وهناك يكتشف ما لم يستطع أن يكشفه في واقعه اليومي كموظف بسيط: طبقات من البشر الغامضين: قضاة ومحامون فاسدون، جواسيس وحراس غلاظ، بنات ليل بائسات، ضحايا لقوى تحكم من تحت حسب ما تشتهي، لكن لا أحد يراها. ثم ينتهي الأمر بالرجل المسكين، الذي لم يعرف أبدا ما تهمته، بالإعدام العلني في الشارع.
لم يكن كافكا، كما صوروه، كاتبًا كابوسيًا، بل العالم كان كابوسًا، ولا يزال كما رسمه وتوقعه. كان يتمتع بوعي سياسي عالٍ، وكان يعرف تمامًا بنية هذا العالم الذي كان يعيش فيه وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية. يقول «ك» في إحدى مرافعاته أمام المحكمة الوهمية: «ما يحدث لي مثال واحد، ليس بذات أهمية، خصوصًا أنني لا أتعامل معه بجدية، ولكنه يمثل سياسة مضللة مسلطة على أناس كثيرين أيضًا. من أجلهم أنا أقف هنا، وليس من أجل نفسي».
ولا يختلف الأمر في الرواية الثانية: قلعة بعيدة لا يدخلها أحد، ولا أحد يخرج منها سالما، يحكمها رجل لا يمكن الوصول إليه أبدًا. قلعة غارقة في الثلج، مخفية في الظلام. بشر معزولون عن العالم، ولا يتواصل حتى بعضهم مع بعض، وهم ملكية خاصة لكائن شبحي لا أحد يراه، أو يستطيع أن يصل إليه، أو يعرف عنه شيئًا.
عالم كافكا، كما يقول المفكر والناقد الألماني والتر بنجامين، هو مسرح عالمي، فيه الإنسان على المسرح منذ البداية. وهو مسرح لا تستطيع أن تصادره أي قوة على الأرض لمصلحتها، سواء أكانت إسرائيل أم غيرها. إنه ملك البشرية جمعاء، مهما اختلفت أديانها وألوانها.
هذه هي رسالة كافكا الجوهرية.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.