كيف وصلنا إلى مرحلة العالم «منخفض النمو»؟

الأمور مترابطة.. من الدخول الضعيفة إلى صعود ترامب

النمو الضعيف يسفر عن ارتفاع الدخول ببطء شديد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين (رويترز)
النمو الضعيف يسفر عن ارتفاع الدخول ببطء شديد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين (رويترز)
TT

كيف وصلنا إلى مرحلة العالم «منخفض النمو»؟

النمو الضعيف يسفر عن ارتفاع الدخول ببطء شديد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين (رويترز)
النمو الضعيف يسفر عن ارتفاع الدخول ببطء شديد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين (رويترز)

إحدى أهم حقائق الاقتصاد العالمي تتخفى بين كلمات أحد العناوين البارزة لهذا العام، مفادها أن «النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة صار أضعف؛ لفترة أطول مما كان عليه الأمر في حياة معظم الناس على وجه الأرض».
وتضيف الولايات المتحدة المزيد من الوظائف بوتيرة صحية، كما ظهر من تقرير حديث صدر يوم الجمعة الماضي، مع معدل البطالة المنخفض بصورة نسبية. ولكن ذلك يحدث على الرغم من الاتجاه طويل الأمد للنمو المنخفض بشكل كبير، في الولايات المتحدة وفي البلدان المتقدمة الأخرى، بأكثر مما كان واضحًا بالنسبة لمعظم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ويساعد هذا الاتجاه على تفسير ارتفاع الدخول ببطء شديد منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، ولا سيما بالنسبة لأولئك الذين ليسوا من الفئة الأعلى دخلاً. وهناك أمر يكمن خلف البنزين الرخيص الذي تغذي به سيارتك وخلف أسعار الفائدة المنخفضة للغاية التي تحصل عليها لمدخراتك، وهو من الأهمية لتفهم سبب صعود دونالد ترامب، والتصويت البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، وارتفاع الحركات الشعبوية في مختلف أنحاء أوروبا.
وهذا النمو البطيء ليس من الظواهر الجديدة، ولكن الجديد هو الطريقة التي يتحرك بها النمو البطيء عبر الـ15 عامًا الماضية ولا يزال. في الولايات المتحدة، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمتوسط 2.2 نقطة مئوية على أساس سنوي منذ عام 1947 وحتى عام 2000 – ولكن بدءًا من عام 2001 كان المتوسط يحوم حول 0.9 نقطة مئوية فقط. وكان أداء اقتصادات أوروبا الغربية واليابان يسير بوتيرة أسوأ من ذلك.
وعلى مدى فترات طويلة، يشير هذا التحول إلى تحسن بطيء بصورة جذرية في مستويات المعيشة. وفي عام 2000، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي – والذي يقاس عموما وفق دخل المواطن الأميركي العادي – مبلغ 45 ألف دولار. ولكن إذا كان النمو في النصف الثاني من القرن العشرين على نفس مستوى الضعف، كما كان عليه الأمر منذ ذلك الحين، كان ذلك المبلغ لن يتجاوز 20 ألف دولار بأي حال.
ولجعل الأمور أسوأ مما هي عليه، يشهد عدد أقل وأقل من الناس غنائم أي نوع من النمو هنالك. ووفق تحليل حديث صادر عن معهد ماكينزي الدولي، هناك نسبة 81 في المائة من سكان الولايات المتحدة في شريحة الدخل الثابت أو المنخفض خلال العقد الماضي. وبلغت هذه النسبة 97 في المائة في إيطاليا، و70 في المائة في بريطانيا، و63 في المائة في فرنسا.
ومثل معظم الأشياء الأخرى في الاقتصاد، فإن تباطؤ النمو يتجه نحو العرض والطلب؛ أي قدرة الاقتصاد العالمي على إنتاج السلع والخدمات، ورغبة المستهلكين والشركات في شرائهم. والمثير للقلق هو أن الضعف في العرض والطلب العالمي يبدو وكأنه يدفع بعضه بعضا في حلقة مفرغة.
> لماذا لا تنجح السياسات؟
يبدو الأمر وعلى نحو متزايد وكأن شيئًا ما قد كسر في مكانية النمو العالمية – وأن القائمة الاعتيادية للسياسات، مثل تخفيضات أسعار الفائدة والتحفيزات المالية المتواضعة، ليست على مستوى الواجب لإصلاح ذلك الكسر (على الرغم من أن بعض السياسات المدروسة جيدا يمكنها المساعدة في ذلك).
والحقيقة الكامنة وراء النمو المنخفض سوف تطارد كل من يفوز برئاسة الولايات المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إلى جانب الزعماء في أوروبا واليابان. وطريقة التفكير الكاملة حول المستقبل – الذي سوف يعيش الأطفال حتمًا في بلد أكثر ثراء من الذي عاش فيه آباؤهم – باتت محل التساؤل كلما استمر هذا الوضع.
والخطوة الأولى في محاولة وقف التباطؤ هي تفهم السبب الرئيسي وراء حدوثه. والطريق الأمثل لفعل ذلك يكون بإعادة النظر في التوقعات الصادرة عن خبراء الاقتصاد الأذكياء.
في يناير (كانون الثاني) عام 2005، وكما هو الحال في كل عام، أصدر مكتب الميزانية في الكونغرس توقعاته بشأن ميزانية الولايات المتحدة والتوقعات الاقتصادية خلال العقد المقبل. وإذا ما صحت توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس آنذاك، فإن الولايات المتحدة كانت لتشهد زيادة في الناتج الاقتصادي بمقدار 3.1 تريليون دولار في عام 2015 عما كان عليه الأمر فعليًا في الواقع، أي أكثر بنسبة 17 في المائة. وحتى إن لم يحدث الانكماش الحاد في عامي 2008 - 2009، فإن العجز المتحقق لم يكن ليتجاوز مبلغ 1.7 تريليون دولار.
ومن الناحية الحسابية، هناك عنصران محتملان للتباطؤ في النمو: الناس الذين يعملون عددًا أقل من الساعات يوميًا، والقليل من الناتج الاقتصادي المتولد عن كل ساعة من ساعات العمل. ولقد ساهم كل منهما في ضعف الأداء الاقتصادي.
في عام 2000، نشر روبرت جيه. غوردن، الخبير الاقتصادي لدى جامعة نورثويسترن، ورقة بحثية بعنوان «هل يرقى الاقتصاد الحديث إلى الاختراعات العظمى من الماضي؟» ويقول فيها إن الإنترنت لن يكون له نفس التأثير التحويلي الكبير في كم الناتج الاقتصادي المحقق من ساعة العمل البشرية، مثلما أثر ابتكارات القرن العشرين على المعامل نفسها، مثل الكهرباء، والنقل الجوي، وأعمال السباكة الداخلية.
ولقد كان رأي الأقلية واضحًا للغاية في خضم قمة التفاؤل التكنولوجي. حيث قال السيد غوردن: «قال الناس إن النمو في الإنتاجية يبلغ حد الانفجار. ولكنهم على خطأ، إننا في عصر جديد تمامًا». ولكن مع تباطؤ الإنتاجية بعد عدة سنوات «بدأ الناس في تبني وجهة نظري حول الأمر على محمل الجدية».
وقال إنه يضرب مثالاً بالحجز الذاتي في تكنولوجيا الحواسيب الذي تستخدمه شركات الطيران. فعندما طرح ذلك النظام للعمل للمرة الأولى في عام 2000، كان يعني في الحقيقة زيادة الإنتاجية: حيث كانت الحاجة إلى عدد قليل من الموظفين لخدمة كل مسافر. ولكن المكاسب تعثرت مرة تلو المرة بدلاً من الاستمرار في اتجاه واحد.
> هل أضرت التكنولوجيا بالاقتصاد؟
قال دوغلاس هولتز إيكين، مدير مكتب الميزانية في الكونغرس حال صدور توقعات عام 2005 والرئيس الحالي لمنتدى العمل الأميركي، إن التكنولوجيا «بدت أقل إثارة للاهتمام وأكثر قابلية للمقارنة مع أشكال أخرى من الاستثمارات مما كان عليه الأمر».
واعتقد خبراء الاقتصاد أن متوسط الناتج لمدة ساعة من العمل سوف يرتفع بنسبة 29 في المائة بين عامي 2005 و2014. بدلاً من ذلك لم تتجاوز نسبته 15 في المائة فقط.
ولكن الأمر لا يتعلق بأن كل ساعة من العمل تعود بإنتاجية أقل من المتوقع. فهناك عدد أقل من الناس يعملون عدد ساعات أقل مما كان يبدو مرجحا منذ وقت ليس ببعيد.
وكان معدل البطالة أقل في الواقع عن توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس قبل عقد من الزمن، حيث وجد أن المعدل مستقر عند مستوى 5.2 في المائة، وكان يبلغ 4.9 في المائة في يوليو (تموز). ولكن معدل البطالة يتعلق فقط بأولئك الذين يسعون للبحث عن وظيفة. هناك عدد أقل من خمسة ملايين أميركي في القوى العاملة – لا يعملون ولا يبحثون عن عمل – في عام 2015 بأكثر من المتوقع.
وقدر تحليل صادر عن مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض العام الماضي أن نحو نصف الانخفاض المسجل في مشاركة القوى العاملة منذ عام 2009 كان راجعا إلى شيخوخة السكان (وهو الأمر الذي كان مسجلاً في التوقعات الاقتصادية)، ونحو 14 في المائة من الدورة الاقتصادية. ونحو ثلث الانخفاض كان لأسباب «متبقية» وغامضة: الشباب المغادرين لقوة العمل، ربما بسبب قلة الفرص المتاحة، أو لأن الأجور المحتملة التي يمكن أن يحصلوا عليها غير كافية.
ويعتبر ضعف الإنتاجية وقلة عدد العمال من الضربات الموجعة لجانب العرض من الاقتصاد. ولكن هناك أدلة أن نقص الطلب هو جزء رئيسي وكبير من المشكلة أيضا.
> المحرك والاقتصاد:
لننظر إلى الاقتصاد وكأنه سيارة، إذا أردت زيادة السرعة إلى ما هو أكثر من قدرات السيارة، لن تتحرك السيارة بسرعة أكبر، ولكن المحرك سوف يزداد سخونة. وعلى نحو مماثل، إذا كان الخروج الطوعي من القوة العاملة والمكاسب الأقل من التوقعات بالنسبة للتطورات التكنولوجية هي كل ما يدور حوله الأمر بشأن بطء النمو، فلا بد من توافر الأدلة على سخونة المحرك الاقتصادي، والذي يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم.
وليس هذا ما يحدث.. بدلاً من ذلك، تواصل البنوك المركزية العالمية الضغط على بدائل الوقود الاقتصادي، ولا يسبب ذلك أي ارتفاع في درجات الحرارة الاقتصادية على الإطلاق.
ويحمل التمييز أهمية خاصة إذا كان هناك أي أمل في حل مشكلة النمو البطيء. وإذا كانت المشكلة هي النقص في الطلب، فإن بعضًا من التحفيزات من شأنها المساعدة في ذلك. إن الأمر برمته يوجد على جانب العرض، وبالتالي فإن التحفيز الحكومي لن يساهم بالكثير، وينبغي أن يركز صانعو السياسات على محاولة زيادة ابتكار الشركات وإقناع الناس بالعودة مرة أخرى إلى قوة العمل.
> ولكن ماذا لو كان الأمر على حد سواء؟
لاحظ لاري سامرز، الخبير الاقتصادي من جامعة هارفارد والمسؤول الأول الأسبق في إدارة الرئيس كلينتون وأوباما، النمو في حالة التباطؤ والتضخم غير المرئي بعد الأزمة المالية لعام 2008، على الرغم من التحفيزات المالية الاستثنائية من جانب البنوك المركزية. وحتى قبل الأزمة العالمية، كان النمو الاقتصادي فاترا بعض الشيء على الرغم من فقاعة الإسكان، والإنفاق العسكري، وانخفاض أسعار الفائدة.
في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2013، جمع هذه الملاحظات في خطاب لقي الكثير من المناقشة أمام مؤتمر صندوق النقد الدولي، حيث قال إن الاقتصاد العالمي كان، ربما فقط، قد استقر في حالة من «الركود العلماني» تلك التي تتميز بعدم كفاية الطلب، وأدت إلى بطء في النمو، وانخفاض في معدلات التضخم، وهبوط أسعار الفائدة.
وفي حين أن النظرية تحمل كل الأوصاف عدا الاستقرار، إلا أن القضية المطروحة كانت أقوى خلال السنوات الثلاث الماضية.
> معتقدات استثمارية:
ولكن قد لا يكون الأمر بسيطًا على غرار العرض مقابل الطلب فحسب. ربما أن الناس خرجوا من قوة العمل بسبب ضمور أصاب مهاراتهم وعلاقاتهم. وربما كان السبب في انخفاض الإنتاجية راجع في جزء منه إلى الشركات التي لا تقوم باستثمار رؤوس الأموال، بسبب أنها لا تعتقد بوجود طلب كافٍ على منتجاتها.
وصف السيد سامرز، خلال المقابلة الشخصية، الأمر بأنه انتكاس لقانون «ساي»، وفكرة أن العرض يخلق الطلب المكافئ له: وأنه في كل قطاعات الاقتصاد، يقوم الناس بالعمل من أجل توفير السلع والخدمات التي تؤدي إلى حصولهم على الدخل الذي يشترون به تلك السلع والخدمات.
في هذه الحالة، بدلاً من ذلك، وكما طرح الأمر من قبل في كثير من الأحيان: «نقص الطلب يخلق نقص العرض». والحل المقترح لديه يكمن في أن توسع الحكومة وبشكل كبير من الاستثمار في البنية التحتية، والتي قد توفر هزة قوية لارتفاع الطلب، والتي يمكنها بدورها الانعكاس على العرض – مساعدة العمال الذين يعملون في تشييد الطرق والجسور على العودة مرة أخرى إلى القوة العاملة، على سبيل المثال. وكما يحدث، فإن زيادة الإنفاق على مشروعات البنية التحتية هو من بين السياسات الاقتصادية القليلة التي يدعو إليها كل من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب.
التاريخ الاقتصادي مليء بالكثير من النوبات غير المتوقعة وغير المنتظرة. عندما انتخب بيل كلينتون للرئاسة في عام 1992، كان الإنترنت، السمة المميزة لفترته الرئاسية، نادرا ما تذكر، وكانت اليابان تبدو كدولة ناشئة باعتبارها المنافس الاقتصادي البارز للولايات المتحدة.
بعبارة أخرى، هناك الكثير مما لا نعرفه حول مستقبل الاقتصاد. ولكن ما نعرفه هو أنه إذا لم يتغير شيء من الاتجاه الحالي، فإن القرن الحادي والعشرين سوف يكون شديد القتامة.

* خدمة «نيويورك تايمز»



قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
TT

قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)
ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

رئيس أميركي جديد... حرب تجارية مهددة... استمرار تعثر اقتصاد الصين... اضطرابات سياسية في مراكز القوة بأوروبا... توترات جيوسياسية في الشرق الأوسط... يبدو أن عام 2025 سيكون عاماً آخر استثنائياً. فكيف سيشكل كل ذلك الاقتصاد العالمي في عام 2025؟

في عام 2024، اتجه الاقتصاد العالمي نحو التحسن في ظل تباطؤ معدلات التضخم، رغم استمرار المخاطر.

لكن العام المقبل يقف عند منعطف محوري. فمن المرجح أن يرفع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب الرسوم الجمركية، واضعاً حواجز حمائية حول أكبر اقتصاد في العالم، بينما سيستمر قادة الصين في التعامل مع عواقب العيوب الهيكلية داخل نموذج النمو في ثاني أكبر اقتصاد بالعالم. أما منطقة اليورو، فستظل محاصرة في فترة من النمو المنخفض للغاية.

ترمب ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو يتحدثان قبل اجتماع حلف شمال الأطلسي (أ.ب)

وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يُتوقع أن يظل الاقتصاد العالمي ككل مرناً نسبياً في 2025. ويفترض صندوق النقد الدولي بتقرير نشره في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي قبل حسم نتائج الانتخابات الأميركية، أن يظل النمو ثابتاً عند 3.2 في المائة بالعام المقبل، وهو نفسه الذي توقعه لعام 2024. بينما التوقعات بتباطؤ النمو في الولايات المتحدة إلى 2.2 في المائة في عام 2025، من 2.8 في المائة في عام 2024، مع تباطؤ سوق العمل. في حين توقعت جامعة ميشيغان في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأميركا إلى 1.9 في المائة في عام 2025.

وفي منطقة اليورو، من المتوقع أن يبلغ النمو 1.2 في المائة في عام 2025، وهو أضعف قليلاً من توقعات الصندوق السابقة. ويشار هنا إلى أن الأحداث السياسية في كل من فرنسا وألمانيا سيكون لها وقعها على نمو منطقة اليورو ككل. فالسياسات الاقتصادية الفرنسية والألمانية تعوقها حالة كبيرة من عدم اليقين السياسي بعد استقالة رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه ضحية الموازنة، وانهيار الائتلاف الحكومي في ألمانيا للسبب نفسه.

أما الصين، فيتوقع الصندوق أن ينمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 4.6 في المائة في عام 2025 مع مخاوف تحديات استمرار ضعف سوق العقارات، وانخفاض ثقة المستهلكين والمستثمرين، وذلك في وقت تكافح فيه بكين للتوفيق بين إعادة توجيه استراتيجيتها للنمو والضغوط قصيرة الأجل لإجراءات التحفيز غير المكتملة. لكن وكالة «فيتش» أقدمت منذ أيام على خفض توقعاتها السابقة بالنسبة لنمو الاقتصاد الصيني من 4.5 في المائة إلى 4.3 في المائة.

موظف يعمل بشركة تصنيع قطع غيار سيارات في تشينغتشو (أ.ف.ب)

السياسة النقدية في 2024

لقد كان من الطبيعي أن يمثل تباطؤ التضخم المسجل في عام 2024، أرضية لبدء مسار خفض أسعار الفائدة من قبل المصارف المركزية الكبرى. وهو ما حصل فعلاً. فالاحتياطي الفيدرالي خفّض أسعار الفائدة الفيدرالية مرتين وبمقدار 75 نقطة أساس حتى نوفمبر 2024 - و25 نقطة أساس أخرى متوقعة باجتماع في 17 و18 ديسمبر (كانون الأول) الحالي - لتصل إلى 4.50 - 4.75 في المائة، رغم نمو الاقتصاد بواقع 3 في المائة.

رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يتحدث إلى رئيسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد ويتوسطهما محافظ بنك اليابان كاز أودا في مؤتمر «جاكسون هول» (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فأجرى خفضاً للفائدة 4 مرات في 2024 وبواقع 25 نقطة أساس كل مرة إلى 3.00 في المائة بالنسبة لسعر الفائدة على الودائع.

بنك إنجلترا من جهته، خفّض أسعار الفائدة مرتين بمقدار 25 نقطة أساس (حتى اجتماعه في نوفمبر).

باول ومحافظ بنك إنجلترا أندرو بيلي ورئيس بنك كندا المركزي تيف ماكليم (رويترز)

وبالنسبة لبنك الشعب (المصرف المركزي الصيني)، فلقد كان التيسير مع مجموعة أدواته الموسعة حافلاً هذا العام، حيث تم الإعلان عن إصلاح إطار عمل جديد للسياسة النقدية في شهر يونيو (حزيران)، وتخفيضات بمقدار 30 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي لمدة 7 أيام، وتخفيضات بمقدار 100 نقطة أساس في سعر إعادة الشراء العكسي، وبرامج جديدة لدعم أسواق الأسهم والعقارات.

إلا أن المفاجأة كانت في تغيير زعماء الصين موقفهم بشأن السياسة النقدية إلى «ميسرة بشكل معتدل» من «حكيمة» للمرة الأولى منذ 14 عاماً، ما يعني أن القيادة الصينية تأخذ المشاكل الاقتصادية على محمل الجد. وكانت الصين تبنت موقفاً «متراخياً بشكل معتدل» آخر مرة في أواخر عام 2008، بعد الأزمة المالية العالمية وأنهته في أواخر عام 2010.

ولكن ماذا عن عام 2025؟

سوف تستمر المصارف المركزية في خفض أسعار الفائدة على مدى العام المقبل، ولكن في أغلب الاقتصادات الكبرى سوف تمضي هذه العملية بحذر.

بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي، يبدو أن التوقف عن الخفض في اجتماع يناير (كانون الثاني) أمر محتمل، حيث إنه سيكون لديه بحلول اجتماع مارس (آذار)، فهم أكثر وضوحاً لخطط الرئيس دونالد ترمب بشأن التعريفات والضرائب والإنفاق والهجرة وغيرها. ومن المؤكد أن احتمالات خفض الضرائب المحلية لدعم النمو التي ستدفع بالطبع التضخم إلى الارتفاع، ستؤيد مساراً أبطأ وأكثر تدريجية لخفض أسعار الفائدة العام المقبل. وهناك توقعات بحصول خفض بمقدار 25 نقطة أساس لكل ربع في عام 2025.

متداول في سوق نيويورك للأوراق المالية يستمع إلى مؤتمر باول الصحافي (رويترز)

أما المصرف المركزي الأوروبي، فيبدو أنه مصمم الآن على المضي قدماً في إعادة أسعار الفائدة إلى المستوى المحايد بأسرع ما يمكن مع ضعف النمو الشديد وتباطؤ ظروف سوق العمل، وسط توقعات بأن يخفض سعر الفائدة الرئيسي إلى نحو 1.5 في المائة بحلول نهاية عام 2025. ومن بين العواقب المترتبة على ذلك أن اليورو من المرجح أن يضعف أكثر، وأن يصل إلى التعادل مقابل الدولار الأميركي العام المقبل.

وعلى النقيض من المصرف المركزي الأوروبي، يتخذ بنك إنجلترا تخفيضات أسعار الفائدة بشكل تدريجي للغاية. ومن المتوقع أن تعمل الموازنة الأخيرة وكل الإنفاق الحكومي الإضافي الذي جاء معها، على تعزيز النمو في عام 2025. وهناك توقعات بأن يقفل العام المقبل عند سعر فائدة بواقع 3.75 في المائة، قبل أن ينخفض ​​إلى أدنى مستوى دوري عند 3.50 في المائة في أوائل عام 2026.

أما بنك الشعب، فسوف يبني العام المقبل على الأسس التي وضعها هذا العام، حيث تشير التوقعات إلى تخفيضات تتراوح بين 20 و30 نقطة أساس في أسعار الفائدة، مع مزيد من التخفيضات إذا جاءت الرسوم الجمركية الأميركية في وقت مبكر أو أعلى مما هو متوقع حالياً، وفق مذكرة للمصرف الأوروبي «آي إن جي». ومن المتوقع على نطاق واسع خفض آخر لمعدل الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في الأشهر المقبلة، حتى إنه يمكن حصول تخفيضات تراكمية بمقدار 100 نقطة أساس في معدل الفائدة قبل نهاية عام 2025.

حرب تجارية على الأبواب؟

وبين هذا وذاك، هناك ترقب كبير للتعريفات الجمركية التي تعهد ترمب بفرضها، والتي يرجح على نطاق واسع أن تلعب مرة أخرى دوراً رئيساً في أجندته السياسية، وهو ما ستكون له انعكاساته بالتأكيد على الاقتصاد العالمي.

سفن حاويات راسية في ميناء أوكلاند (أ.ف.ب)

فترمب هدّد في البداية مثلاً بفرض رسوم جمركية بنسبة 60 في المائة على جميع الواردات الصينية، ورسوم جمركية تتراوح بين 10 في المائة و20 في المائة على الواردات من جميع البلدان الأخرى. ثم توعّد المكسيك وكندا بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25 في المائة على جميع الواردات منهما، إذا لم تحلّا مشكلة المخدرات والمهاجرين على الحدود مع الولايات المتحدة، و10 في المائة رسوماً جمركية على الواردات من الصين (تضاف إلى الرسوم الحالية) بمجرد تنصيبه في 20 يناير. ولاحقاً، توعد مجموعة «بريكس» بفرض تعريفات جمركية تصل إلى 100 في المائة، إذا أقدمت على إنشاء عملة جديدة من شأنها إضعاف الدولار.

ويبدو أن ترمب جاد هذه المرة في فرض التعريفات الجمركية التي يصفها بأنها أجمل كلمة في القاموس، بدليل ترشيحه الرئيس التنفيذي لشركة «كانتور فيتزجيرالد» في وول ستريت، هوارد لوتنيك، لتولي منصب وزير التجارة، والذي قال عنه إنه «سيتولى ملف التجارة والتعريفات».

وينص قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية على قدرة الرئيس على إصدار إجراءات اقتصادية طارئة للتعامل مع «أي تهديد غير عادي واستثنائي، يكون مصدره بالكامل أو جزئياً خارج الولايات المتحدة، للأمن القومي أو السياسة الخارجية أو اقتصاد الولايات المتحدة». وهو ما يطلق يد ترمب في إقرار رسوم جمركية جديدة.

من هنا، قد تشكل الحرب التجارية أكبر خطر يهدد النمو العالمي في عام 2025. ورسم المحللون أوجه تشابه مع ثلاثينات القرن العشرين، عندما أدى فرض التعريفات الجمركية الأميركية إلى رد فعل انتقامي من قبل حكومات أخرى، وأدى إلى انهيار التجارة العالمية الذي أدى بدوره إلى تعميق الكساد الأعظم.

وفي أواخر أكتوبر، تناول صندوق النقد الدولي في تقرير له، التأثيرات المترتبة على النمو والتضخم في حرب تجارية محتملة عام 2025. فوضع التقرير سيناريو حرب تجارية مع افتراض فرض تعريفات جمركية أميركية بنسبة 10 في المائة على جميع الواردات، تقابلها إجراءات انتقامية واسعة النطاق من جانب أوروبا والصين تعادل 10 في المائة تعريفات جمركية على الصادرات الأميركية، وعلى جميع التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي، على أن يتم تنفيذها بحلول منتصف عام 2025.

في هذا السيناريو، يتوقع صندوق النقد الدولي أن تؤدي التعريفات الجمركية إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة -0.1 في المائة في عام 2025، مما يخفض توقعاته الأساسية من 3.2 في المائة إلى 3.1 في المائة.

مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من جهته يحذر من آفاق غير مؤكدة تواجه التجارة العالمية عام 2025، بسبب تهديد الحروب التجارية. ويعدّ أن «آفاق التجارة في عام 2025 مشوبة بتحولات محتملة في السياسة الأميركية، بما في ذلك التعريفات الجمركية الأوسع نطاقاً التي قد تعطل سلاسل القيمة العالمية وتؤثر على الشركاء التجاريين الرئيسين».

وفي استطلاع أجرته «رويترز» مؤخراً مع 50 اقتصادياً، قدّر هؤلاء أن ينخفض معدل النمو الاقتصادي في الصين ​​بمقدار من 0.5 إلى 1.0 نقطة مئوية في عام 2025، حال تم فرض التعريفات الجمركية.

الدين العالمي إلى مستويات قياسية

ولا تقتصر التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي على ما سبق تعداده، فالعالم يواجه اليوم تحدياً غير مسبوق مع تصاعد الديون العالمية إلى 323 تريليون دولار، بحسب بيانات معهد التمويل الدولي، وهو رقم يصعب تخيله أو استيعابه، والمتوقع ارتفاعه أكثر في 2025 إذا نفذ ترمب تعهداته.

لافتة إلكترونية في محطة انتظار الحافلات حول حجم الدين الوطني الحالي للولايات المتحدة (رويترز)

فالتقلبات المتوقعة لسياسات ترمب دفعت بعض الدول إلى إصدار ديون قبل توليه منصبه، عندما قد تصبح الأسواق أقل قابلية للتنبؤ.

وحذر معهد التمويل الدولي من أن التوترات التجارية المزدادة وانقطاعات سلسلة التوريد تهدد النمو الاقتصادي العالمي، مما يزيد من احتمالات حدوث دورات ازدهار وكساد صغيرة في أسواق الديون السيادية مع عودة الضغوط التضخمية وتشديد المالية العامة. وسوف تفاقم زيادة تكلفة الفائدة نتيجة لذلك الضغوط المالية وتجعل إدارة الديون صعبة بشكل مزداد.

وأخيراً لا شك أن التحولات الجيوسياسية تلعب دوراً مهماً في تشكيل الاقتصاد العالمي عام 2025. وهي تفترض مراقبة خاصة ودقيقة ومعمقة لتداعيات التنافس بين الولايات المتحدة والصين، التي قد تزداد وتيرتها حدة لتكون عواقبها الاقتصادية محسوسة على مدى سنوات، وليس أشهراً، بحيث يتردد صداها طوال العام المقبل وما بعده.