فرط حب وألم.. واستياء

«لا أحد يضيع في بيروت» لعناية جابر

جانب من بيروت أثناء الحرب الأهلية - غلاف الكتاب
جانب من بيروت أثناء الحرب الأهلية - غلاف الكتاب
TT

فرط حب وألم.. واستياء

جانب من بيروت أثناء الحرب الأهلية - غلاف الكتاب
جانب من بيروت أثناء الحرب الأهلية - غلاف الكتاب

صدر عن الحركة الثقافية في لبنان أخيرا كتاب «لا أحد يضيع في بيروت» لعناية جابر، الذي يجمع ستة وخمسين مقالاً، أبرزها: بكتف مائلة وعرج خفيف، وأمام البيانو بقدمين حافيتين، وحيث كل كلمة هي حادثة قتل، ولا بد أن تكون بطوليًا لتفكر في عيد الميلاد، وتمارين على قصيدة صغيرة، وغيرها من المقالات التي تتفرد كل منها بمناخها ومناسبتها، ولكن تجمع بينها جميعها عناية جابر، باعتبارها شخصية رئيسية تدور الأحداث والمشاهدات من خلالها.
كانت المؤلفة قد نشرت هذه المقالات في جرائد متفرّقة، في فترات مختلفة من حياتها المهنيّة.
وتبدو عناية جابر في هذه المقالات مثل دالية العنب، تلمز للحُصرم والحلو، وفي كلتا حالتيها تمنح القارئ ذائقة مختلفة. إنها تكتب من فرط حب وألم، وفرط استياء ولا استواء في كتاباتها... مباشرة حد الوجع وعاطفية بوسع بيروت... نسمع الموسيقى حين نقرؤها، وفي الوقت نفسه تضعنا داخل قالب شاهق المدى، يهبط بسهولة دمعة. تستفزنا أحيانا من شدة القسوة حتى نستدل لمواطن الآلم.. ونجدها أحيانا خفيفة الظل، وأحيانا أخرى ذات ثقل فيما تكتبه. ومع ذلك، يمكن تشخيص عناصر مشتركة تميّز أسلوب عناية جابر، وتجعلها لا تشبه سواها، ومن هذه العناصر: الصفات. فهي ماهرة في اختيار صفاتها.. وتبهرنا في انتقائها مفردات غير متوقعة، أو غير مألوفة، كقولها مثلاً: أصل إلى عملي بإفراط. (صفحة 76). فاختيار كلمة «إفراط» هنا يشبع المعنى، فما من كلمة أفضل منها تصف بها وجودها الكثيف في المكان، كما أنها، في مكان آخر، تصف الصباح بقولها: أقلعت الشمس. فاختيار الفعل «أقلع» يعطي الصباح حيوية، ويوحي لنا ببداية يوم نشيط. ونجدها تصف الابتسامات بـ«الرخوة»، لتوحي لنا بأوجاع الناس، وبلادتهم، وحتى استسلامهم. وفي وصفها للكؤوس، تقول: كؤوس المياه المذهولة في بياضها (161). فقد اختارت ثلاث كلمات تحمل كل منها شفافية مطلقة.. جمعت بين شفافية الكأس والمياه والبياض، وكأنها تعمدت بأسلوبها رفع المعنى إلى أقصى حدوده لتدهش القارئ، وتفتح عدة نوافذ لخياله، على الرغم من صلادة الموضوع الذي تعالجه وقسوته.
وفي مكان آخر، تكتب «تهز برأسها، فيتقافز قرطاها كقردين صغيرين» (161)، أو تصف أستاذها في المدرسة بقولها: «نزع معطفه المبلل بالمطر، غير منتبه إلى هيكلي الصغير، وقد تحول إلى قطرة كبيرة، أزرار معطفه التي فككها واحدًا واحدًا، ابتلعتها كلها كأقمار» (صفحة 210). ونلاحظ أيضًا أنها تعتمد نفسًا قصصيًا في سردها للأحداث، فنجد بعض عناصر القصة متوفرة في معظم مقالاتها، مما يمكن إدراجها في خانة «مقالات - قصصية»، إن صح التعبير.
وثانيًا المعنى، فلا يسعنا أن نقرأ عناية جابر دون أن نشير إلى أبرز المواضيع التي تناولتها في كتابها، ومنها الوطن والآخر والحزن والوحدة. فالوطن حاضر أبدًا في داخلها، تحمله معها خارج المستشفى إلى البلدان الأخرى.. تعشق زواريبه ومنارته.. ترتمي بحضنه الطري لتجد راحتها.. تتألم وتختنق لألمه.. فتتماهى به إلى أن يتحدا. فبعد خروجها من المستشفى، راحت تربط بين ما حدث لجسدها وما يحدث للمدينة: «كنت أفكر في مرض المدينة العضال، مدركة الآن إمكانية أنها هي الأخرى تنام غلط.. تتصرف غلط.. المدينة (ورمانة)، ولا أحد يعرف حتى اللحظة سبب تورمها» (ص55).
أما في زيارتها للقاهرة، فقد اصطحبت معها همّ بيروت: «يبدو غريبًا قليلاً أنني اصطحبت معي كل أصوات الانفجارات التي حدثت في بيروت». كما تتألم لوجع المدينة، والمنارة تحديدًا لأنها تمثل كل ما تعرفه عن نفسها: «قصفوا المنارة وأحبها حبًا مؤلمًا، مذلاً، حب سنوات من العذوبة الخطيرة، أحبها بشدة لأنها تمثل كل ما أعرفه عن نفسي» (167).
أما الموضوع الآخر، الذي يحضر بقوة، فهو الحبيب أو الصديق (الصديقة)، الحاضران الغائبان.
يحضر الحبيب كذكرى من الماضي البعيد تمامًا، كأستاذها في المدرسة، أو تتخيله على المنارة، وتهرب منه، والأمر نفسه بالنسبة لصداقاتها. لكنها في أمكنة أخرى من الكتاب، تشعرك أنها ليست بحاجة إلى الآخر، بل تفضل الانزواء: «ليست إلا واحدة من الصديقات الكثيرات اللواتي غادرتهن تباعًا، من اكتشافي المذهل أخيرا عدم حاجتي إلى صديقات» (صفحة 36). ربما لذلك لم يكن لديها مشكلة في حب الأموات، والتعلق بهم. وقد يكون حبهم غير مرهق بالنسبة لها، فهي تستحضره متى شاءت من الذاكرة، وتعيده إليها لتقفل عليه حين تتعب، والأهم أنه لا يحمل ثقل الواقع وتحدياته ومخاوفه: «لمجرد كون إنسان ما ميتًا، فهل بحياة الله ما يمنع من حبه؟» (ص 199). إن أكثر ما يلفتنا في كتابة عناية جابر الحزن المكثف الخانق، الذي يلازم الكاتبة بسبب الحروب، أو ذكريات الطفولة، أو الحبيب، أو الوحدة، أو الحنين إلى الأماكن، أو رغبة الكاتبة نفسها بالحزن.. لا يهم السبب، ولكنها حملت حزنها برفق ومحبة لتخلق لنا حكايات تعيش داخل قرائها.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.